سْطُــــوبْ…. إفنـــي مَنْكــــُوبْ

بوشطارت

تسير مطمئنا ومستمتعا بصور ومناظر خلابة متسارعة تلتهمها الطريق، من جهة الشمال الغربي على الساحل قادما من عاصمة أزغار، مدينة تيزنيت. قبل العبور إلى إقليم سيدي افني على الخط الفاصل بين الإقليمين، على وادي “كْرايزِيمْ” (إيكْرْ إيزْمْ” حقل السبع)، تبدو أمامك بشكل مفاجئ علامة المنع الحمراء جاثمة وسط الطريق، بجانبها علامة صفراء مكتوب عليها عبارة ” طريق منحرف”.  توقف، منع، ثم إجبار، تنصاع لهما ببطئ وخضوع، تحس باهتزاز داخل السيارة كأنها تزحف على بطنها أو مجرورة بأسلاك حديدية. إنها صورة بوابة  إقليم سيدي افني، عنوانها دمار وخراب…

تصل إلى مدخل المدينة بعد 30 كيلومترا من المسير، تبدو المدينة من فوق هضبة “كولومينا”،  كصخرة بيضاء معلقة في السماء، لا طريق إليها ولا معبر، تدنو منها نازلا إلى الوادي وتظهر أحجار مكدسة، وأطلال الخراب، وحصى وأزبال، وأشياء أخرى كثيرة ومتراكمة، بجانبها علامات التشوير الطرقي مشتتة ومتناثرة. المنع ثم الإخبار بالإجبار، لمواصلة السير يسارا على طريق أخرى، بجانب حائط الملعب، المنفذ الواحد، الوحيد إلى المدينة. إنها قنطرة صغيرة من مخلفات الدولة الاسبانية في افني سنة 1969. ولابد من تسجيلها في الموسوعات العالمية كأصغر قنطرة أنقذت سكان مدينة من الموت والفناء والدمار في عز الحصار. هذا من جهة الشمال.

أما من جهة الجنوب، أي طريق أكلميم، فتوجد 5 قناطر من افني إلى النقطة الكولومترية رقم 10 بمنطقة “تِيطْ نْ تْرَامْتْ” “عين الناقة”، وتقع كلها على الوادي الكبير الذي يصب في بحيرة افني بجانب من الوالي الصالح “سيدي علي”، وهو المعروف ب”أسيف أوندر”. كل هذه القناطر زلزلت زلزالا، ودكت مع الأحجار دكا في زمهرير الفيضانات التي عرفتها المنطقة… وقع عليها “بريكولاج” خفيف وسريع لإعادة السير والجولان. ومن ثمة، طوي ملف إصلاح هذه القناطر وإعادة تشييدها بمقاييس ومعايير جديدة، -تُرك- أمام مصير مجهول، مما جعل  الناس يواجهون صعوبة الولوج إلى المدينة بشقة الأنفس. مع مرور الوقت دخل كل شيئ ضمن المألوف، وقبل الجميع بالأمر الواقع.

وهي قناطر أصبحت بمثابة ممرات الموت نتيجة الخطر الذي تشكله لمستعملي الطريق. خاصة؛ وأن جلها تنعدم فيها علامات التشوير، حيث يكتفي السكان تطوعا بوضع ركامات الأحجار على جنبات الطريق وتجييرها بالأبيض، “تِيكْرْكَارْ تُومْليلينْ” التي تحل محل علامات التشوير لتنبيه الناس عن مخاطر ومنعرجات فوق قناطر منكسرة مهزوزة… مبنية على أنقاض وغبار.

أما مدخل المدينة بجانب الوادي إلى حيث  المصب في البحر، فلا توجد كلمات لوصف حجم دماره وخرابه، كما لا توجد أوصاف في اللغة والبلاغة لوصف طريقة تعامل الجهات المسؤولة مع هذه الكارثة بالرغم من مرور ما يزيد عن ستة أشهر عن الفيضانات، وهي مدة تكفي لإجراء اجتماعات وانجاز الدراسات وتوقيع الصفقات وتنفيذ الأشغال، لأنها في نظري تدخل في إطار مشروع مستعجل. إن توفرت الإرادة السياسية طبعا.

إنه من المؤسف جدا؛ أن تبقى مدينة إيفني وساكنة آيت باعمران، تنتظر كل هذه المدة لإصلاح قناطر استراتيجية ومهمة في حياة السكان، وإصلاح مدخل المدينة الذي لا يليق حتى لحوافر الدواب، سيما وأن المنطقة مقبلة على فصل الصيف الذي تنتعش فيه المنطقة اقتصاديا وتجاريا وسياحيا….

إذا كانت كارثة الانتفاضات قد تسببت في فتح نقاشات وطنية كبيرة، أفضت إلى اقتراح مشاريع إستراتيجية ومهمة لمناطق الجنوب، كمشروع طريق السيار أكادير- أكلميم، فإن مدينة افني وايت باعمران، زادت الفيضانات من حدة أزماتهم مع العزلة والتهميش والنسيان، حتى تلك الوصفات والمشاريع الصغيرة التي كان الحديث عنها إبان وقوع كارثة السيول في افني، فإن بطئها وتأخرها وبرودة التعاطي معها، يطرح العديد من الأسئلة حول جديتها ومصداقيتها. وفي الوقت الذي كان من المتوقع أن ترفع تلك الفيضانات من منسوب اهتمام الدولة أكثر بايت باعمران، حدث العكس للأسف الشديد….

إن أكبر مشكل تعاني منه المنطقة اليوم، هو البطالة وانحباس الأفق الاجتماعي والاقتصادي،،، فكيف يعقل أن منطقة عرفت ما عرفته من حراك قبل 10 سنوات، وما تزخر به من محفزات ومؤهلات، ولا مشروع استثماري مهم وحيد يخفف من حدة البطالة ويخلق أنشطة اجتماعية موازية، ولا حتى مؤشرات ذلك في المستقبل. مناطق آيت باعمران تشكل أكثر مناطق الجنوب المهمش تصديرا لأفواج بشرية  هائلة من الشباب للهجرة إلى مختلف المدن في اتجاه الصحراء والشمال والخارج من أجل التشغيل، إنها منطقة الطرد بامتياز. لسبب بسيط هو فقدان الأمل. إلى متى ؟

نسأل عن واقع السياحة ونسمع أنين أزمة خانقة، ننتقل إلى الصيد البحري وحال ميناء لا يشبه أحوال باقي موانئ المغرب، فنستمع من أفواه البحارة والمهنيين عجب العجاب في تردي الأوضاع وحجم الفساد والنهب…. التجارة والرواج اليومي والخدمات الاجتماعية الأخرى، فلا تسأل أحدا فالكساد ظاهر وراسخ، أصبح قاعدة بذل الاستثناء…. في البوادي والمداشر، فلا شيئ تغير، البؤس والركود والجمود لا يليق معهم  إلا الصبر وانتظار “تاكنريت” التي ستخفف من الآلام في مستقبل الأيام.

قد يكون هذا الكلام عن افني وآيت باعمران، كلاما مألوفا، وخطابا نمطيا قيل آلاف المرات، ولكن من لم يزر مدينة افني ويتجول في بوادييها مؤخرا، لن يكتشف شدة الأزمة والانتظار والإحباط، والغموض الذي يترقبه الجميع…

غموضٌ يفهم خطأً بالسكون والنكوص وربما بالخوف….

بقلم عبد الله بوشطارت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق