رجل فوق القانون المغربي

خالد عليوةخالد عليوة

قبل عشرة أيام، توفيت والدة عبد الحنين بنعلو، المدير العام السابق للمكتب الوطني للمطارات. رخص لبنعلو لمغادرة سجن عكاشة، الذي يقبع فيه منذ أزيد من عامين بسبب جرائم تتعلق باختلاس أموال عمومية واستغلال النفوذ،  وحضر بنعلو مراسيم دفن والدته، ثم أعيد إلى زنزانته. لا يحدث هذا السيناريو لجميع المسؤولين المتابعين في قضايا الفساد، إذ هناك بعض المسؤولين الذين يمكنهم الخروج من السجن برخصة مؤقتة، لكنهم لا يرجعون إليه. المثير أنهم لا يفرون أو يختفون عن الأنظار، بل يعودون إلى ممارسة أنشطتهم السابقة، ومباشرة أعمالهم ومشاريعهم، دون أن يجرؤ أحد على إقلاق راحتهم.

يوم 4 مارس 2013، خرج خالد عليوة من سجنه، ولم يعد إليه. لم يتمتع وقتها الرئيس المدير العام السابق للقرض العقاري والسياحي سوى برخصة من 4 أيام لحضور جنازة والدته، لكن سرعان ما تحولت متابعته في حال اعتقال إلى متابعة في حال سراح، لكن يبدو أن عليوة لا يرى أي فرق بينه وبين أي شخص قضى عقوبته كاملة، أو خرج من زنزانته بفضل عفو ملكي. لم يعد لمسطرة المتابعة أي مضمون جدي بالنسبة إلى عليوة، ولم يلق بالا لأوامر الحضور المتكررة من لدن قاضي التحقيق، وهو يتصرف في هذه الأثناء وكأن خطأ ما قد حدث حينما توبع هو ومن معه، وعليه أن يضع كل ما حدث وراء ظهره.

بعد عامين على تلقيه أول أمر بالحضور من لدن قاضي التحقيق، نور الدين داحن، دون أن يستجيب له، وهنا يتساءل الوسط القضائي والحقوقي: هل عليوة رجل فوق القانون؟

رجل أعمال!

يعيش عليوة حاليا هانئا في منزله المسيج بالعاصمة الرباط، وبين الفينة والأخرى، يقود سيارته إلى شارع فال ولد عمير، حيث يوجد مقر مكتب دراسات أسسه في عام 1991، ويُدعى Alco. هنالك سيدة تدير المكتب تدعى مليكة أوطالب، وبرقم معاملات سنوي بالكاد يتجاوز 100 مليون سنتيم.

خضع مكتب الدراسات في السنين الأخيرة لحمية في الموارد البشرية، ولم يوظف، طيلة عام على الأقل، سوى سكرتيرة واحدة. لكن شركة عليوة عرفت سابقا أيام مجد، فقد كانت قائمة زبنائها تشمل مؤسسات عمومية ووزارات حينما كان يجلس على كرسيه في المقر الرئيس للقرض العقاري والسياحي، فحينما كان مديرا عاما للقرض العقاري والسياحي، حصل مكتب Alco على مشروع لإعداد استراتيجية تواصل لصالح وزارة الاقتصاد والمالية، كما حصل على مشروع ثان من الوزارة الأولى آنذاك لتقويم مؤشرات التنمية البشرية. وحتى اليوم، لم تتدهور معاملات المكتب كليا، فقد حصل، في 28 أكتوبر الفائت، على صفقة من وزارة الصناعة التقليدية لإجراء دراسة تقويمية لمؤشرات الصناعة التقليدية بالمغرب، بلغت قيمتها 97 مليون سنتيم.

لدى عليوة شركة ثانية أسسها عقب خروجه من السجن، دون أن يكون اسمه في الواجهة هذه المرة، عبارة عن مقاولة بناء. فقد عليوة الكثير من الرفاهية بسبب السجن، وحساباته البنكية قيد التجميد حتى اليوم، وكذلك حسابات ابنه مهدي وأفراد من عائلته. ويقضي عليوة بعض أوقاته في الدار البيضاء حيث عمل لوقت طويل كأستاذ جامعي، وكمدير عام للقرض العقاري والسياحي، ولديه شقة مزدوجة. وهو دائم التردد على منزل أصهاره، ويظهر بشكل متقطع في جلسات عمل مع رجال أعمال بفنادق مصنفة. في المحصلة الأخيرة، يبدو أن عليوة اليوم واثق من أن كل شيء قد طُوي.

دروس الجنازة

يذكر الحاضرون في بيت الراحلة والدة عليوة، في 4 مارس 2013، عندما كان يتحلق حوله بضعة أفراد، من بينهم عبد الرحمان اليوسفي، الكاتب الأول السابق للاتحاد الاشتراكي والوزير الأول في حكومة التناوب التي كان عليوة وزيرا فيها، كيف أن شخصا كان على مقربة من عليوة يجلس وهو يحدق فيه وكأنه يذكره بأمر ما.

كان الشخص حارس سجن أرسلته المندوبية العامة لإدارة السجون كي يرافق عليوة في تلك الأيام الأربعة من رخصته الاستثنائية خارج أسوار السجن. وطيلة ساعات، لم يكن عليوة يتصرف وكأنه يهتم بوجوده. في مرحلة الدفن، زاد عدد الناس قليلا، وكان أكثرهم من الكتاب والفنانين، ثم كان هنالك إدريس لشكر، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وبعض من الشبان المنتمين إلى الحزب. حتى ذلك الوقت، لم يكن لدى عليوة شك في أن شيئا سيحدث وسيغير مجرى الأمور، لكن سيارة للقوات المساعدة كانت متوقفة بالقرب من فيلا والدته، أوحت للكثيرين بحدوث شيء ما.

حين خرجت السيارة التي تحمل نعش والدة عليوة، وقف صف من رجال القوات المساعدة المزركشين بالنياشين المرصعة، وألقوا التحية العسكرية. وتصرف ضباط شرطة المرور بالكيفية نفسها، فقد تعاملوا مع جنازة والدة سجين مطلق سراحه برخصة مؤقتة، وكأنها مناسبة رسمية. كانت تلك العلامات موحية بأن السلطة تعاملت مع جنازة زبيدة عليوة بطريقة رسمية. في الخامسة والنصف من مساء ذلك اليوم، دلف شخص غريب إلى داخل الفيلا، وكان عليوة هنالك يتحلق حوله نحو عشرة أشخاص، وهو يحاول أن يقنعهم بأن الزج به في السجن كان مثل معاقبة رجل على إخلاصه لوطنه، فسلمه الشخص الغريب ظرفا وغادر. كان المظروف يحتوي على رسالة تعزية من الملك محمد السادس، تبتدئ بعبارة: «إلى الأستاذ السيد…». وحتى من لم يفهم ما تعنيه مضامين التعزية الملكية حينها، فقد كان للدقائق الثلاثين الموالية تأثير كبير في توضيح الأمور. لقد حل فجأة، بمنزل زبيدة عليوة، كبار رجالات الدولة، ورؤساء المؤسسات العمومية، والأمناء العامون للأحزاب السياسية دفعة واحدة.

خرجت ولن أعود رغما عنكم!

حول عليوة خروجه من السجن بواسطة رخصة إلى نصر مبين. وكان عبد الرحمان اليوسفي، وهو يجلس بجانب عليوة، يؤيد ذلك الإحساس العارم بالظلم عند عليوة، حيث قال له بصوت هامس: «لقد دفعت ضريبة ما قدمته للوطن». وقف عليوة ثم صرخ: «أنا رجل». وطيلة الأيام الثلاثة الموالية، لم يتوقف الناس عن التدفق على دار العزاء، لكن كان السؤال المطروح وقتها: هل يعاد الرجل الذي بعث إليه الملك بتعزية، وسماه الأستاذ، إلى زنزانته بعد أن تنتهي مدة رخصة مغادرة السجن؟

قطع عبد الحفيظ هاشم، المندوب العام للسجون وقتها، الشك باليقين، حينما أعلن لعليوة عبر الهاتف تمديد فترة الترخيص إلى أربعة أيام أخرى.

لشكر والمتابعة في حالة سراح

الأهم أن عليوة سيحصل قبل جلسة تحقيق محددة عند قاضي التحقيق، يوم الاثنين 25 مارس 2013، على قرار كان ينتظره: المتابعة في حالة سراح يوم الأربعاء 20 مارس 2013. هنا سيبرز اسم إدريس لشكر، لا بصفته كاتبا أول لحزب الاتحاد الاشتراكي، ولكن بوصفه محاميا لعليوة. سيتقدم في ذلك الأسبوع بطلب جديد، هو الرابع من نوعه، إلى غرفة المشورة بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، كي تمنح عليوة مسطرة المتابعة في حالة سراح. ويوم الأربعاء 20 مارس 2013، أعلنت غرفة المشورة قرارها: «قُبل الطلب». هنالك مشكلة في القرار النهائي لغرفة المشورة هذه، لأن الغرفة نفسها ردت لشكر خائبا ثلاث مرات متتالية حينما كان يتقدم بطلبات لمتابعة عليوة في حالة سراح. كان التعليل دوما أن قرار قاضي التحقيق سليم من الوجهة القانونية. وكان آخر قرار صدر قبل شهرين فحسب. فما الذي تغير في المسألة؟

مسؤول رفيع المستوى في وزارة العدل يشير إلى أن «المشكلة ليست في قبول طلب متابعة عليوة في حالة سراح، ولكن في تفسير دواعيه، وكأن هيئة الحكم فهمت الشيء نفسه الذي فهمه المتهم من سلسلة الأحداث الجارية، ولذلك، كان من الطبيعي أن يمتد هذا الفهم ليشمل كل شيء بعده».

كان الحصول على موافقة من غرفة المشورة، تتكون من الأعضاء أنفسهم الذين طالما رفضوا تمتيع عليوة بالسراح، أمرا يستحق الاحتفال بالنسبة إلى لشكر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حزب الاتحاد الاشتراكي، لكن لم يكن الحزب كله على قلب رجل واحد إزاء قضية عليوة على كل حال. الراحل أحمد الزيدي، وكان رئيسا للفريق النيابي للحزب، عارض بشدة تحويل قضية عليوة إلى شأن يهم الحزب، وكان يعلن صراحة: «إن ما يجب أن نطالب به هو أن تكون هنالك محاكمة عادلة، لا أن ندفع بالاتحاد الاشتراكي ككل كي يساند شخصا واحدا».

حصل عليوة، إذن، على قرار غرفة المشورة يوم الأربعاء، ولم يعبأ بالاستجابة لأمر الحضور الصادر عن قاضي التحقيق يوم الاثنين الموالي. بعث القاضي بأمر ثان للحضور يوم الخميس، لكن الرجل لم يستجب، ثم أرسل أمرا ثالثا يوم الثلاثاء الذي بعده، لكن دون جدوى. كان من الواضح أن عليوة حسم أمره من هذه الناحية، فهو لم يعد يفكر في ترتيب الأشياء وفق ما كان عليه الحال قبل وصول تعزية الملك. وقتها في ذلك الصباح، كان يقول: «سأعود إلى زنزانتي بنفسي ولن ألتفت إلى الوراء»، لكن ما حدث في حقيقة الأمر كان هو أنه لن يعود إلى زنزانته أبدا ولن يلتفت أيضا إلى الوراء. بعد أن تُليت تعزية الملك بقليل، كان أول من فهم ما تعنيه هو حارس السجن الذي كلف بمرافقة عليوة، فقد دنا منه وقدم طلبا: «هل يمكنني يا أستاذي أن أغادر إلى بيتي كي أرى أبنائي؟». نظر إليه عليوة مليا ثم أشار إليه بكلمة واحدة: «اذهب». لم تعد هنالك حاجة إلى حارس سجن مرافق لعليوة بعد اليوم، ولم يظهر له أثر بعدها.

الصدأ يعلو أوراق الملف

هنالك علامة أخرى يقتنصها الناس لفهم دور جنازة في لي عنق العدالة. كان إدريس لشكر يصوب سهامه دائما إلى رأس أحمد الميداوي، الرئيس السابق للمجلس الأعلى للحسابات، بوصفه السبب الرئيس في وجود عليوة بالسجن. وكان يعتقد أن الميدواي تصرف بطريقة صورت عليوة كرجل فاسد رغما عنه. واستندت صحيفة «الاتحاد الاشتراكي» إلى معلومات قديمة لتظهر أن عليوة كان ضحية تصفية حساب، وطرحت أرضا تقرير المجلس الأعلى للحسابات، وأعلنت أن عليوة يحصد نتائج موقفه بشأن تشكيل المجلس الجماعي للدار البيضاء في 2003، عندما عارض مرشحا غير معلن لجهات قريبة من محيط القصر. بعدما توصل عليوة بتعزية الملك، كان إدريس جطو، الرئيس المعين حديثا بدل الميداوي في المجلس الأعلى للحسابات، واحدا من العشرة الأوائل الذين حجوا إلى بيت زبيدة عليوة. وكان لشكر، الذي كان منتقدا شرسا لعمل المجلس الأعلى للحسابات، من المرحبين بحفاوة بجطو.

لشكر، كأي محام بارع في الشكليات، فإن ما كان يهمه ليس ما فعله عليوة داخل القرض العقاري والسياحي، وإنما كان يهمه أكثر ما إن كان قضاة المجلس الأعلى للحسابات لديهم الحق في تجاهل عليوة خلال تحرير التقرير أو جمع المعلومات، حيث قال: «لم يكن يجب أن ينشروا التقرير بتلك الطريقة دون أن يستمعوا إلى عليوة».

لا شيء آخر لدى لشكر ليقدمه لصالح عليوة سوى الحق في مسطرة شكلية. هل نجح في ذلك؟ كان يقدم هذه الملاحظات في غشت 2012، وكان عليوة حينها في السجن. وما كان يهم أكثر من تقرير أنجزه قضاة المجلس الأعلى للحسابات هو ما يحتويه محضر قاضي التحقيق في القضية نفسها. أهمل لشكر كليا ما يقوم به قاضي التحقيق، ولم يعترض علانية على أي سؤال وجهه إلى عليوة، ولكنه احتج حينما اطلع على مضامين التحقيق وهي تصدر في الصحف. كان ذلك بالنسبة إليه خرقا شكليا لسرية التحقيق. هل سيُسقط جوهر القضية؟ كلا، إن ذلك لا يهم، لأن ما حدث هو أن القضية كلها سقطت.

بعث قاضي التحقيق عشرة أوامر للحضور إلى عليوة، وكانت النتيجة واحدة.. الامتناع عن الحضور، كان الملف بالنسبة لعليوة قد أغلق حتى دون محاكمة ودون براءة نهائية. عند كل استدعاء، يأتي محاميه بنسخة من شهادة طبية تحتوي على عذر صحي. في أبريل 2013، قدم شهادتين طبيتين تعلنان أن حالة عليوة لا تسمح بإجراء تحقيق أو بالتنقل. في 18 أبريل نفسه، كان عليوة في مسرح محمد الخامس يتفرج على مسرحية أعدها عبد الحق الزروالي عنوانها «انقب واهرب». ظهر في الصور التي التقطت حينها في صحة جيدة، وهو يمازح عبد الواحد عزري، زوج وزيرة الثقافة، ثريا جبران. عليوة حضر المسرحية للتعبير عن امتنانه لعزري والزروالي، فهما من بين الفنانين القلائل الذين حضروا جنازة والدته شهرا قبل ذلك.

بعد أبريل، سيطور عليوة أعذاره الموجهة إلى قاضي التحقيق، ففي يونيو 2013، بعث عبر محاميه رسالة تنطوي على سبب مثير للاهتمام لغيابه عن التحقيق: «لدى أبنائي امتحانات سنوية، ويجب أن أكون بجانبهم كي لا تتأثر نتائجهم». كان من الواضح لدى قاضي التحقيق أن هناك استهانة بأوامر الحضور الصادرة عن القضاء، لكن القاضي لم ييأس، فبعث أوامر حضور أخرى. في أكتوبر 2013، وجه إليه أمرا بالحضور، لكن عليوة تحجج بحالته الصحية المتدهورة مرة أخرى. ففي 5 أكتوبر، كان عليوة ممتلئا بالحماسة وهو يسلم على الناس في بهو مركب مولاي عبد الله، قبيل تجمع جماهيري دعا إليه لشكر أعضاء حزبه. كان يقول: «دعوني أتجول قليلا كي أسلم على الناس». جلس عليوة في الصف الأمامي وسط حشد غفير يتضمن مئات الأنصار.

لا تفعل الشيء غير المناسب 10 مرات!

في 2014، قل عدد أوامر الحضور، فقد أنهك قاضي التحقيق نفسه في تحرير أوامر لا يستجيب لها عليوة بتاتا. لكن لماذا لم ينتقل إلى تحرير أوامر بالإحضار بالقوة العمومية؟

مسؤول رفيع بوزارة العدل يقول: «عليه أن يفعلها. من المؤكد أن قاضي التحقيق يحس بالمهانة، لأن الرجل الذي كان يطلبه وقتما يشاء، ويجده وقتما يشاء عندما كان متابعا في حالة اعتقال، ها هو يتجاهله وكأنه غير موجود بالمرة».

لم يوقع قاضي التحقيق أي أمر بالإحضار بالقوة، لأنه لم يجد مساندة كبيرة داخل محكمة الاستئناف، كما يقول مصدر قضائي هنالك. «نُصح قاضي التحقيق بالتريث قبل توقيع أمر بالإحضار ضد خالد عليوة، لذلك خَبت حماسته لفعل ذلك». توقف قاضي التحقيق عن بعث أوامر الحضور، وهو أمر نادر في المغرب أن يرفض شخص متابَع معروف العنوان أن يستجيب لأوامر الحضور الصادرة عن قاضي التحقيق. وبالرغم من أن قاضي التحقيق يجب عليه أن يستمر في بعث أوامر الحضور، إلا أنهم في محكمة الاستئناف يعتقدون أن النيابة العامة أو رئيس محكمة الاستئناف هما الجهتان اللتان يمكنهما أن تقررا ما إذا كانت هنالك رغبة في دفع الملف قدما. «لا يرغب قاضي التحقيق في أن يتحول إلى كبش فداء في حال تدهور الأوضاع مستقبلا في قضية عليوة، وقد أصبح يشعر وكأنه الوحيد الذي يرغب في أن يبقى ملف عليوة مفتوحا. لن يغلق الملف، لكنه لم يشعل حريقا لا يمكن أن يُخمد». يوضح مصدر قضائي بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء.

لا يتابع عليوة من أجل جنح بسيطة، كي يتصرف بهذه الطريقة إزاء التحقيق معه، وصك الاتهام الموجه إليه ينطوي على أمور كيفها قاضي التحقيق كجرائم. لقد جعل عليوة من منصبه كرئيس للقرض العقاري والسياحي منصة لتوزيع الوظائف على أفراد عائلته، وأمطر نفسه بالملايين كتعويضات عن رحلات استجمامه، وحول المؤسسات الفندقية للبنك إلى إقامات فاخرة له، ومطاعمها إلى مكان لتناول وجبات مجانية هو وأصدقاؤه. لكنه فعل ما هو أسوأ، فقد وضع أموال البنك تحت تصرفه الشخصي، وأنفق منها لإصلاح شققه وتجهيزها، وتصرف في أملاك البنك وملكها لنفسه، ومنح عقارات أخرى لمعارفه بأسعار كبدت البنك الذي بالكاد تعافى من أزمته، خسائر كبيرة. لكن ما يحدث في هذه الأثناء، يصور  القضية وكأنها فارغة من أي مضمون.

«تريدون أن تعرفوا لماذا طويت قضية عليوة؟ ببساطة لأن لدى الرجل من يحميه»، يقول عبد العزيز أفتاتي، النائب البرلماني المثير للجدل عن حزب العدالة والتنمية. أفتاتي في تحليله لمآل هذه القضية، يضع الهدف المركزي أمام عينيه: «هل تعتقدون أن الطريق سالكة لمحاربة الفساد في الإدارة؟ توجد دولة عميقة تعمل بشكل مواز كي يكون مثل هؤلاء أحرارا. كانوا يخططون دوما لعرقلة التقدم الحاصل في هذه الملفات، وقد ينجحون في بعض الأحيان للأسف الشديد».

يشرح لنا مسؤول رفيع المستوى بوزارة العدل ما يحدث بدقة في قضية عليوة قائلا: «يسوق البعض قضية عليوة وكأنها فشل بالنسبة إلى وزير العدل نفسه، مصطفى الرميد، بينما في حقيقة الأمر، كان الموقف مؤطرا بخيارين: إما أن يتدخل ويأمر قاضي التحقيق بإصدار أمر بإحضار عليوة، وإما أن يترك بينه وبين القضية مسافة معينة تقاس بها فكرة استقلال القضاء. كان وزير العدل دوما، حينما يطرح عليه السؤال حول ما يمكن أن يقوم به إزاء هذا الملف، يبدو مصمما على أن يتمسك بالخيار الثاني، أي أن يترك للقضاة ولقاضي التحقيق سلطة التصرف».

لم تتطور الأسئلة المطروحة على الرميد إلى مطالبات رسمية، وحتى عبد الله بوانو، رئيس الفريق النيابي لحزب العدالة والتنمية، قال إن «المسار الغريب لقضية عليوة بعد مارس 2013، لم يدفعنا بعد إلى طرح سؤال رسمي على وزير العدل. وحتى بشكل شخصي، لم أسأله يوما عما يحدث، وهو لم يطرح الموضوع أبدا».

على أن مصدرنا، وهو مسؤول بارز في وزارة العدل، يوضح ما قد يُستنتج من أي تدخل من لدن وزير العدل في هذه القضية: «لا يستطيع الرميد أن يقول لقاضي التحقيق إن تأخيرا حدث في هذه القضية، أو أن يطلب منه فعل شيء. ستستنهض الهمم حينها للقول إن الرميد يتدخل في القضاء». لكن هنالك وسائل تتيح لوزير العدل والحريات أن يتحرك لفعل شيء إزاء قضية في وضع تجميد أو حفظ غير معلن، وهذه الوسائل، كما يشرح المسؤول نفسه، تتمثل في «توجيه شكاية إلى وزير العدل حول التأخر الحاصل في هذه القضية، آنذاك يمكنه كرئيس للنيابة العامة أن يحولها إلى المحكمة ذات الاختصاص كي تنظر فيها وتقوم بما يتعين، وستكون طريقة دون خسائر لتحريك الملف».

يمكن أن يقدم الشكاية المتضررون من الأفعال المنسوبة إلى المتابعين في القضية. ولكن من سيفعل ذلك؟ هل صندوق الإيداع والتدبير المساهم المرجعي والرئيسي في الصندوق العقاري والسياحي؟ هذا سيناريو مستبعد.

الرميد..فزاعة الربح والخسارة!

يشرح المسؤول البارز في وزارة العدل أن قضية عليوة يمكنها أن تستعمل في حال تدخل وزير العدل والحريات، لإنهاك هذا الأخير من الناحية السياسية: «في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، يتحدثون دوما عن مفهوم الانتقائية، وكل مرة سقط شخص منهم، وجهوا اللوم إلينا على أساس أن نطاق الاستهداف كان خاضعا للانتقاء المسبق. في حالة عليوة، كانوا لا يملون من تكرار أن عليوة ضحية ممارسات انتقائية لوزير العدل والحريات، مصطفى الرميد، بالرغم من أن الوزير السابق، محمد الناصري، هو من أحال الملف على محكمة الاستئناف وليس الرميد، لكنهم يتجاهلون هذه التفاصيل، لأن هدفهم هو إقناع الناس بوجود تصفية حسابات سياسية تستعمل فيها وسائل ومؤسسات الدولة».

إن السياسة تسيء إلى مفاهيم أساسية في المجتمع كالعدالة، «لأننا هنا أمام حق يراد به حق (التدخل لإصلاح العدالة) لكنهم سيحولونه إلى باطل أريد به باطل (انتقاء لأهداف سياسية) وهم يمتلكون وسائلهم لخداع الجميع كي يبقى خالد عليوة رجلا حرا لا يمس أحد شعرة منه»، يقول مصد حقوقي رفض ذكر اسمه.

تحدثنا إلى عضو في المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي حول موقف عليوة من أوامر الحضور المتكررة، لكنه أجاب بسخرية: «لم يعد هذا الموضوع مهما. لقد أغلق، وعليكم أن تبحثوا عن شيء آخر لتشغلوا به بالكم».

في 6 نونبر 2013، كان مصطفى الرميد يناقش إصلاح العدالة في البرلمان داخل لجنة التشريع. وقتها كان عليوة قد تجاهل نحو 10 أوامر بالحضور وجهها إليه قاضي التحقيق. وكانت هنالك نائبة من الاتحاد الاشتراكي، هي حسناء أبو زيد، أعلنت، وهي تضع تقييما سلبيا لنتائج عمل وزارة العدل، أن «البلاد في حاجة إلى شهداء الإصلاح». توقف الرميد قليلا وأجابها قائلا: «لقد كدت أن أستشهد سياسيا مرتين». وفي رواية بعض المصادر أن العبارة أضيفت إليها: «واحدة كانت بسبب حزبك». ويقصد الرميد بالاستشهاد السياسي، حسب توضيحات قدمها مسؤول بوزارة العدل، تقديم الاستقالة من الحكومة. يقول المصدر: «قضية عليوة كانت سببا في إحدى المرات في دفع مصطفى الرميد إلى تحرير استقالته من الحكومة. لقد طلبوا منه أن يطلق سراح عليوة (قبل موت والدته) لكنه رفض، ولأنه يعرف أن الرفض قد تكون له كلفته، قرر أن يقدم استقالته». ومن سخرية القدر، كما يروي المسؤول المذكور، أن «الرميد الذي كان سيستشهد سياسيا وطواعية، بسبب عليوة، أصبح مكبلا بالأغلال السياسية اليوم وهو يرى الرجل نفسه يهين الأوامر القضائية».

لدى عليوة موقف من الرميد، وكما روى لنا في ذلك الصباح في بيت الجنازة، فقد فضل عليوة السجن على أن يكون حرا وفق معايير الرميد: «عرض علي بنهاشم، وفق ما قال له وزير العدل، أن أغادر السجن لأدفن أمي في ساعتين ثم أعود بعدها إلى زنزانتي. لقد سألت بنهاشم عما إن كان هو أو الشخص الذي عرض عليه ذلك، يستطيع دفن والدته في دقائق ثم ينصرف إلى زنزانته. لقد أخبرت بنهاشم بأنني لن أغادر السجن إذن». بعد وقت قصير، عاد بنهاشم بعرض جديد نسبه هذه المرة إلى الملك، يعطيه رخصة من أربعة أيام. «حينها خرجت من الباب الخلفي للسجن، دون أن أشعر بأني حر بعد كل ذلك القهر». نفى الرميد لاحقا أن يكون قد عرض على عليوة، عن طريق بنهاشم، أي تحديد زمني لرخصة المغادرة، لكن عليوة كان قد حولها إلى بطولة في مواجهته.

كلفة عليوة على العدل

ولج عليوة السجن في 29 يونيو، وفي 4 مارس كان خارجه، حيث قضى ثمانية أشهر داخل الزنزانة.

غطت السياسة على تفاصيل قضية عليوة، وبقيت المشكلة في مستوى واحد: هل رضخ القضاء أيضا للشروط السياسية؟

يقول المسؤول البارز في وزارة العدل إن الكلفة الباهظة لقضية عليوة على سمعة المحاكم لا يمكن نكرانها. «سيلقي البعض باللوم على وزير العدل والحريات بسبب وقوفه متفرجا في هذه القضية، لكن الوزير إذا ما تدخل سيكلفه ذلك الكثير، وقد لا يجد سوى القليلين ممن يملكون الشجاعة لدعمه، وإذا لم يتدخل، وبقيت الأمور تسير في هذا الاتجاه، فإن سمعة القضاة هي التي ستتضرر. كيف يمكنهم السماح لرجل واحد أن يمرغ أنوفهم في التراب بهذه الكيفية؟ على قاضي التحقيق أن يصدر أمرا بالإحضار وننتهي من صداع الرأس».

هو صداع رأس حقيقي، لأن ملف عليوة قدم كواحد من الدعامات الرئيسة لترويج فكرة أن حزب العدالة والتنمية سيكافح الفساد. ولا يمكن، بأي حال، تصور القفز على ملف من هذا الحجم.

كان هنالك قول مشهور لعليوة، يردده دائما حينما يخاطب الصحافيين، وهو في مكتبه بمقر البنك: «عندما ألج مكتبي في الصباح فكأنني قاعد هنا طيلة السنة، وعندما أخرج منه في المساء أقول إنني ربما لن أعود إليه صباح الغد. أنا في مهمة». خرج عليوة من مكتبه في أبريل 2009، ولم يعد إليه، فقد غادر نحو منزله. لكنه في دجنبر 2011، شرع في تلقي استدعاءات الحضور من لدن الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بالدار البيضاء. كان يخرج من منزله في الصباح ويعود إليه في المساء، وبقي على هذا الحال حتى 29 يونيو 2012، حينما ولج مقر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية لكنه لم يغادره نحو منزله. كُبلت يداه بالأصفاد، ونقل إلى سجن عكاشة. لم يكن يتوقع ألا يعود إلى منزله ذلك اليوم، ولم يكن يتوقع أن ينتهي به المطاف في السجن، كان مصدوما، وبقي ثمانية أشهر على هذه الحال. في الرباط، كانت والدته تحتضر وتسأل عنه، لكن أفراد عائلتها كانوا يخبرونها بأن عليوة في مهمة، كما أخبرنا بلسانه يوم الجنازة.

بعدما خرج من السجن، أعلن عليوة بكل افتخار أن السجن حوله إلى قدوة بين السجناء: «كنت أقوم بتأطير من يعد تقرير أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه أو يحضر لامتحان في الماستر، أو يحضر لامتحان السنة الأولى في السوسيولوجيا في الجامعة، أو يدرس اللغة الإيطالية أو الإنجليزية أو الإسبانية، أو يريد أن يفكر في أبعاد وأسس الدين والفقه والفلسفة.. أصدقائي في السجن حببوا إلى نفسي الشعر العربي، وأسسنا ناديا للشعر، وشرفوني بأن منحوني دور الناقد». وهو يقود سيارته إلى الدار البيضاء، لكي يخالط رجال أعمال يمكنهم أن يتحولوا إلى زبناء مهمين لمكتب الدراسات الذي يملكه، لا يشغل باله بموضوع قضيته المعلقة، ويردد عبارة وحيدة حينما يطرح عليه أحدهم السؤال حولها: «لقد كان خطأ من لدنهم، وقد صححوه.. لقد وضعت ذلك ورائي!».

خالد عليوة.. قصة رجل فوق القانون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق