ما عندكم ينفد وما عند الله باق

بوغضن

حينما يتأمل الإنسان الحياة ويسترجع تاريخ الذكريات ويتملى ما وراء الأحداث؛ لا شك أنه سيُبصر معنى جليلا وسنة ساطعة وقانونا ساريا ودرسا بليغا: إن ما عندنا ينفد وما عند الله باق.

إن الحياة الدنيوية هي محطة في نهاية المطاف. إنها مسرحية مُخاتلة. إنها موطن لصقل إنسانية الإنسان (كنت أقول مازحا لبعض الأصدقاء إنها فرصة لتجريب التنازع حتى نعرف أهمية التعايش: الذي ستحلو به الحياة في الجنة). كانت ومازالت لاختبار الأعمال الجادة المُتصدية لأعباء الاستخلاف. إن السعادة الكاملة “وهم” كبير في الدنيا. إن اللذة الحقيقية “أكذوبة” مكشوفة في هذه الحياة. إن الشوق يملأ الإنسان دوما إلى عالم أفضل حيث يجتاز هذه المشاق وهذه المصاعب التي تَحُول دون حيازته للذة الحقيقية وللسعادة العميقة.

إن السر العجيب المتصل بروح السعادة وجوهر اللذة يكمن في هذا الطريق: طريق البحث نحو عالم أفضل. لأن العالم “المثالي”؛ الدنيا لم تُخلق لتوفيره. لهذا فاستشعار اللذة واستنشاق عبير السعادة أمر يكون في الطريق. لأنه لا وجود لمحطة الوصول هنا. إن نقطة الوصول هي عند الله. إنها هناك: في الفردوس الأعلى.    

يُخيل لأحدنا أنه سوف يكتفي اكتفاء تاما إذا توافرت لديه بضع حاجات معينة. فهو يتصور مثلا القصر الزاهي والحديقة الغناء والزوجة الجميلة والسيارة الفارهة والرزق الموفور فيعتقد أنه سيكون سعيدا بذلك فلا يحتاج إلى شيء آخر وراءه. إنه مخطئ، وهو يتوهم ذلك عندما يكون محروما من تلك الحاجات الرائعة، و لكنه لا يكاد يفوز بها حتى يسأم منها ويأخذ بالتطلع إلى اليخت الباذخ أو الطائرة الهادرة، أو إلى معالي الوزارة و الجاه العظيم.

يصور لنا مؤلف رواية “طريق الفيلة” فتاة تقفز فجأة من عاملة أجيرة في إحدى مخازن الكتب في لندن إلى أميرة تعيش في قصر يشبه قصور ألف ليلة وليلة. وهناك تجد الفتاة نفسها في عالم جميل رائع يحُف بها الخدم والحشم ويرعاها زوج أنيق، وتنحني لها الدنيا بكل ما فيها. وما هي إلا مدة قصيرة  حتى نرى الفتاة تسأم من هذه الحياة وتتطلع إلى حب جديد ومنظر جديد. (علي الوردي، مهزلة العقل البشري. دار الوراق.2014. ص: 113(

يُخيل للإنسان أنه لن يطلب شيئا آخر إذا رد ديونه أو استكمل بناء منزله أو نجح في اختبار الوظيفة.. هيهات.. هيهات أن تكون الحياة بهذا الاختزال وهذه البساطة. إن الوظيفة إذا تم تحصيلها والمنزل إذا تم بناؤه والديون إذا تم تسديدها؛ إن ذلك إيذان بحلول متاعب جديدة وظهور مشاكل أخرى. والشعور باللذة كامن في ذلك الطريق الذي يحاول فيه الإنسان التغلُب على منغصات لحظة من لحظات الحياة؛ وكلما اقترب من رفع مشكل كان أكثر سعادة وغبطة وسرورا. لكن ما إن يحقق مطلبه ويفوز بمبتغاه إلا وعليه الاستعداد للتصدي بنفس الحماس لمشكل جديد. هذه هي الحياة. ما على الإنسان إلا أن يكون واعيا بهكذا قانون وهذه السُنة السارية؛ وإلا عاش حزينا متحسرا على ما فاته مما أصاب الآخرين من فلاح ونجاح.

ما المعمول؟ في ظل هذه الحياة التي تطارد السعادة أينما حلت. إنه لا عزاء سوى الوعي بأن الدنيا هكذا طبيعتها: مدرسة للإعداد، محطة للتكوين، موطن للتعب والكبد.. هي طريق بلا محطة استراحة. ولكن ينبغي الانتباه إلى أن هذا الإدراك قد يُسقطنا في سلبية قاتلة يستفيد منها هُواة انتشار العزائم الخائرة للاستفراد بالموائد الدسمة.. إن الحياة نضال مستمر لتحسين ظروف الإنسان ولكنه نضال بلا نهاية. هذا هو الدرس. إن النضال ضد الاستبداد وانتزاع إنسانية الإنسان وضد سوء توزيع الثروة والسلطة هو نضال دائم. إن البشرية اليوم إذا تمكن شق كبير منها (الغرب) في إشاعة جو من العدل على المستوى الداخلي؛ فإن النضال مازال مطلوبا للعمل على تدويل العدل ليسُود على المستوى الدولي. أما نحن، أي أوطاننا، فمازلنا في مد وجزر مع الظلم والاستبداد على المستوى الداخلي.

إن المعمول هنا هو الوعي بطبيعة الحياة بالموازاة مع العمل على تغيير الأوضاع. إن الوعي بان ما عند الإنسان ينفد لا محالة إلى جانب العمل على ممارسة الرياضة الروحية (العبادات أولا) في أفق طلب السعادة الباقية (الفردوس الأعلى)؛ كل هذا كفيل بتخفيف حدة الحيرة والنكسات النفسية التي يعرفها الإنسان بخصوص انفلات السعادة العميقة بين يديه. ولكن هذا لا يُعفي الإنسان من العمل والمكابدة والمعاناة في سبيل تحقيق اكتفائه الذاتي من المطالب والمصالح المادية. إنهما خطان متوازيان.

إن الإدراك الحقيقي لطبيعة الدنيا وكونها موطنا لعابر سبيل هو الإنسان. إن من شأن هذا الإدراك، أن يجعل الإنسان آملا يعيش على الأمل. ولا شك أن السعادة العميقة كائنة على طريق الأمل (وليس طريق الأماني). “فالأمل هو الاستعداد الذهني الذي يجعلنا نؤمن بتحقق رغبة ما. إنه شكل من اللذة قيد التوقع، والذي يعتبر في طوره الحالي من الانتظار، تعويضا غالبا ما يكون أكبر من التعويض الناتج عن تحققه. والسبب في ذلك واضح. فاللذة المحققة تكون محددة كمية واستمرارا. في حين أن لا شيء يحُد من عظمة الحلم الذي يخلقه الأمل. قوة الأمل وسحره هي في تضمُنه لكل احتمالات اللذة. يُشكل بذلك نوعا من عصي سحرية قادرة على تحويل كل شيء. لم يقم المصلحون سوى بإبدال أمل بآخر”. (غوستاف لوبون، الآراء والمعتقدات: نشوؤها وتطورها، دار الفرقد، سوريا، الطبعة الأولى، 2014، ص:44)
 (ما عندكم ينفد وما عند الله باق)، صدق الله العظيم. مادام كل شيء يحيط بنا في هذه الدنيا إلى زوال من حيث مفعوله المعنوي أو تَجسُده المادي؛ فلا ينبغي للإنسان أن ينتكس إذا لم يحس بالأحاسيس الجميلة السامية إذا تحققت مطامحه المادية.

إن معنى الحياة غير قابل للتحديد، هذا أمر أكيد. لكن يمكن القول، إن العيش على أمل مزدوج سيُقرب الإنسان من ملامح معنى الحياة.  من جهة، الأمل في تحقُق مطالب الدنيا والجهد المبذول لأجل ذلك يجعل الإنسان سعيدا لأنه يرتبط بنقطة وصول يتصورها بخيال خصب. ومن جهة ثانية، الأمل في ما عند الله من نعيم يجعل الإنسان غير متحسر بشكل كبير على  سقطاته وكبواته لأنه يرمق ويستقبل أمرا باقيا ويستدبر أمرا فانيا محدودا.

ايوب بوغضن

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق