درس التاريخ الاتحادي! بقلم أيوب بوغضن

بوغضن 

كلما قرأ المغربي التاريخ السياسي لبلده إلا و يقف مشدوها لكثرة الفرص المضيعة أمام تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي منذ ستينيات القرن الماضي. و كلما كان واعيا  بطبيعة الحركات السياسية و الاجتماعية الوطنية التي تتحرك في المسرح منذ الاستقلال و كلما كان مطلعا على المناورات المعمول بها للتشويش على مسار هذه الحركات. كلما كان متسلحا بسلاح المعرفة ذاك؛ تجلت له الحقائق ناصعة و مدلولات الوقائع ساطعة.

لنعد إلى الذاكرة السياسية المغربية؛  لنقف على وجه الشبه بين ما جرى في أول انتخابات جماعية بالمغرب سنة 1960 و ما وقع في الانتخابات الجماعية لسنة 1976  و بين ما يجري في الانتخابات الجماعية لسنة 2015.

انتخابات 1960 أقيمت بعد أسبوع واحد من إقالة حكومة عبد الله إبراهيم. و هذا يُلمح أيضا لما كان وراء مساع خائبة كانت ترمي لإسقاط حكومة عبد الإله بنكيران منذ سنته الثانية 2013 و ما وراء مسلسل تأجيل الانتخابات الجماعية (إلى حين سقوط الحكومة أو انتظار تآكل شعبيتها !).

على كل حال، لم تؤثر إقالة حكومة عبد الله إبراهيم في معنوية المناضلين الاتحاديين فقد تجندوا لتعبئة الجماهير فكانت النتيجة أن فاز مرشحو الاتحاد، عندما أعلنت النتائج يوم 30 ماي 1960، بأغلبية ساحقة في أغلب المدن و القرى. لقد حصل مرشحو الاتحاد على أرقام قياسية في البيضاء و الرباط و طنجة و الجديدة و القنيطرة و غيرها. من بين النتائج التي كان لها وقع المفاجأة العظمى في الداخل و الخارج انهزام السيد محمد الدويري الذي عين وزيرا للمالية في حكومة ولي العهد (الحسن الثاني) في الرباط أمام مرشح الاتحاد الحاج محمد بنعلال العوينات، و كان يكسب قوت يومه من بيع الفحم (الفحام). (في غمار السياسة: فكرا و ممارسة- الكتاب الأول، محمد عابد الجابري. الشبكة العربية للأبحاث و النشر. الطبعة الأولى 2009. ص: 262)

و بانتباه بسيط نجد أن ذات السيناريو هو الذي تحقق في 4 شتنبر 2015؛ إذ أسقطت الجماهير الشعبية مرة أخرى العديد ممن تربع على كرسي الوزارة و قادة الأحزاب (بلخياط، أوزين، شباط، الباكوري..). و بخصوص اكتساح الاتحاد للقرى آنذاك و غيبة وريث الاتحاد (العدالة و التنمية) عن هذه المناطق اليوم؛ المسألة تبين، من جهة، أن الاتحاد كان ملتحما مع الجماهير الشعبية في كل الأوساط و “العدالة و التنمية” مازال في بدايات اقتحامه لهذه الأوساط. و من جهة ثانية، يواجه حزب العدالة و التنمية حزبا من أذكى (و أشرس) أحزاب السلطة على مر تاريخها هو حزب الأصالة و المعاصرة  استغل بشكل لافت وضعية الجماهير في القرى، بينما حزب “البام” الأول (أي جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) بزعامة كديرة لم يكشر عن أنيابه إلا في سنة 1963 و ربما كانت نتائج الانتخابات الجماعية لسنة 1960 هي السبب !

مرت التجربة الديمقراطية الأولى للانتخابات الجماعية كأحسن ما تمر الانتخابات في البلدان المتقدمة التي قطعت أشواطا كبيرة في الحياة الديمقراطية. و إذا كانت هذه النتائج قد أظهرت بوضوح مدى انتصار التقدمية و اندحار الرجعية حيث اكتسح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية اكتساحا عظيما هائلا، في جميع نواحي البلاد. و قد نجح الاتحاد الوطني نجاحا هائلا مؤيدا بالأرقام و الأسماء، آن أن ننصرف جميعا إلى ما هو أهم، إلى بناء مستقبل البلاد، واضعين ثقتنا الكاملة في الجماهير الشعبية التي برهنت عن وعيها و نضجها و رشدها. و الخطر كل الخطر هو السقوط مع الرجعية الفاشلة في مجادلات كلامية دائمة لأن الاستعمار، حليف الرجعية، يريد أكثر من هذا. يريد أن نبقى في مجادلات فارغة مع القوى الرجعية، ليتفرج هو، و يستغل انصرافنا عن أهدافنا الوطنية فيثبت أقدامه و يوطد ركائزه في حين أن المعركة القائمة في المغرب هي معركة ضد الاستعمار و بقايا الاستعمار، معركة من أجل الديمقراطية و التحرر و التقدم المطرد. لذلك يجب أن ننصرف للعمل من أجل مستقبل البلاد.

“نعم لقد انتصرنا اليوم و علينا أن نعمل لننتصر غدا. هذا شعارنا، و على ضوئه سنسير واثقين من أنفسنا و من قوتنا كشعب مناضل مكافح. فلنسر جميعا معززين بانتصارنا، فلنسر جميعا و الله معنا، و النصر لنا”. هكذا ختم الأستاذ محمد عابد الجابري تعليقه على نتائج الانتخابات الجماعية الأولى في المغرب التي أُجريت سنة 1960. (المرجع السابق، ص:263-264)

و ليس بعيدا أن يظن أي قارئ لهذا النص أن قائله أحد قادة العدالة و التنمية قاصدا بدعاة الرجعية أصحاب المشروع السلطوي (حزب الأصالة و المعاصرة) الذين يحملون بحق أفكارا  في منتهى الرجعية من قبيل استئصال إحدى أكبر الحركات الاجتماعية بالمغرب و احتضان السلطوية و حماية المفسدين و رعاية السعاة لإعاقة مشروع الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن علاوة على الحنين إلى سلب إرادة الجماهير و التحكم في المشهد بالهواتف و ألوان الوعيد.

لننتقل إلى الانتخابات الجماعية لسنة 1976. فقد جرت كما كان مقررا في 12 نونبر بعد حملة انتخابية واسعة خاضها مناضلو الاتحاد في كل مكان، فجاءت النتائج كما كانوا يتوقعون. لقد أسفرت نتائج التصويت التي أعلنت عن “فوز الاتحاد بالأغلبية في أهم المدن و المراكز الحضرية و القروية: في الرباط و فاس و طنجة و أكادير و تارودانت و سيدي قاسم و صفرو”. كان الاتحاد يستحق هذه النتائج، فلقد كانت حملته الانتخابية ذكية و قوية، و قد قام المرحوم عبد الرحيم بوعبيد فيها بدور هام، إذ زار كثيرا من المدن و ترأس عدة مهرجانات خطابية في جو من الحماس يذكر بذلك الذي عاشه الاتحاديون في حملاتهم الانتخابية في أوائل الستينات. و لكن دار لقمان تأبى إلا أن تبقى على حالها. لقد تدخلت أيدي التزوير لتغير نتائج مكاتب التصويت و لتعلن وزارة الداخلية عن نتائج أخرى في كثير من المناطق. و بدأت المحرر (جريدة حزب الاتحاد الاشتراكي) بالتشهير بالتدخل الذي حصل فكتبت تقول بعناوين كبيرة: “رغم نزول خصوم الديمقراطية بكامل ثقلهم، و رغم التزوير و طبخات آخر ساعة، الاتحاد الاشتراكي ينتزع أغلبية المقاعد و الأصوات في أهم المدن و المراكز. تدخلات آخر ساعة حرمت الاتحاد من عشرات المقاعد بفارق يتراوح ما بين صوتين أو ثلاثة أصوات”. “عملية انتزاع الأغلبية من الاتحاد مستمرة بمختلف الوسائل… و ممارسة الضغط على الناجحين الاتحاديين لإعلان حيادهم و التعاون مع من يسمون ب”الأحرار”. و كان هو حزب عصمان الذي خلف حزب كديرة. (في غمار السياسة: فكرا و ممارسة-الكتاب الثالث، محمد عابد الجابري. الشبكة العربية للأبحاث و النشر. الطبعة الأولى 2010. ص:33)

قراءة هذا التاريخ خصوصا في هذه المرحلة من أوكد الواجبات لأنه ثري بالدروس الملهمة لنا لإنجاح هذه الفرصة التي أمام مشروع الانتقال الديمقراطي الذي تم تأجيله من بداية الستينات !

رغم اكتساح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لنتائج الانتخابات الجماعية الأولى لسنة 0196، إلا أن مشروع البناء الديمقراطي تعرض لإجهاض سريع و ضُيعت فرصة تاريخية لإنشاء دستور ديمقراطي. فإثر هذه النجاحات على مستوى الاستشارات الشعبية؛ يقول الأستاذ الجابري: أدرك خصوم الاتحاد، و على رأسهم كديرة و جماعته، أنه إذا أجريت انتخابات مجلس تأسيسي لوضع الدستور سيكون حظ الاتحاد فيه كحظه في انتخابات الغرف و البلديات، و بالتالي سيكون الدستور الذي سيضعه هذا المجلس في صالح ملكية دستورية ديمقراطية حقيقية. من أجل ذلك انطلقوا في حملة من الوشاية الكاذبة ضد الاتحاد قصد التأثير في جلالة المرحوم محمد الخامس، و قد أسسوا حملتهم على القول إن الاتحاد الوطني بمطالبته بالمجلس التأسيسي إنما يريد الإطاحة بالملكية كما حدث حين الثورة الفرنسية عندما اجتمع مجلس تأسيسي سنة 1789 و قرر إلغاء الملكية. (في غمار السياسة: فكرا و ممارسة-الكتاب الأول، ص:264). و سرعان ما انزلق المغرب، بسبب تلك الوشايات المغرضة، نحو ما تسميه الأدبيات الاتحادية ب”الحكم الفردي” بُعيد وفاة الراحل محمد الخامس ذلك الحكم الذي تم تأطيره بدستور 1962. و بذلك تم إجهاض مشروع الديمقراطية الأول في المغرب المستقل و الإجهاز على إرادة الشعب المغربي في التغيير بإنشاء أول نسخة من لون “الأصالة و المعاصرة” باسم جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية.

في الانتخابات الجماعية لسنة 1976؛ الاتحاد الاشتراكي يفوز بثقة الجماهير من جديد. لكن هواة الإجهاز على إرادة الشعب  يحرصون على الولادة الميتة للمشروع الديمقراطي الثاني في المغرب المستقل. و يدفعون بالنسخة الثانية من لون “الأصالة و المعاصرة” تحت اسم التجمع الوطني للأحرار الذي تأسس رسميا سنة 1977 و وُلد بملعقة من ذهب إذ حصل على الأغلبية مباشرة في الانتخابات و زعيمه هو الوزير الأول عصمان !

اليوم في الانتخابات الجماعية 2015، بدأ نفَس الاستبشار بنجاح المشروع الديمقراطي الرابع في المغرب المستقل (فالمشروع الثالث كان مع اليوسفي، لكن مع الأسف تم إجهاضه كذلك !) يسري في أوساط العديد من الناس، منطلقين من حدث 4 شتنبر الذي تحررت فيه إرادة الشعب  و استعاد فيه المبادرة. إذ اكتسح فيه الوريث الطبيعي لنضالات و خط الحركة الاتحادية في نسختيه (الاتحاد الوطني، و الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) المدن و المراكز الكبرى؛ فكما وقف الاتحاد الوطني أمام النسخة الأولى من “البام” التي تزعمها كديرة تحت عنوان (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) في الستينات، و وقف أمام النسخة الثانية من “البام” التي تزعمها عصمان بعد منتصف السبعينات تحت يافطة (التجمع الوطني للأحرار)، ها هو حزب العدالة و التنمية يقف بثبات أمام النسخة الثالثة من “البام” المسماة (الأصالة و المعاصرة) التي يتزعمها إلياس العمري !

لن نفهم ما يجري اليوم في المشهد السياسي المغربي إن لم نع أن حزب العدالة و التنمية ليس حزبا كأيها الأحزاب. لن نتمكن من فك مغالق المناورات حول التحالفات في الأيام المنصرمة إلا بعد أن ندرك أن حزب العدالة و التنمية: يعد واجهة سياسية لفكرة إصلاحية تتغيا تخليق الحياة السياسية المغربية. لن نستوعب طبيعة الخناق الذي يضرب على الحزب على المستوى الإعلامي إذا لم نلحظ بذكاء أنه امتداد لحركة وطنية إصلاحية مجيدة؛ حركة كان عنوانها حزب الاستقلال (من 1943 إلى 1958: مع حكومة بلافريج) و كان أملها “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” (من 1959 إلى 1972) و كان تألقها في “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” (من 1975 إلى 2002 ! ). لن ننتهي إلى مفهوم للحرب المعلنة من طرف “الدولة العميقة” على هذا الحزب إلا حينما نفهم أنه في طليعة القوى الديمقراطية الصلبة التي تعاند بلا هوادة  المشاريع السلطوية الاستبدادية البائدة.

باختصار؛ لن نتمكن من إدراك صحيح لما يجري في المشهد السياسي المغربي إلا إذا ضممنا إلى بنيتنا الذهنية ما يلي: حزب العدالة و التنمية واجهة لمشروع وطني تحرري يروم استكمال بناء المغرب المستقل مسترشدا بتراكمات و تضحيات كل الحركات الوطنية المناضلة.

صحيح أنه مشروع مازال يتلمس بنيانه الفكري الراشد. لكنها طبيعة المشاريع الإصلاحية تستهدي و  تستفيد من التجربة و الممارسة لنفض الغبار عن الأخطاء و العثرات و لفظ كل ما هو عتيق غير مفيد من الأفكار. فأمامنا الحركة الاتحادية مرت في فكرها من “التقرير المذهبي” للرئيس عبد الله إبراهيم في المؤتمر الثاني (سنة 1962) و عرجت على “الاختيار الثوري” للزعيم المهدي بنبركة الذي كانت له أصداء واضحة في “التقرير الإيديولوجي” الذي صاغه المفكر محمد عابد الجابري في المؤتمر الاستثنائي (سنة 1975).

إن درس التاريخ السياسي يقول إن الإيمان بالديمقراطية و الانشداد إلى إرث الحركة الوطنية يقتضي الاعتراف بأن حزب العدالة و التنمية يمثل طليعة القوى الديمقراطية الإصلاحية (التي فيها مكونات أخرى: حزب التقدم و الاشتراكية و فيدرالية اليسار الديمقراطي) في هذه المرحلة. و أيُ اعتداء غير مشروع على حق الحزب في التسيير و المشاركة في أركان الحياة السياسية هو اعتداء ينذر بإجهاض الانتقال الديمقراطي الرابع الذي حقق أشواطا مهمة لم يسبق لها مثيل. إنها معادلة ينبغي أن تكون واضحة لدى كل الديمقراطيين و كل الوطنيين و كل الغيورين. فدرس التاريخ الاتحادي أثبت أن الاستهداف غير الأخلاقي للاتحاديين، باعتبارهم آنذاك عنوان الإرادة الشعبية، كان استهدافا للمشروع الديمقراطي في المغرب برمته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق