بدعة أدبية حميدة بقلم حسن الباعقيلي

استوقفتني أمس سيدة فاضلة في الشارع العام. نظرت إليها فإذا ملامحها تبدو قريبة بعيدة. إذ لم تكن مألوفة عندي إلف الذين أعرفهم وأعتاد التواصل معهم. وإن كان الراجح عندي حينها أنني أعرفها معرفة ما.

لم تتركني السيدة الفاضلة لحيرتي طويلا، فسرعان ما تفضلت وأخبرتني بالسبب الذي من أجله أوقفتني. ذكرت أول ما ذكرت حصولها على نسخةٍ من روايتي الأخيرة “الغصن المقوس،” في مجلس أدبي خصصه المنظمون لتقديمها وتوقيعها. غير أن سببا طارئا عجل بمغادرتها الجلسة دون أن تتمكن من توقيعها. فتساءلت إن كان بالإمكان استدراك ما أفسده الطارئ. ثم ثنّت بإعجابها بالأدب وبمجالسه وحسرتها على ندرتها في أيامنا هاته رغم الحاجة الماسة إليها لعظم فوائدها وآثارها.
ولم تضف السيدة الفاضلة على هذين الأمرين ثالثا. فقد كان كلامها غُفلا عن أي استطراد ينعت به قراء الأدب القصصي، وخاليا من أي ثرثرة تتهم بها المرأة عادة. فقد مضى هذا اللقاء العارض سريعا، فانطلقت السيدة الفاضلة إلى شأنها، ومضيتُ أنا أستأنف طريقي أسائل نفسي وتسألني. تسألني عن مجالس الأدب، أغائبة هي في أيامنا هاته أم حاضرة؟ وهل يعني غيابها غياب الأدب نفسه والزهد فيه وفي أهله؟ وما حجم الرقعة التي يحتلها الأدب في حياتنا راهنا؟ ولماذا انحسر هذا الانحسار المنكر؟ أو ليست مجالسه تربة صالحة ينشأ فيها المتأدبون أدباء أشداء؟ ويأخذ فيها غير الأدباء حصتهم وزادهم من الأدب نابضا حيا رقراقا؟ وماذا يحدث حين ينحسر الأدب وتتقلص رقعة امتداده بين الناس قراءة وتذوقا وتداولا وانتاجا وشهودا لمجالسه؟ وأي نوع من الأسقام يمكن أن تتهددهم إن هم أحجموا عن الأدب وتوقفوا عن ارتياد منابعه؟ وهل للفقر في الأدب أعراض كالتي لفقر الغذاء من عناصره الرئيسة؟
ذكر أنيس منصور في مقدمة كتابه “في مجلس العقاد. كانت لنا أيام” أنه عند ما انتقل من المنصورة إلى القاهرة للدراسة، انتقل إلى جامعتين في وقت واحد. جامعة القاهرة وجامعة العقاد. وأفرد الحديث عن جامعة العقاد يصفها بكونها كانت “أقرب وأعمق وأعظم”
ولم تكن جامعة العقاد هذه، والتي فضلها أنيس منصور عن جامعة القاهرة، ووصفها بالقريبة والعميقة والعظيمة، غير صالونه الثقافي الذي كان يعقده كل يوم جمعة في بيته. والذي كان يحج إليه جمع غفير من الأدباء والكتاب والفنانين والمفكرين. يتحلقون فيه حول مائدة الفكر والفن والادب لساعتين أو يزيد. فيتفرقون وقد ارتووا أدبا وفكرا، وغنموا علما وثقافة.
وكما كان للعقاد مجلسه، بل جامعته، كان لمحمود شاكر مجلسه وكان لمي زيادة مجلسها كما كان لكثير من الأدباء مجالسهم الأدبية والفكرية. وقد لا تبعد جميعها عن إطار الميزات التي وسم بها أنيس منصور جامعة العقاد. وقديما كان للأمراء مجالس للأدب والعلم والفكر. يستجلبون إليها خيرة العقول، وأجود القرائح، وأبلغ الفصحاء. ويملأ أكثر ما كان يجري فيها من مطارحات أدبية وسجالات شعرية بطون الكتب العامرة شعرا وأخبارا وحكما وقصصا ونوادر وفوائد جمة في الأدب واللغة والتاريخ والفلسفة والفكر والأيام.
وإذا ذهبنا نتتبع دور هذه المجالس الأدبية في حركة الأدب داخل المجتمع وبعث الحياة في مفاصله والاشعاع في شتى مناحيه. وكذا الآثار التي كانت تتركها في مرتاديها، خاصة ناشئة الأدب والفكر منهم، لما وسعنا حيز هذه الكلمات. غير أنني سأكتفي بإيراد شهادة لواحد من أولئك المحظوظين، الذين قدر لهم أن ينهلوا من تلك المجالس الجامعة. هو الأستاذ الدكتور كمال عبد الباقي لاشين. حين نستمع إليه يحدثنا عن جلسته الأولى في مجلس محمود شاكر إذ يقول: “رجعنا يومها أنا ورجب بوجه غير الوجه الذي ذهبنا به، لقينا الشيخ بعزم، وعدنا من عنده بعزم غير الذي لقيناه به. ولست أغلو إذا قلت: إنا خلقنا بلقاء الشيخ في ذلك اليوم خلقا جديدا. رجعنا إلى البيت الذي كنا نسكنه معا طربين. طرب الطير في البكور، نشوانين من غير سكر، نحدث من لقينا من أترابنا بأنا لقينا الشيخ. ونقول.. قال لنا الشيخ وقلنا للشيخ. كان ذلك اللقاء من جميل صنع الله بنا. وفيه سر لم أتبين كنهه إلى الآن.”
ولم يثمر هذا اللقاء بشيخ العربية محمود محمد شاكر، واللقاءات التي جاءت من بعده، في مجلسه عند هذين الطالبين الجامعيين طربا وهِزة فقط، إنما كانت له نتائج وثمار وأعمال. فقد أهداهم محمود شاكر ثلاثة من كتبه، هي “طبقات فحول الشعراء” و”المتنبي” وأباطيل وأسمار”. عكفوا على قراءتها من ليلتهم تلك. وهم الذين لم يكونوا يقرؤون إلا وريقاتٍ يلقيها لهم أساتذتهم، وفصول من كتب يتهيؤون بها للاختبار والامتحان. ولعمري ما الأثر، بل ما الغنيمة التي حصدها كمال عبد الباقي ورفيقه رجب من تلك القراءة ومن جلسات ذاك المجلس وهم بعدُ في طور التحصيل والبناء!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق