هويدا طه صحافية سابقة في قناة الجزيرة تحكي تجربتها من التعيين إلى الطرد

1798710_10152783169250796_2675293603197426776_nفيما يلي مقال/ شهادة لصحافية مصرية هي هويدا طه فوجئت بفصلها من عملها بالقناة القطرية، بدون سبب، بعد أن قضت بها 19 سنة وهو عمر بث القناة المثيرة للجدل.
… … …
يؤسفنا إبلاغكم بقرار الإدارة إنهاء خدماتكم اعتبارا من تاريخ…”
تلك العبارة هي خلاصة “ورقة التفنيش” التي تسلمتها صبيحة يوم عودتي من إجازتي السنوية منذ بضع أيام.. حيث كنت موظفة بوظيفة “مخرجة وثائقيات” في قناة الجزيرة الأم في الدوحة، يومها أتممت في الجزيرة تسعة عشر عاماً إلا يومين! إذ أنني من ذلك الجيل الجزيراوي الذي يُعرف بصفة: المؤسسين، أي هؤلاء الذين عملوا في الجزيرة منذ أول يوم لانطلاقها عام ستة وتسعين من القرن الماضي.. كانت أيام!
ربما من اللطيف فعلا – وقبل الإدلاء بشهادتي الشخصية والسياسية عن قناة الجزيرة – أن أصف ذلك اليوم اللطيف.. يوم التفنيش! كانت هي المرة الأولى التي أعرف فيها أن هناك “غرفة مخصصة للتفنيش”! والتفنيش كلمة تنتشر في منطقة الخليج لكنها غير متداولة في مصر.. وهي من الفعل الإنجليزي الذي يعني إنهاء، ومعناها في مصر: الفصل أو الرفد من الوظيفة، أي أن الجزيرة.. رفدتني!
صبيحة أول يوم لي بعد عودتي من الإجازة اتصلوا بي من مبنى الشؤون الإدارية مبكراً.. فيما بعد عرفت أن ذلك كان لمنعي من التوجه إلى مقر المحطة.. طلبوني في مبنى الشؤون الإدارية بدعوى تسوية إجازتي، هو مبنى منفصل عن مبنى المحطة، وحين توجهت إليهم وجهني أحد الموظفين بالانتظار في غرفة أشار إليها..
في تلك الغرفة نظرت حولي فوجدت شاشات يبدو أنها لدائرة تليفزيونية مغلقة أو أن الغرفة مجهزة لتسجيل اللقاء.. هذه الغرفة اسميتها فيما بعد مازحة مع الأصدقاء: “غرفة التفنيش”! أدركت طبعاً وعلى الفور أنني استدعيت لأمرٍ فيه تفنيشُ! فقد سبق قبلها بشهر أن بدأت قناة الجزيرة بتفنيش أعداد كبيرة من موظفيها.. لذا لم تكن مفاجأة.. إنما يسعدني حقاً أن هذا اللقاء مسجل لديهم.. فهذا يعني أنني تركت لهم.. ذكرى!
دخل أربعة موظفين ثلاثة منهم من موظفي الأقسام الإدارية القطريين.. على ما يبدو من زيهم الخليجي.. بينما واحد منهم ببذلة وملامحه ربما مصرية أو تونسية ولم أره من قبل، كبيرهم أو رئيسهم السيد عبد العزيز عقيل وهو رئيس قسم الموارد البشرية بالقناة بدأ الكلام بلهجة مهذبة للغاية وتصطنع الأسف اصطناعاً لكن بتهذيب كبير: “كان بودنا نلتقي بك في ظروف أفضل لكن يؤسفنا إبلاغك بقرار الإدارة إنهاء خدماتك”، نظرت إليهم فوجدتهم جميعا يركزون بنظرهم عليّ.. وبلمحة خاطفة نظرت على الشاشات فوجدتني اتوسط اللقاء واواجه الشاشة الرئيسية.. رددت عليه، ومما يسعدني حقا أن هذا اللقاء مسجل لديهم: “عادي جدا! ولا يهمك! الجزيرة مؤسسة كبيرة والمؤسسات الكبيرة يخرج الناس منها ويدخلون، لكن ممكن أعرف السبب؟” رد بأدبه الجم: أبدا هو بس داون سايزنج لأعداد الموظفين، قلت له بشيء من السخرية الخفية.. لكن الداون سايزنج ده بيختار الموظفين اللي تقديرهم امتياز سنة ورا سنة؟! قال بهدوء الحقيقة إن المدير وضع قائمة بمجموعة من الأسماء.. فقاطعته قائلة: آآه المدير! أنا الحقيقة مندهشة أنه ما فنشني منذ جاء! دا راجل متصور بكلاشينكوف ودعشجي عتيد! ودايما كنت اتساءل هو اتأخر ليه! كان عندي قبله مدير قطري قوي هو محمد جاسم العلي وبعده وضاح خنفر وهو حمساوي أصيل.. والاتنين عملولي تحقيق أكثر من مرة بسبب كلمة قلتها أو كتبتها في مقال!.. لكن ما وصلوا إلى مرحلة التفنيش اللي وصل لها مديركم الدعشوج!
الحقيقة أن أحداً من الأربعة معي في غرفة التفنيش لم يعلق على وصفي هذا للمدير! يبدو لاعتبارات التسجيل.. أو كما اكتشفت فيما بعد أنها آلية للتفنيش تعتمدها المؤسسات الكبرى.. أن تحاصر الموظف الذي تنهى خدماته وتلقي في وجهه بما يظنونه قنبلة التفنيش.. ثم تدع له بضع دقائق يعبر فيها عن غضبه أو احتجاجه أو أو.. دون مناقشته، لذلك تركوني أقول لهم ما قلت دون تعليق، كانوا صامتين تماما.. فأحببت أن أنهي المسألة فقلت لهم: “عموماً أنا اشتغلت هنا تسعة عشر سنة ولي هنا من الذكريات ما يلزمني أخلاقياً ألا أقول كلمة مسيئة للجزيرة بعد خروجي من هذا الباب.. اوعدكم.. مش رايحة أقول كلمة عن تفاصيل الدعشجة المستشرية في هذا المكان”!
ورغم لهجة السخرية في كلامي التزم الرجال الأربعة المهذبون بهدوء يبدو أنهم دُربوا عليه! ثم قال السيد عبد العزيز بأدبه الجم: نتمنى لك التوفيق في فرصة أخرى، ثم أشار إلى آخر من الصامتين الثلاثة الأخرين قائلاً: وهو حيساعدك في إنهاء الإجراءات والحصول على كافة مستحقاتك… قلت له وعيني على الشاشة التليفزيونية التي تواجهني.. ولا يهمك! زي ما وعدت.. مش حاتكلم عن تفاصيل الدعشجة المستشرية هنا! لم يعلق مطلقاً! لكنه نهض قائما فتبعه الآخرون وخرجوا من الغرفة، وبسبب رضائي عما قلت كافأت نفسي فيما بعد بصورة سيلفي في.. غرفة التفنيش!
نأتي الآن إلى شهادتي الشخصية والسياسية عن قناة الجزيرة، لكن قبلها.. هذا تذكير أراه ضروريا لكل من يهتم بمقارنة قناة الجزيرة مع غيرها من الفضائيات، أذكركم فقط بأن الفضائيات المصرية، جمعاء، حكومية وخاصة، لا تسمح لموظف لديها بأن يكون ذا توجه سياسي أو فكري أو عقائدي مخالف لتوجهها، استعرضوا الأمر كما شئتم وهاتوا ما تحبون من أمثلة.. لم ولا – وغالباً لن- تتحمل أي فضائية مصرية وجود موظف بداخلها ينتقدها طوال الوقت.. أو يكتب وينشر ويدلي بآراء مناقضة بل مناهضة طوال الوقت لتوجهات القناة التي يعمل بها.. هذا فقط مجرد تذكير كي أقول لكم إن الجزيرة فعلتها معي! تسعة عشر عاما أعمل في تلك القناة والجميع من رئيس مجلس إدارتها حمد بن تامر، ذلك الرجل هادئ الطباع الخلوق الودود، إلى حراس الأمن على البوابة، جميعهم.. يعرفون بأنني صاحبة آراء مخالفة لتوجهات الجزيرة وأنني تحديدا: تلك الكاتبة التي لا تكره الإخوان فقط إنما.. تحتقرهم!
عام ستة وتسعين التحقت بالجزيرة وكانت لم تنطلق بعد إنما كانت في طور البث التجريبي، كنت شابة وكل خبرتي العملية هي: حاصلة على بكالريوس هندسة قسم اتصالات وعملت مُدرسة حاسب آلي لمدة أربعة أعوام! هذا كل شيء! في البدء عملت موظفة في الأقسام الفنية وتعلمت المونتاج وغيره من فنون الإخراج والإعداد.. ثم حصلت بعد كفاح على فرصة إخراج الوثائقيات التي كنت أحلم بها، وهنا شهادة لابد منها وهي واجب عليّ وحق للجزيرة.. أخرجت منذ عام ألفين وستة حوالي أربعين فيلماً وثائقياً للجزيرة.. أشهد أن أحدا من الإدارة لم يتدخل مطلقاً في توجه أفلامي، إلا مرة واحدة سأحكي لكم عنها لكنها كانت الوحيدة، جميع أفلامي أخرجتها كما رأيتها أنا ولم يتم إملاء أي تعليمات عليّ بشأنها من أي نوع، رغم علم الجميع بتوجهاتي الفكرية والسياسية، أما تلك المرة الوحيدة فكانت فيلماً وثائقياً اسمه “دولة رجال الأعمال”، وهو موجود على اليوتيوب، وكنت اتناول فيه عملية النهب المنظم التي مارسها رجال الأعمال في عهد مبارك ضد خيرات مصر، وبما يسمح به وقت الفيلم عرضت بعضاً من تلك الممارسات لرجال أعمال مصريين.. مثل أحمد عز وهشام طلعت مصطفى وغيرهم وكذلك رجال أعمال كويتيين وسعوديين.. بعض الذين باع لهم عاطف عبيد خيرات مصر، عاطف عبيد رئيس الوزراء الذي لا اعتقد أن الله سوف يرحمه في قبره وفي مبعثه بما فعله في المصريين، وكان من بين من عرضت لنهبهم المنظم لمصر بتواطؤ من عاطف عبيد هو رجل الأعمال السعودي الوليد بن طلال، كنت حصلت على نسخة من عقد شرائه – أو قل سرقته – لأرض توشكى.. العقد مثير للغضب إلى درجة لا تتصوروها، نشرت بعض بنوده في الفيلم وكذلك جزءاً من المؤتمر الصحفي للوليد بن طلال بعد ثورة يناير.. وهو يتنازل عن أو يرد للدولة بتأثير الثورة ثلاثة أرباع الأرض التي سرقها من المصريين، جهزت الفيلم وسلمته لقسم البث ثم سافرت إلى سيناء للإعداد لفيلم آخر اسمه “سيناء، الحدود والانتماء”، وأثناء تواجدي في فندق في العريش كنت أتابع القناة انتظاراً لبث فيلمي.. إذ يحب مخرجو الوثائقيات مشاهدة أفلامهم على الشاشة بقدر من الذاتية كبير.. فوجئت بالفيلم يبث وقد قُصت منه الدقائق الثلاث عن الوليد بن طلال ونهب أرض توشكى! غضبت طبعاً وبعد الاتصال عرفت أن رئيس مجلس الإدارة حمد بن تامر هو من أمر بقص هذا الجزء من الفيلم قبل بثه! لم يتخذ أي إجراء ضدي ولو حتى كلمة لوم أو خطاب تحذير أو أو، فقط أمر بقصها وبث الفيلم! وكان هذا أقصى ما حدث معي طوال تسعة عشر عاماً بخصوص عملي.. ظللت أعمل وأكتب مقالات في مختلف الجرائد وأخرج وثائقيات لا تذعن لتوجه القناة التي تمولها! ومع ذلك يتم بثها! في أي مكان يحدث هذا؟! نعم.. لم تتدخل الجزيرة – باستثناء تلك الحادثة – في توجه أفلامي ومنها على سبيل المثال سلسلة (اليساريون) وهي ثلاثة أجزاء وكان واضحاً بها أن مخرجتها لديها هوىً يساري! وكذلك فيلم “حضرة الضابط، الوجه الآخر للثورة المصرية”، وغيرها من الأفلام، حقيقة أقولها بضمير مرتاح.. هامش حرية العمل والانتماء “كان” في الجزيرة متاحا.. نعم “كان”! وليس الآن! لكنني استفدت منه على المستوى الشخصي.. واستفاد منه آخرون مثلي، إنما كان ذلك قبل أن تقرر تلك القناة المتميزة للأسف أن الوقت حان لممارسة.. اللعب ع المكشوف!
على المستوى الشخصي أتحدث هنا عن تسعة عشر عاما كانت هي أصلا سنوات شبابي.. وفي الجزيرة تعرفت على أناس رائعين.. وأناس كذلك غير رائعين! الجزيرة يمكن اعتبارها بقعة مكانية يوجد فيها ممثل لكل دولة عربية.. وكذلك لكل جهاز مخابرات عربي! مثلا.. أخرجت فيلمي: “وراء الشمس” عام ألفين وسبعة وكان عن التعذيب في أقسام الشرطة المصرية.. والحقيقة أنني لابد أن أذكر أنني عانيت في إقناع مديري بهذا الفيلم، وكان رده الدائم وقتها “مش عايزين مشاكل مع السلطات المصرية”، كنت متحمسة جداً وظللت أكافح لمدة عام ونصف حتى حصلت على موافقة مشروطة “بألا أحرج الجزيرة مع السلطات المصرية”، وكان أن بدأت التصوير وانتهيت منه.. ثم وعند العودة للدوحة تم القبض عليّ في مطار القاهرة ومصادرة النسخة التي كنت اصطحبها من الشرائط.. وأحرجت الجزيرة! وبعدها كانت هناك قضية أمن دولة وحُكم عليّ فيها بالسجن ستة أشهر وغرامة مالية دفعتها الجزيرة، ثم في الاستئناف تم إلغاء حكم السجن، إنما وقتها عملت طبعاً آلة الإعلام المصري الرخيص بهمة وحماس رخيص ومبتذل كالعادة.. فنشرت مجلة روز اليوسف وقتها مقالاً عن: الجاسوسة التي تعمل في قناة الجزيرة وتسيء إلى مصر! الملفت في هذا المقال حقاً كان أن ناشره كتب تفاصيل يومية وشخصية من داخل قناة الجزيرة لا يمكن أن يعرفها إلا شخص يعايشنا يومياً داخل القناة ساعة بساعة بل لحظة بلحظة ونَفَس بَنَفس.. أي من موظفيها! أي أن جهاز أمن الدولة المصري كان له أتباعه داخل غرفة الأخبار! واعتقد مازال! وبالطبع الأجهزة المخابراتية الأخرى السورية والجزائرية وغيرها.. بل وحتى القطرية!
غرفة أخبار الجزيرة في الحقيقة هي مكان ثري للغاية.. به ممثلون لكل الحياة العربية.. وكل الأنظمة العربية.. وكل الثقافات العربية المتناقضة والمتخلفة! وبه كذلك نماذج – قليلة لكن موجودة – تمثل القطاع النادر في عالمنا العربي الذي يمكن وصفه بأنه القطاع المتمرد الواعي! لكنه قطاع صغير في الجزيرة ومتوارٍ وهامشي.. إنما موجود! ومن الجدير بالذكر أنه مازال موجوداً.. حتى مع هامشيته في ظل مدير دعشوج! اختاره ممولو القناة – ليس لمهارات قيادية فالمسكين لا يملكها وهو يعرف ذلك – خاصة بالمقارنة مع من سبقوه وكانوا مديرين لديهم مواهب قيادية – إنما اختاروه لدعشجة هو بها مشهور وهم لها مريدون! العالم العربي كله بتناقضه وتخلفه وعنصريته وغبائه وذكوريته وتواطؤه موجود هنا.. فأن يسعدني الحظ فأعمل لمدة تسعة عشر عاما في مكانٍ كهذا فذلك معناه أنني بالفعل استفدت من قناة الجزيرة كثيرا.. صار لدي مخزون عظيم حقاً من صور الشخصيات المتناقضة! مما يذكرني بعنوان كتاب للكاتب المرحوم محمد زكي عبد القادر: “أشتاتٌ من الناس”! إلى جانب التجربة الإنسانية والمعرفة ببعض تفاصيل الثقافات العربية الأخرى غير المصرية.. فما كان ممكناً لي أن أسمع وأناقش موريتانياً أو صومالياً أو عُمانياً مثلاً ما لم أكن هنا.. كان عملي في هذا المكان هدية قدرية عظيمة.. هل تعلمون أن كل شخصية عرفتها في الجزيرة هي موضوع ثري لرواية؟! كان المرحوم الدكتور يوسف نور عوض يعمل مدققاً لغوياً في غرفة الأخبار.. كان صديقي وكنت أمر عليه يومياً وأجلس بجوار كرسيه المتحرك لبضع دقائق نتحدث قبل التوجه إلى مكتبي.. كان رجلاً علمانياً وليبرالياً وذا هوىً غربي.. كان دائما يقول لي رحمة الله عليه: الذكر العربي متخلف بطبعه ويكره كراهية شديدة الأنثى ذات العقل الكبير.. فانتبهي لنفسك! وكنت أمازحه: أفهم من كده إنك شايفني أنثى عقلها كبير؟! فكان يضحك ويقول لي أنا متأكد إنك سوسة وعمالة تخزنيهم في راسك.. متأكد إنك حتكتبي ذات يوم رواية عن الشخصيات المشوهة اللي هنا.. متأكد! الله يرحمه.. كان يستشعر أنني أقوم يومياً بعملية تخزين لصور وملامح الشخصيات ال.. الجزيراوية!
بصفة عامة.. عملت بحماس شديد في قناة الجزيرة كل تلك الأعوام.. أفدتها طبعاً بما عُرف عني من تفانٍ في العمل.. لكنني كذلك استفدت منها، ليس فقط خبرة واكتساب المهارات والتعرف إلى الناس الرائعين وتعلم الدروس من هؤلاء غير الرائعين.. إنما أيضاً كان أجري فيها عوناً لزوجي ساعدنا على تعليم أبنائنا تعليماً متميزاً مكنهم من الحصول على درجات علمية ووظائف متميزة.. لذلك لست آسفة ولا نادمة على عملي في قناة الجزيرة بل إنني فخورة أنني عملت في “الجزيرة الأولى”.. تلك التي كانت الدعشجة فيها مستترة! الجزيرة التي صرنا كمصريين نكرهها الآن كانت في بدايتها والله قناة عظيمة! ولم تكن الدعشجة فيها بتلك المباشرة الفجة! ونعم كان لي فيها مساحة للتناقض معها إيديولوجياً.. دون تهديد وظيفي.. نعم كانت الجزيرة هي الأفضل.. ما حدث هو أن دعشجة كانت مستترة صارت مباشرة وفجة وكريهة! وصار الدواعش في مواقع القرار فيها يعاقبون موظفيها الأغيار! لكن أيضا كان أن عاقبها المصريون – وهم القطاع الأكبر من بين مشاهديها العرب – بمقاطعتها وإهمالها.. وبعد أن كنت منذ سنوات لا أمر على مقهى في القاهرة أو في الصعيد إلا وقناة الجزيرة على شاشات التليفزيونات فيها.. صار تقريباً من المستحيل أن ترى تليفزيوناً مصرياً يفتح تلك القناة! تقريباً لم يعد يشاهدها من المصريين سوى أتباع عصابات الإخوان وباقي العصابات الإسلامجية.. تلك الفئات الضالة التي تتوارى الآن من الشعب في الشوارع والطرقات والأزقة المصرية.. هرباً من ضرب النعال! إنما.. التزاماً بوعدي الذي قطعته على نفسي في غرفة التفنيش.. لن أقول كلمة عن “تفاصيل” الدعشجة المستشرية في الجزيرة!
قناة الجزيرة.. صحيح رفدتني.. فيما يوصف بأنه تفنيش سياسي.. لكنني لا أحمل لهذا المكان البديع أي ضغينة.. بل منذ يوم التفنيش أتذكر وأنا ابتسم قصيدة إبراهيم ناجي:
هذه الكعبة كنا طائفيها.. والمصلين صباحاً ومساء
كم سجدنا وعبدنا الحُسن فيها.. فكيف بالله صرنا غرباء!
أتذكر هذين البيتين وابتسم.. إذ أنني اتفهم “التفنيش السياسي” الذي جاء قبل موعدٍ للاستقالة كنت أخطط له ليكون بعد بضعة أشهر.. اتفهمه لأن الجزيرة الحالية ومع هذه الإدارة ليس من العدل حقاً أن يطالبها أحد بالإبقاء على موظفة ” كانت من شعب 30 يونيو وحشود تفويض الجيش بحماية مصر من الدواعش”! هذا على كل حال فوق طاقتها! لكن يحزنني أن ذلك المكان صار بهذه الفجاجة في دعشجته! كان ممولو الجزيرة أكثر ذكاءً سابقاً.. حين كانوا يبذلون الجهد للتستر.. واعتقد يخونهم ذكاؤهم الآن.. إذ نسيوا حكمة “إذا بليتم فاستتروا”! وصاروا لا يكترثون إن لاحظ الآخرون تعبيرهم عن دعشجتهم بتلك الفجاجة! لكنني لا أشعر بالخجل أن أقولها إنني أحببت تلك القناة وارتبطت بها عاطفياً.. مكاناً وبشراً وخبرة مهنية.. وأغراني التناقض الثقافي الشديد فيها بتحويل ذاكرتي إلى صندوق إدخار.. ادخرت فيه كل ما التقطتته عيناي وعقلي من تحليل الشخصيات الواعية منها والمشوهة.. الرائعة منها وتلك التي اسميها تلطفاً.. غير الرائعة! المتمردة والمحافظة! التقدمي وكذلك الذكوري والمدعِ ومن يعاني ازدواجية ثقافية مقرفة! لديّ ثروة في صندوقي!
قناة الجزيرة اختلفت معها سياسياً وفكرياً كل تلك السنوات.. الآن حان وقت تغيير المكان والخبرة المهنية.. ورغم بدء الدخول في خريف العمر.. إلا أنني.. أزعم أنني أملك نفس الحماس الذي بدأت به العمل في الجزيرة منذ نحو عشرين عاماً.. وبه سأبدأ العمل في تنسيق حديقة منزلي! ثم أدخل إلى مكتبي لأبدأ كتابة رواياتي.. قلت لكم إن لدي مخزوناً عظيماً! وقال لي صديقي الدكتور يوسف نور عوض الله يرحمه: عارفك ياهدهد.. ذات يوم.. ستكتبيهم!
بعد تسعة عشر عاماً لا يهم إن تركتك أنا أو أخرجتني أنت، في كل الأحوال.. قناة الجزيرة.. وداعاً عزيزتي!
هويدا طه
[email protected]

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق