فضائل يوم عرفة وأسرار العبادة فيه

تمتاز حياة المسلم بأنها زاخرة بالأعمال الصالحة والعبادات المشروعة التي تجعل المسلم في عبادة مستمرة، وتحول حياته كلها إلى قول حسن، وعمل صالح، وسعي دؤوب إلى الله جل في علاه دونما كلل أو فتور أو ملل.

استغلال مواسم الخيرات سبب البركات:

من هنا فإن في حياة المسلم مواسما سنوية يجب عليه أن يحرص على اغتنامها والاستزادة فيها من الخير والمحافظة على الأعمال والأقوال الصالحة التي تقربه من الله تعالى وتعينه على مواجهة ظروف الحياة بنفس طيبة وعزيمة صادقة.

وفيما يلي حديث عن فضل أحد مواسم الخير المتجدد في حياة الإنسان المسلم، والمتمثل في الأيام العشرة الأولى من شهر ذي الحجة الحرام وما لها من الفضل والخصائص.

وكلما هل هلال شهر ذي الحجة، إلا وتذكر المسلمون اليوم التاسع منه، فهو يوم مبارك عظيم، يوم تجاب فيه الدعوات، وتغفر فيه الزلات والسيئات، وتقال فيه العثرات، أتدرون يا ترى من هو ذلك اليوم ؟ إنه يوم عرفة، وما أدراك ما يوم عرفة.

سر تسميته بعرفات:

 اختلف أهل العلم في سبب التسمية بعرفة، ولهم في ذلك أقوال، أحدها: أن آدم وحواء عليهما السلام افترقا بعد هبوطهما إلى الأرض، ثم اجتمعا في هذا اليوم بعرفات وتعارفا فسمي به.

الثاني: أن جبريل عليه السلام كان يري إبراهيم الخليل عليه السلام مناسك الحج ويقول له: أعرفت ؟ فيقول:عرفت.

الثالث: أن إبراهيم عليه السلام عرف فيه أن رؤياه حق، فقد رأى في منامه ليلة التروية أنه يذبح ابنه فروى -اي نظر وتفكر- في يوم التروية هل رؤياه من الله تعالى أم من الشيطان ؟ ثم تكررت له الرؤيا ليلة عرفة، فلما أصبح عرف أنها من الله تعالى فسمي اليوم بعرفة.

وسمي جبل عرفات بهذا الإسم نسبة لأرض عرفة التي يقف فيها الحجاج. ويطلق على الجبل الكثير من الأسماء، وأكثر هذه الأسماء لاأصل لها، ومنها جبل إلال، وهذا اسم موجود في كثير من الكتب التاريخية. وجبل الرحمة وذلك لأن الله تعالى ينزل رحمته على الحجاج في هذا الموقف العظيم. 

هل الأيام تتفاضل في الأجر وتتفاوت حسب بركتها ؟

أجرى الله تعالى سنة التفضيل، ففضل بعض الأيام على بعض، والأيام الفاضلة هي مواسم لنفحات الله يتفضل فيها على عباده فيغفر الذنوب ويرفع الدرجات. ومن تلك الأيام الفاضلة يوم عرفة فقيل: إن يوم عرفة أفضل الأيام، كما صح عن جابر رضي الله عنه مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من يوم افضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا ضاحين جاءو من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي فلم ير يوما أكثر عتقا من النار من يوم عرفة..” (رواه ابن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي ).

وقيل هو يوم الجمعة، روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة إلا وهي تفزع يوم الجمعة إلا هذين الثقلين الإنس والجن (أخرجه ابن حبان واللفظ له وأبو داود والنسائي).

وقد وفق العلماء بين الحديثين بأن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة أفضل أيام العام. ثم ينبغي لغير الحاج أن يصوم يوم عرفة لما فيه من أجر كثير وثواب عظيم. فقد روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده”.

والحديث يدل بظاهره على أن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين. ويستحب الإكثار من الأعمال الصالحة من صلاة نفل وصيام وصدقة وذكر وغيرها في أيام عشر ذي الحجة الحرام عموما وفي يوم عرفة على وجه الخصوص.

هل صوم عرفة متعلق بالزمان أو المكان ؟

السؤال المطروح المتداول بين الناس اليوم في قضية إشكال صوم يوم عرفة مع اختلاف المطالع مفاده: هل هو مرتبط بالزمان أو المكان ؟ أعني: أن صيام يوم عرفة هل هو يوم وقوف ضيوف الرحمن في جبل عرفة ؟ أو اليوم التاسع من ذي الحجه بحسب رؤية الهلال لكل بلد ؟

هذا الإشكال مبني على القول بالأخذ باختلاف المطالع في رؤية الهلال وهو مذهب الشافعية، أما المالكية فلا إشكال عندهم في المسألة، لأنهم يقولون بوجوب توحيد رؤية الهلال، وفي مكان ثبتت فيه الرؤية يجب على الجميع الأخذ به، ولهذا لا نجد في كتب الفقه المالكي الجواب عن هذا الإشكال وأمثاله المبني على الأخذ باختلاف المطالع.

والخروج من هذا الإشكال يكون بربط صيام يوم عرفة بالزمان وهو اليوم التاسع بحسب كل بلد لا بالمكان، وهو يوم اجتماع الناس في عرفة، لأن كل أنواع الصيام المشروعة في الإسلام كيوم عاشوراء وأيام البيض ويوم الاثنين والخميس كل ذلك ثبت بالإستقراء يعني أنه مرتبط بالزمان لا بالمكان. ونستنتج أخيرا لمن أراد أن يصوم يوم عرفة أن يصوم يوم الثامن والتاسع معاً خروجا من الخلاف والله أعلم.

فضائل يوم عرفة:  

ليوم عرفة فضائل عديدة وتنحصر فيما يلي:

 الفضيلة الأولى: أن الله تعالى أقسم به في كتابه، والله جل جلاله لا يقسم إلا بعظيم، وعلى عظيم، فالقسم به يدل على عظمته ورفعته وعلو قدره ومكانته هو اليوم المشهود في قول الرب المعبود في سورة البروج: وشاهد ومشهود. أخرج الإمام الترمذي بسند حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة. كذلك أقسم الله عز وجل به في كتابه في موضع آخر، قال تعالى في سورة الفجر: “والفجر وليال عشر” ويوم عرفة هو أحد الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: الليالي العشر في هذه الآية هي العشر الأول من شهر ذي الحجة.

الفضيلة الثانية: أن يوم عرفة هو يوم إكمال الدين، وإتمام النعمة على المسلمين، ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المومنين، آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال:أي آية ؟ قال: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.  

الفضيلة الثالثة: أن هذا اليوم هو اليوم الذي أخذ الله فيه العهد والميثاق على ذرية آدم، ويؤيد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في المسند من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة، وأخرج من صلب آدم كل ذرية ذرأها إلى يوم القيامة، ثم نثرهم بين يديه كالذر وكلمهم قُبُلاً “ألست بربكم قالوا بلى” فما أعظمه من يوم،  وما أشرفه من  ميثاق.

الفضيلة الرابعة: أن يوم عرفة هو يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مامن يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماأراد هؤلاء ؟ قال ابن عبد البر في التمهيد: وهو يدل على انهم مغفور لهم لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب إلا بعد التوبة والغفران”.

الفضيلة الخامسة: أن يوم عرفة هو أفضل الأيام، لحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الأيام يوم عرفة (رواه ابن حبان ).

الفضيلة السادسة: أن يوم عرفة هو أحد الأيام العشرة المفضلة في أعمالها على غيرها من أيام السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء. (رواه الدارمي وحسن إسناده الشيخ ناصر الدين الألباني في كتابه إرواء الغليل ).

الفضيلة السابعة والاخيرة: الدعاء، ومما يستحب الإكثار منه في يوم عرفة من الأقوال: التكبير والتحميد والتهليل والدعاء، فأكثروا من الدعاء، وأفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، ومن حكمته عز وجل، أنه يختم الأعمال الصالحة بعيد، كما ختم صيام رمضان بعيد الفطر.

موقف عرفة وقفة إيمانية لإخلاص الدعاء:

 إذن فإن موقف عرفة من المواقف التي ينبغي للمسلم أن يعتني بالدعاء فيها بجد وإخلاص، وإلحاح لعل الله سبحانه أن يحقق الأمل، ويستجيب الدعاء. فيدعو المسلم في يوم عرفة بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وبغيره. فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة. وفي الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيئون من قبلي لا اله الا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير”.

ومما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء في هذا اليوم، ما روى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: أكثر ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في الموقف: “اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك مآبي ولك رب تراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يجيء به الريح”. قال: هذا حديث غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي.

قال النووي في المجموع بعد أن ذكر هذا الحديث: “إسناد هذا الحديث ضعيف، لكن معناه صحيح”. وينبغي أن يأتي المسلم بهذه الأذكار كلها، فتارة يهلل، وتارة يكبر، وتارة يسبح، وتارة يقرأ القرآن، وتارة يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة يستغفر ويدعو مفردا وفي جماعة، وليدع لنفسه ولوالديه ومشائخه وأقاربه وأصدقائه وأحبائه وسائر من أحسن إليه وسائر المسلمين أجمعين. وليحذر كل الحذر من التقصير والتسويف، فإن هذا اليوم المبارك لا يمكن تداركه. قال الشاعر:

السباق السباق قولا وفعلا  *  حذر النفس حسرة المسبوق

أدعية مختارة في يوم عرفة:

ومن الأدعية المختارة التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها، ويعض عليها بالنواجذ في يوم عرفة أن يقول: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا كبيرا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني رحمة أسعد بها في الدارين، وتب علي توبة نصوحا لا أنكثها أبدا، وألزمني سبيل الاستقامة لا أزيغ عنها أبدا، اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة، واكفني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك، واغنني بفضلك عمن سواك، ونور قلبي وقبري واغفر لي من الشرك كله واجمع لي الخير إنك على كل شيء قدير.

 اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى وارزقني طاعتك ما أبقيتني، أستودعك مني ومن أحبابي والمسلمين أدياننا وامانتنا وخواتيم أعمالنا وأقوالنا وأبداننا وجميع ما أنعمت به علينا يا سميع يا مجيب. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

كتبه: محمد بن صالح إمام وخطيب مسجد لاشالي، ببلدية بيوكرى، إقليم اشتوكة أيت باها/ المغرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق