وظيفة غائبة في المشهد الثقافي. بقلم: حسن الباعقيلي

ترقبت موعد الندوة العلمية التي دعا إليها نادي حي بن يقظان للقراءة والبحث في موضوع تقديم ودراسة كتاب “استثمار النص الشرعي على مدى التاريخ الاسلامي” للمعلم الأستاذ “مولود السريري” حتى حان. وتتبعت أطوارها حتى نهايتها. وقبل هذه النهاية بقليل ذكر الأستاذ الباحث حسن أهضار في كلمته الأخيرة فكرة أثارت انتباهي وشدتني إليها تدعوني إلى التوقف والتفكير. وحين فعلت وجدتهاجديرة بالنبش في بعض زواياها وظلالها. وكذلك كان.

ولعله من المحمود أن أقول ابتداء أن ليس أصعب على القارئ الجاد من أن يعثر في الكتاب الخطأ الذي يبدد وقته وجهده وماله بلا طائل. وليس أنفع له وأرحم لجيبه ولعينيه ووقته ولأمته من أن يظفر بالكتاب النافع. ومنفعة الكتاب لا تقاس بكم الأفكار المستفادة منه، ولا بعدد الألفاظ الجديدة المستزادة من قراءته، ولا بمقدار الجهل الذي مسح، ولا باتساع رقعة النور التي أضاء لأنها تشتمل على كل هذا وأكثر. فالذي يجنيه القارئ من قراءته متشعب ومتعدد وبعيد وعميق. وإن كان في الغالب لا يعي منه إلا ما يدركه وهو في طور القراءة، أو ما يستحضره بعد أن يفرغ منها. أما الجنيُ الذي غاب عن وعيه وإدراكه واستحضاره القريب فهو كثيروحاصل وثابت.

ومن تم فيكاد يكون هذا القارئ الجاد أحوج ما يكون إلى من يرشده إلى الكتاب النافع المفيد. ولقد كان أسلافنا يعمدون إلى ذلك حين كانوا يحددون لتلامذتهمأمهات الكتب التي يجب على كل طالب علم وفن أن تكون هي أول ما يفتتح به قراءته وتعليمه ودروسه. مثل ما كان يصنع شيوخ عبد الرحمان ابن خلدون مع طلبتهم من ناشئة الأدب وقرائه ودارسيه ومحبيه حين انتخبوا لهم كتباً أربعة جعلوها بابا على كل واحد منهم أن يدخل منه أولا .

ولعلك أيها القارئ الفاضل ما تزال تتساءل عن الوظيفة الغائبة في المشهد الثقافي. وإن كنت لا أشك أنك قد فطنت إليها من خلال الذى سبق من الاشارات والومضات، ومع ذلك أسارع إلى القول بأن هذه الوظيفة الغائبة هي عملُ ذاك القارئ النهم الذي يعكف على الكتب، يقرأها ويسبر أغوارها ويكشف عن الجواهر التي فيها. ثم لا يبخل عن الإرشاد إليها وحتالناس على قراءتها. بل واقتطاف مختارات منها وإشاعتها بينهم حديثا مفصلا، أو درسا يلقى فيمجلس من مجالسهم، أو مقالا ينشر في الجرائد والمجلات في مثل تلك الأعمدة التي كان أصحابها يضعون لها عنوان: “اخترت لكم”. وفيها كانوا يعرضون خلاصة قراءاتهم ونظراتهم وآرائهم في ما يقرؤون ويطالعون. وقد يجمع بعضهم هذه المقالات حين يكثر عددها وتظهر فائدتها بين دفتي كتاب يطبعه وينشره. وهو عين ما فعله طه حسين في كتابه “خواطر” والذي ضمنه ثمانية عشر مقالة تعالج كل واحدة منها كتابا، وفي بعضها كتابين.

وإذا أردنا دليلا على هذا الذي نقوله فلينظر كل منا إلى الطريقة التي تعرف بها على الكتب التي قرأها أو على تلك التي يرجو قراءتها. فلا شك سيجد غير قليل منها إنما اهتدى إليه إما عن طريق ترشيح صديق قارئ، أو عن طريق مقال لقارئ كتب عن بعض ما وجده فيها من علم نافع وأدب رفيع ومنهج سديد.

ثم إن هناك فئة من القراء قد يكون دورها الأساس ومناط وجودها هو تقديم الكتب والتعريف بأصحابها. وهذه الفئة هي جماعة النقاد. ومن أجمل ما قرأت عنهم من أوصاف، وصف توفيق الحكيم لهم بالموصلات الكهربائية. والحال أن في الموصلات الكهربائية الجيد والرديء في النقاد كذلك القادر على كشف كنوزالنصوص وذخائرها وكل ما يطمره الكتاب المهرة الحاذقون بين ثنايا كلماتهم وجملهم وتراكيبهم. ومنهم، أي النقاد، الذي تقف به عدته المنهجية وقدراته التحليلية وملكاته الذوقية وآفاقه التخييلية دون ذلك.

ولعل رداءة التوصيل في مجال النقد تعود إلى أسباب كثيرة. نذكر منها واحدا من باب التمثيل والاختصار. وهو على كل حال ليس أهمها أو أكثرها شيوعا، وإن كان يمكن اعتباره آفة مستشرية قلما ينجو منها قارئ. ويتجلى هذا السبب في مختلف الظواهر التي تنشأ عن الاستجابة للخواطر الأولى وأوهام القراءة العجلى.

وليس بخاف خطورة تلك الظواهر خاصة حين تبنى عليها المواقف، وتستخرج منها الآراء، وتوزع بناء عليها الاوسمة والصفات والمواقع وربما المسؤوليات.

ولقد كان غريبا أن يذكر طه حسين بين يدي قراءاتهالتي جمعها في كتابه “خواطر” أنه قرأ تلك الكتب أكثر من مرة قبل أن يبدأ في الكتابة عنها. نستمع إليه ـ مثلا ـ وهو يتحدث عن رواية “ثم تشرق الشمس” لثروت أباظة حين يقول: “قرأتها مرة ومرة لأعرف ما أراد إليه صاحبها من غرض، فلم أتبين ذلك إلا بعد مشقة وجهدولم يكن طه وهو ينظم خواطره عن تلك الكتب يرتدي عباءة الناقد الحصيف ولا الدارس المدقق، إذ كانت الغاية عنده على ما يبدو هي التقديم والتعريف والتلخيص والاطراء على أصحابها حينا والعتاب عليهم حينا آخر. ثم إن غزله هذا كان يريد به قراء الجرائد والمجلات، وهم طيف عديد الطبقات حري بالذي ينسج له أن يراعيها جميعا. ومن تم فنكاد نجزم أنصنيع طه لم يكن إلا لكي يدفع عن نفسه وعن نواتج قراءته آفة الاطمئنان إلى ما كان يسبق إلى خاطره ويتطاير في روعه ولما يختبره بعد.

وقد ذهب توفيق الحكيم أبعد من الدكتور طه حسين حين حصر للناقد مهمة استخلاص الخامات الفنية الواعدة من الأثر الأدبي إذا كان صاحبه ناشئا مبتدئاثم يضعها أمام عينيه واضحة مفروزة صقيلة بادلا جهده كله في أن يزين لهذا الناشئ الأديب المبتدئطريق السير فيها وخوض غمارها والذهاب فيها إلى أبعد الآماد. وأما إذا كان الكاتب الأديب من ذوي الأقدام الراسخة فحينها تصبح مهمة الناقد، حسب ما يذهب إليه توفيق الحكيم، هي البحث عن الموضع المناسب للأثر الذي يعكف على نقده في فسيفساء أعمال الكاتبالسابقة. وهاتان المهمتان شاقتان صعبتان لا يفلح في مضمارهما إلا لمن كان دأبه التأني والصبر وطول البال.

هذا عن جماعة النقاد وأما جماعة الأساتذة والمعلمين والذين تناط بهم مهمة ترشيد تلامذتهم وتوجيههم إلى نفائس الكتب وترغيبهم في قراءتها فيبدو أنهم مشغولون عنها بهموم المعاش وشؤون الوظيفة. إلا أنه وسواء عتبنا عليهم تقصيرهم هذا أو التمسنا لهم الأعذار فإن عزاءنا في الحالتين معا هو أنهم مدركون أن ما يتلقاه التلميذ من استاذه من توجيه وعنايةوتشجيع قلما تمحوه الأيام أو يطاله النسيان خاصة إذا كان غضا طريا ما يزال يتدرج في سنوات يفاعته الأولى.

وليس القارئ وحده، كيف ما كانت طبيعته وعلاقته بالكتاب، هو الجهة الوحيدة التي تضطلع بهذه المهمة النبيلة، فحتى مقدمات الكتب لها دور تقوم به وواجب تؤديه. أوليست هي أهم فصولها وأبوابها؟ وأنها هي أول ما يجب أن يقرأ منها؟ فهي بالإضافة إلى كونها تقدم عصارة ما في الكتاب، وخطة الكاتب في بنائه، ومنهجه في جمع مادته، وطريقته في معالجتها وعرضها، تشتمل كذلك على غير قليل من عقل الكاتب وذكائه وفطنته وأسلوبه وأصالة معرفته وآفاقها.

ومن فرط العناية بمقدمات الكتب أن صارت مادة للدراسة والكتابة، ولونا من ألوان التأليف في الثقافة العربية لا أدري إن كان له مثيلا في الثقافات الأخرى أم أنه ابداع خاص بالعبقرية العربية. بل إن بعضالمقدمات أضحت كتبا تقرأ بدل الكتاب الذي كانت تمهيدا له وتقدمة. مثل ما هو الحال مع مقدمة عبد الرحمن ابن خلدون الشهيرة، والتي صارت كتابا مجلدا، قائما منفردا، يغني وحيدا، ولم تكن في الأصل غير مقدمة “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر“.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق