التفاصيل الكاملة لمأساة بائعة الفول التي انتحرت احتجاجا على عدم حمايتها من مغتصبها 

بائعة الفول

تعرضت لاعتداءات جنسية وجسدية ولم تجد شكايتها صدى لدى الجهات المسؤولة

لم يكن بالأمر السهل الوصول إلى كوخ أسماء قريطس بحي «السلام» بمدينة سوق أربعاء الغرب، التي وضعت حدا لحياتها بشرب سم الفئران، بعد مرور يومين فقط على احتفال المملكة باليوم العالمي للمرأة، احتجاجا على عدم حمايتها من الاعتداءات المتكررة التي كانت تتعرض له من قبل شخص منحرف، معروف في أوساط الجيران بسلوكاته العدوانية وسوابقه القضائية. 
إلى حيث فارقت بائعة الفول الحياة، اصطحبنا عدد من النشطاء الحقوقيين بهذه المدينة، ونحن نعرج غير بعيد عن مبنى السجن المحلي، كان كل شيء يوحي بأننا كمن هوت بهم الريح في مكان سحيق، لا أثر للمدينة هنا، الحي العشوائي تغمره مساكن أشبه بأعشاش يقطنها أناس مصنفون في الدرجة الثانية من المواطنة، لا خدمات، لا مرافق ولا بنيات تحتية، بشر محروم من أبسط شروط العيش الكريم، بعدما غض المسؤولون بصرهم عن عذاباتهم وأحجموا عن تلبية حاجاتهم، حتى أضحى هذا المكان المقفر مرشحا، في كل وقت وحين، لتفريخ آلاف الحالات الشبيهة بوضعية أسماء.
حين وصلنا إلى هدفنا، بعدما قطعنا مسافة كيلومتر تقريبا عن وسط المدينة، طُلب منا الانتظار لدقائق، من ثم سمح لنا بالدخول، لقد كان الكوخ شبه فارغ، إلا من أثاث وأغطية بالية وأشياء أخرى لا قيمة لها، هناك في تلك الزاوية، كانت تجلس سيدة في عقدها السادس القرفصاء، وهي تنظر إلى مجموعة من الصور كانت متناثرة أمامها، أُشعرنا في حينه، بأنها أم الراحلة، كانت على علم بقدومنا إليها، فبمجرد ما لمحتنا، دعتنا إلى الجلوس بجانبها، ثم أخذت أنفاسها المتسارعة، قبل أن تشرع بكل تلقائية وعفوية في رواية ما حدث.
أم بائعة الفول تفتح قلبها ل«المساء»
بعيون مليئة بالدموع، ووجه شاحب مليء بالتجاعيد ويعلوه حزن شديد، شرعت زهرة خرشان، أم بائعة الفول، في سرد تفاصيل قصة حادث انتحار ابنتها، الذي اهتز له الرأي العام الغرباوي، بعدما فجر هذا الرحيل الفاجعة، سلسلة من الجرائم التي تعرضت لها الضحية بشكل مسترسل، دون أن تحظى بالاهتمام اللازم من قبل الجهات الأمنية والقضائية، التي اكتفت، في أحسن الأحوال، بفتح مسطرة بئيسة لم تكترث لآثار العنف، الظاهر منها والخفي، التي كانت تكتوي بلهيبها الضحية عند كل اعتداء جديد.
وتقول الأم:«لقد عانت ابنتي كثيرا مع قساوة هذه الحياة، وتكاليفها الصعبة، كانت بالنسبة إلينا، منذ وفاة والدها، السند الوحيد، لمواجهة متاعب واقعنا المعيشي المزري، تحملت على إثره عناء الخروج إلى العمل، لتمتهن حرفة والدها المتوفى، الذي كان يبيع الفول المسلوق على متن عربة خشبية كان يجوب بها شوارع المدينة».
بداية معاناة أسماء
«قصة العذاب الذي لم تستطع أسماء تحمله، تؤكد المتحدثة، انطلقت أولى فصولها، سنة 2013، حينما شرع المسمى »حميدة« في معاكستها والتربص بها ومضايقتها، بعد رفضها الاستمرار في علاقتها به لامتناعه عن عقد قرانه بها، ورغم قيامها بتقديم عدة شكايات ضده، سواء لدى وكيل الملك بابتدائية سوق أربعاء الغرب أو مفوضية الشرطة، فإن سلوكات المشتكى به عرفت نوعا من التصعيد ضد الهالكة، بعدما أضحى يعترض سبيلها ويعنفها بشتى أشكال العنف، الجسدي والجنسي والمعنوي، حيث ذاقت، طيلة السنتين الأخيرتين، كل ألوان الإهانة والإذلال، وهو ما دفعها إلى مغادرة المدينة لفترة من الزمن، قبل أن تعود إليها، ظنا منها بأن الوضع سيعرف طريقه إلى التحسن».
القشة التي قصمت ظهر البعير
توقفت الأم عن الحديث للحظات، واستطردت »ابنتنا عانت كثيرا، قبل انتحارها بأيام قليلة، من تصرفات عدوانية جدا صادرة عن الشخص نفسه، حيث قام بمداهمة كوخنا المتواضع، وهو يحمل السلاح الأبيض، بعدما لعبت المخدرات برأسه، وهاجم المرحومة، واعتدى عليها بالضرب، ثم خطفها، مصطحبا إياها بالقوة إلى بيته، حيث اعتدى عليها جنسيا، وسلبها المحصول اليومي من بيع الفول، ليرمي بها في الشارع«.
مسحت زهرة دموعها، ثم تابعت كلامها بصوت باكي متقطع «بتاريخ 5 مارس الجاري، عشنا كابوسا مرعبا ومخيفا، حينما قدم المشتكى به كعادته إلى الكوخ، وهو في حالة هستيرية، قصد إرغام ابنتي على مرافقته ليمارس عليها الجنس بالقوة، لكنني تصديت له، ومنعته من دخول المنزل، غير أنه قام بتهديدي بالسكين، ثم انهال علي بالضرب بشكل مبرح في خدي وكتفي، إلى أن سقطت مغميا علي، فتم حملي على متن سيارة الإسعاف إلى المستشفى المحلي، حيث تلقيت العلاجات الضرورية، وبعد ذلك قدمت شكاية في الموضوع إلى المحكمة».
وفي صباح يوم 10 مارس 2015، تضيف الأم، استدعت قائدة المقاطعة الحضرية بحي »السلام«، المرحومة أسماء، إلى مكتبها، لاستفسارها بشأن ملابسات الاعتداء الأخير، وما تسبب فيه من تخريب للكوخ، بعد ذلك، عادت الهالكة أدراجها، واستغلت عدم وجود أي أحد في البيت، لتتناول مادة سامة لإنهاء معاناتها، بعدما لم تجد من يحميها من الاعتداءات المتكررة التي تعرضت لها.
شكايات لم تجد الآذان الصاغية
«كون نصفنا المخزن كاع ما يوقع لي وقع»، تضيف الأم بنبرة لا تخلو من تذمر واستياء، «طرقنا مرارا أبواب مفوضية الشرطة بالمدينة، وكنا نستجدي عناصرها قصد التدخل لرفع الحيف المسلط علينا، وتخليص المرحومة من بطش المشتكى به، الذي أراد معاشرتها جنسيا بدون عقد نكاح، بعدما وعدها في السابق بالزواج منها، غير أن استنجادنا كان يواجه ببرودة التعامل»، لتدخل والدة الضحية في نوبة بكاء، وهي تردد عبارة «الله يرحمها مسكينة».
وحسب وثائق هذه القضية، التي توصلت «المساء» بنسخ منها، فإن أسماء تقدمت، في العاشر من فبراير الماضي، بشكاية إلى الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بالقنيطرة، تتهم فيها المشتكى به بسبها وشتمها بجميع الكلمات النابية وتهديدها وضربها واعتراض سبيلها باستمرار وهو في حالة سكر طافح، مشيرة إلى أن رجال الأمن اعتقلوا المشتبه فيه، ثم أطلقوا سراحه بعد ذلك، وحينما استفسرتهم والدتها، تضيف الشكاية، عن أسباب هذا الإجراء، شرع ضابط شرطة في سبها ووصفها بالعاهرة وتهديد شقيقها بإدخاله السجن.
رسالة الأم المكلومة إلى المسؤولين
ختمت المتحدثة كلامها برسالة موجهة إلى المسؤولين تطلب فيها الإنصاف، وقالت: «إن الشكايات التي تقدمنا بها ضد المعتدي لم تكن تجد الآذان الصاغية، وكنا دائما نواجه بالإهمال واللامبالاة والحيف، حيث لم يتم التحقيق في تظلماتنا بشكل جدي ومسؤول، وهو ما دفع ابنتي أسماء إلى الانتحار إحساسا منها بهذه الحكرة، أما الآن، فأنا أطالب الجهات المعنية بالتدخل العاجل والفوري، قصد فتح تحقيق جدي ونزيه لكشف الأسباب الحقيقية التي كانت وراء الانتحار، ومتابعة كل من ثبت تورطه في التقصير والإهمال الذي عانينا منه».
غادرنا منزل أسماء ونحن مقتنعين أشد الاقتناع بأن أسماء ليست الفتاة الوحيدة التي ستعرف هذا المصير، وهذا يعلمه مسؤولونا، الذين يدركون جيدا ما يحصل بحي «السلام» من دعارة وتجارة مخدرات وكحول وانتعاش أنواع من الاقتصاد لا تنمو إلا في بيئة غارقة حتى النخاع في الفساد.
بعد طول انتظار.. اعتقال المشتكى به وإحالته على القضاء
مباشرة بعد نشر »المساء« تفاصيل خبر انتحار أسماء قريطس، سارع قسم الشرطة القضائية بمفوضية الشرطة بسوق أربعاء الغرب إلى اعتقال المشتكى به »ح ز«، الذي نفى جملة وتفصيلا ما نسب إليه، كما استدعت العديد من الشهود، وذهبت معظم أسئلة المحققين إلى الحصول على شهادات تكذب ما جاء في مقال الجريدة بشأن ظروف انتحار بائعة الفول، عوض أن تفتح تحقيقا معمقا حول طبيعة الأسباب التي تقف وراء هذا الحادث، خاصة وأن جميع التصريحات، وفق ما هو مدون في محاضر الشرطة، أشارت إلى رفض الضحية الاستمرار في علاقتها بالمشتكى به، بعدما امتنع هذا الأخير عن عقد قرانه بها بشكل شرعي، وكشفت أن الموقوف، ومنذ ذلك الحين، وعلاقته متوترة مع أسرة الضحية إلى درجة تهجمه على بيت أسماء بالحجارة وهو تحت تأثير التخدير.
وأغرب ما جاء في محاضر الاستماع إلى المشتبه فيه، التي ظل محرروها يكررون عبارة «المشتكى به متزوج بالفاتحة بالهالكة» لإبعاد شبهة الاعتداء الجنسي على الضحية مسبقا، هو قيام ضابط شرطة بسؤال المحروس نظريا عما جاء في مقال «المساء»، بعدما نسب للجريدة كلاما غير صحيح. حيث بدا هاجس المحققين هو تكذيب المقال عوض الوصول إلى الحقيقة، والقيام بالمتعين بشأن ما كشفت عنه التحريات من انتشار كبير لبيع المخدرات والكحول والمواد المخدرة.
محامون ينتصبون للدفاع عن قضية أسماء
العديد من المحامين نصبوا أنفسهم طواعية للدفاع عن حق أسماء في الحياة، والمطالبة بمحاكمة كل من ثبت تقصيره، وأوضح الأستاذ رشيد آيت بلعربي، عضو هيئة الدفاع، أن انتحار بائعة الفول يعري الواقع المرير في استهتار النيابة العامة والضابطة القضائية بالشكايات الكثيرة التي تقدمت بها الضحية في مواجهة من أراد جعل حياتها رهن إشارته باعتداءاته الجسدية والجنسية المتكررة عليها، إذ لو تحركت الجهات المذكورة لضبط المعتدي، وتقديمه للعدالة، لينال جزاء ما اقترفه في حقها، لشعرت بالأمان وما فكرت قطعا في الانتحار، على حد تعبير المتحدث.
وقال المحامي آيت بلعربي إن ما حصل هو دليل إدانة لتلك الجهات، ويجعلها هي المسؤولة الحقيقية عن انتحارها، نظرا للإهمال الكبير الذي عوملت به شكاياتها، وزاد متحسرا »لكن للأسف، وأمام هذه الحكرة التي تعرضت لها، وجدت نفسها مضطرة لنهج العدالة الخاصة، ليس بقتل من حول حياتها إلى جحيم، بل بانتحارها وتخليص هؤلاء من متابعة شكاياتها«.
تشكيل اللجنة المحلية للدفاع عن الحق في الحياة
قال المحامي مصطفى عقار، عضو اللجنة المحلية للدفاع عن الحق في الحياة، التي بادر إلى تأسيسها ثلاثة من النشطاء الحقوقيين والجمعويين، مباشرة بعد شيوع خبر رحيل بائعة الفول، إن انتحار أسماء بهذه الطريقة، وفي تلك الظروف، كان له تأثير كبير في أوساط المواطنين بسوق أربعاء الغرب، وزعزع مشاعرهم، ودفع نشطاء المدينة إلى تأسيس هذه اللجنة، باعتبار أن هذا الحق، هو دستوري، وتحميه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وبالتالي، يؤكد الأستاذ عقار، فإن تأسيس إطار موضوعاتي كان الغرض الأساسي منه الحماية والتحسيس بأهمية السلامة المدنية والبدنية للأشخاص.
ما حصل، يتحمل فيه الأمن والقضاء القسط الأكبر من المسؤولية، حيث كان من المفروض أن يتدخل هذان الجهازان في الوقت المناسب، لبت الطمأنينة والسكينة في نفس الضحية، التي سئمت من الاعتداءات المتكررة للمتهم، دون أن ينال جزاءه، وهو ما دفعها إلى الانتحار كحل لإنهاء معاناتها ومعاناة أمها، التي أضحت هي الأخرى تتعرض لحلقات من التعنيف من طرف الشخص نفسه، الذي كان موضوع شكايات عديدة من قبلهما.
إن حالة أسماء لن تكون الأخيرة، طالما أنه لا يتم التعامل بشكل جدي وفوري مع تظلمات وشكايات من يرزحن تحت سيطرة المعتدين على حقوقهن، فالمطلوب، هو اعتماد حكامة أمنية تروم حماية حقوق الإنسان بالمنطقة، وإشاعة ثقافة احترام الحق في الحياة بالنسبة للجميع، بعيدا عن قانون الغاب الذي لا يعترف إلا بالطرف القوي، فيما الضعيف يبقى لقمة سائغة له.
ياسين هرهور*:* رئيس جمعية الغرب للمرأة والطفل 

أوضاع جل النساء كارثية في هذه المدينة
من منطلق اهتمام جمعيتنا بالنساء في وضعية صعبة، وعضويتها في خلية اللجنة المحلية لتعزيز التكفل بالنساء والأطفال بالمحكمة الابتدائية بمدينة سوق أربعاء الغرب، فإنه لا يسعنا، إلا أن ندين، وبشدة، ما تعرضت له الضحية أسماء قريطس، والمصير المحزن الذي آلت إليه قضيتها. للأسف، هناك الكثير من الحالات مهددة بنفس المصير، فأوضاع جل النساء في هذه المدينة هي كارثية بكل المقاييس، ومعرضة لأن تزداد سوءا، لذا، على جميع المؤسسات المعنية أن تنهج مقاربة تشاركية شمولية مع فعاليات المجتمع المدني، التي تنشط في مجال النهوض بأحوال المرأة، للتخفيف من وطأة ما تتعرض له هذه الأخيرة.
وهنا، لا بد من التأكيد على أن عدم تواصل مصالح الأمن مع المجتمع المدني بالمدينة، وعدم التجاوب السريع مع مطالب الجمعويين، من شأنه أن يساهم في تكريس هذا الواقع المأساوي الذي يدفع العديد من الفتيات إلى التفكير في وضع حد لحياتهن. إذن، فعلى الجميع أن يتحمل كامل مسؤولياته، كل من موقعه، كما يجب تفعيل شراكات جديدة تخول للنساء قنوات واضحة وسهلة لاسترجاع حقوقهن والدفاع عنها، لتجنيبهن الخضوع لليأس والإحباط، والاستسلام للضغوطات، والهروب من الواقع بقتل أنفسهن، مشددا في هذا الإطار على أهمية إحداث مراكز متطورة ومؤهلة لاحتضان النساء في أوضاع صعبة ومساعدتهن على تجاوز الأزمات والمحن التي يتخبطن فيها.

 نشر في المساء يوم 24 – 03 – 2015

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق