«الصيدليات المتنقلة».. باعة متجولون يروجون أدوية مجهولة المصدر

الأمراض الجلدية، والعيون والأرق.. لتسليط الضوء على الظاهرة، التي جعلت من أرصفة الشوارع والحافلات البيضاوية «صيدليات» مفتوحة لبيع عقاقير وأدوية مختلفة، مجهولة المصدر والمكونات، التقت «المساء» من خلال جولة ميدانية، باعة ومواطنين وصيادلة وأطباء للوقوف على مخاطرها الصحية..
تتخذ «الصيدليات المتنقلة»، التي أصبحت مألوفة لدى البيضاويين، أوجها عدة في حافلات النقل الحضري وكذا في محطات نقل المسافرين وفي الأسواق الشعبية الكبرى، حيث يفترشون الأرض بشكل عشوائي ويعرضون أنواعا مختلفة من الأقراص الطبية وزجاجات الأدوية المختلفة ومواد التجميل في الهواء الطلق وتحت أشعة الشمس.. بلا مخازن أو رفوف خاصة بحفظ الأدوية، حيث تتم عمليات بيع الأدوية علنا، ودون أدنى سؤال للجهات المعنية بالحفاظ على سلامة وصحة المواطنين، لتباع الأدوية وتشترى، وكأنها لعب بلاستيكية أو ملابس داخلية.. حيث لا يطالب بائعو هذه الأدوية المريض بوصفة طبية، بل يكتفون بما يحكيه المريض شفاها، لينصحوه بدواء دون آخر.
أطباء دون بذلات بيضاء
«السلام عليكم أ الخوتْ.. وطريق السّلامة.. جْبت ليكوم اليوم دْوا الحكة.. الإكزيما.. الطيابْ في اللحم الرقيقْ.. بوماضا ريكسْ».. بهذه اللازمة يفتتح حديثه، ليشد أنظار زبنائه من رواد الحافلة، لتسويق منتوجه، ذي الفعالية الشديدة والثمن الرخيص، الذي لا يتعدى عشرة دراهم..
شاب ذو وجه لا يخلو من تجاعيد عميقة، تنوب عنه في سرد معاناته، لتحصيل لقمة العيش الوعرة في مدينة كالدار البيضاء، حيث يخلط في حديثه بين أسلوبي الإقناع واستجداء القلوب الرحيمة، لابتياع منتوجه، الذي يقول عنه إنه من صنع شركة أجنبية، تشرف عليها طبيبة فرنسية.. منتوج يدّعي كونه الحلَّ الأمثل لكل من ضاقت بهم السبل في إيجاد علاج نافع للأمراض الجلدية التي تفتك بالنساء خاصة، جراء استعمالهن مواد التنظيف التي تتسبب لهن في أمراض كالإكزيما.. ويُكثر في تعداد منافع منتوجه، الذي لا يستثني الأطفال، حيث يُخلّصهم مما يصيبهم من الحفّاظات التي تنال من جلدهم، الرطب والحساس بطبيعته.
يمسح بعينيه الزائغتين جوانب الحافلة، في بحث مستمر عن يد تُرفع إعلانا عن رغبة صاحبها في شراء المنتوج، لتنزلق من بين شفتيه، شديدتي السواد، ابتسامة ماكرة تدلّ على نجاح خطته في اصطياد «ضحية» لمرهمه، الذي غالبا ما تشيد به امرأة من ركاب الحافلة، ليست في حقيقة الأمر إلا شريكة له، ترافقه في استنكار، وفي كل مرة تتحدّث عن إيجابيات استعمالها للمرهم، الذي كان خلاصَها الوحيد مما كانت تعاني منه من أمراض جلدية لم يتوفق الأطباء في علاجها.. تنثر، بدورها، عبارات تحفيزية هنا وهناك، لتشجيع الركاب على شراء البضاعة، وخاصة النساء، دون تردد أو حيرة أو حتى السؤال عن محتوياتها وعن مصدر صنعها.
وبمجرد إتمامها «شهادتها»، يواصل الشاب حديثه، لكنْ بصوت أكثر ارتفاعا هذه المرة، وكأنه حقّق انتصارا أو أبعد عنه اتهامات بعض الركاب التي يرددونها في دواخلهم بعدم تصديقه في ما يدّعيه..
يشير بيده التي تحمل المرهم أزرقَ اللون، مجهولَ المصدر والمكونات، إلى تاريخ صلاحية العبوة، تأكيدا منه على جودة منتوجه وجِدة صنعه وقدرته «الخارقة» على علاج ما استعصى على الأطباء الأخصائيين.
ينتقل، بعد انتهائه من تسويق المرهم الذي يحمل اسم «ريكس»، إلى مرحلة البيع مقابل عشرة دراهم. وبعد إحساسه بتجاوب الركاب، الذين غالبا ما يكونون في عراك مع بعضهم البعض من أجل الفوز بكرسي للجلوس أو لأداء تذكرة الحافلة، يسارع ليُخرج منتوجه الثاني، وهو هذه المرة «كحل» للعينين، «مستورَد من السعودية»، حسب قوله، يخلّص النساء والرجال معا من جل أمراض العيون المنتشرة من «جلالة» واحمرار وغيرهما، لتجده، بعد لحظة، وقد أخذ يجوب الحافلة، مذكّرا الركاب بأنه سيغادرهم في المحطة القادمة، داعيا إياهم إلى اغتنام الفرصة التي لا تتكرر، لكونه من سكان مدينة الجديدة ولا يزور الدار البيضاء إلا مرة في الأسبوع، لتسويق منتوجه شديد الفعالية.
أطباء محطات المسافرين..
بدورها، تقوم سيدة في مقتبل العمر باقتحام حافلات نقل المسافرين بعيد مغادرتها لمحطة أولاد زيان ، كي تسوّق منتوجها، الذي ترى فيه الحلَّ الأمثل لجل الأمراض باختلاف أنواعها، وهو عبارة عن دواء مصنوع من الأعشاب الطبيعية، حيث تفتتح وصلتها الإشهارية لتسويق منتوجها بالقول «جبتْ ليكوم دْوا الأكزيما.. العْدوّة اللي كتشكي منها النساء والرجال، هذا الدوا هو الحل.. حبوب مصنوعة من الأعشاب.. نْتوما توكلوا على الله وأنا نتّحاسب، وعلى تقليدي.. مْجرب ورخيص، ما يكلفكومْ غير خمسة دراهم»..
عبارات مقتضبة، لكنها مؤثرة تستعين بها سيدة في الخمسينات من عمرها من أجل إقناع المسافرين من الدار البيضاء نحو وجهات مختلفة، حيث تجعلهم لا يترددون في إخراج بعض الدريهمات من جيوبهم لابتياع منتوجها «الطبيعي»، مسترسلة في حديثها: «شكون يْحلّ البابْ»؟.. «هاك أسيدي، هاك ألالّة»..
بعدما نجحت هذه السيدة في لفت الأنظار إلى بضاعتها و«اصطادت» عددا ليس بالقليل من المسافرين، ختمت حديثها بمتمنياتها لهم بالسلامة والوصول بخير إلى ذويهم.. ليصعد، وبتتابع، فوج آخر من الباعة، غالبيتهن نساء، يحملن بين أذرعهن حقائب سوداء مليئة بأدوية مختلفة، يُحكمن إخفاءها، حيث لا يبدو منها غيرُ ألوان علاماتها الملصقة على القنينات الزجاجية أو البلاستيكية.. وبدورهن، يعرضن خدماتهن الطبية في ترديد مستمر.. «دوا
الأكزيما، البْهاق، الصّيبانة، البْرد».. وبعضهن يعرض على المسافرين حتى خواتم من ذهب مسروقة بأثمنة مغرية، بينما تعرض أخريات أقراص لأوجاع الرأس والزكام، وغيرها من العقاقير بأسعار رخيصة، لا تتعدى خمسة دراهم، إضافة إلى مراهم تقي من تشنجات عضلية ومفصلية لا يتعدى ثمنها 10 دراهم، مع إمكانية الخصم، الذي قد يصل إلى 50 في المائة.
في الواجهة الأخرى لن تكلّفك زيارة أسواق الدار البيضاء الكثير من الوقت لتجد الأدوية متناثرة هنا وهناك، وكأنها في حاوية للأزبال وتحت وطأة الشمس الحارقة والنسوة في بحث مستمر عما يُردن ابتياعه من عقاقيرَ طبية ومواد تجميلية طبية تناسب
دريهماتهنّ.
وفي الوقت الذي رفض غالبية هؤلاء الباعة المتجولين للأدوية الإدلاء بشهاداتهم، خوفا منهم على مصدر يسترزقون منه، وهذا ما يعني بالتأكيد إقرارا ضمنيا منهم بعدم قانونية ما يقومون به من عمل في مجال يستلزم من المتخصصين فيه سنوات من الدراسة والبحث العلمي.. يؤكد أحد الباعة -اشترط عدم ذكر ما يشير إلى هويته- كونه التجأ إلى هذه المهنة بغرض الحصول على المال وكسب قوته وقوت عائلته، مشيرا إلى أنه لو تمكّنَ من الحصول على وظيفة تقيه من البطالة، إذ يحمل شهادة عليا، فكّر في امتهان بيع الأدوية، التي يعي خطورتها على صحة المواطنين، وخاصة النساء اللواتي يقبلن عليها بشكل كبير.. وأشار إلى أن بضاعته يتم جلبها من قِبل وسطاء يبتاعون الأدوية من مدينة وجدة، شأنها في ذلك شأن باقي المنتجات الغذائية، والتي تغزو السوق البيضاوية.
ويقول محمد (تاجر يبلغ من العمر 54 عاما) «لقد أصبح الجميع «أطباء».. وباستطاعتهم تقديم وصفة علاجية بأقل تكلفة، بينما يتطلب هذا، في حقيقة الأمر، مجموعة من الخطوات والتحاليل المخبرية، المكلّفة، لتحديد الدّاء ومن ثمة الدواء، الذي بدوره يعد باهظ الثمن».
مخاطر صحية
أسعار مغرية لسلع مجهولة المصدر لا يدرك أحد خطورتها إلا من اكتوى بعواقبها الوخيمة، شأن عائشة، التي كانت قد اشترت دواء لتبييض البشرة، عملا بنصيحة إحدى صديقاتها، دون أن تكلّف نفسَها عناء السؤال عن تاريخ صلاحية المنتوج ولامدى فعاليته ولا حتى المواد المكونة له.
تقول عائشة، بحسرة واضحة: «ندمتُ كثيرا على اليوم الذي سمعت فيه بنصيحة صديقتي واقتنيت ذلك المبيّض اللعين، رغم عدم حاجتي إليه أصلا.. حيث انعكس استعماله سلبا على بشرة وجهي بعد خمسة أيام فقط من تاريخ شروعي في استعماله، بأنْ ظهرت فيها بقع داكنة اللون وأخرى حمراء.. فبدأتْ معاناتي مع مرض جلديّ كلفني ما يزيد على 3000 درهم كوصفات علاجية داومتُ عليها لما يزيد على الستة أشهر.. لأجل استرجاع ما أفسدتُه باستعمالي منتوجا رخيصا، شوّه جمالي الرباني، والذي لم أدرك قيمته إلا بعد أن فقدته.. ولذلك أعتبر تسويق هذه الأدوية وانتشارها في السوق المغربية نوعا من العنف ضد النساء، تمارسه الجهات المسؤولة بسكوتها عنه»..
أما فتيحة فقد كادت تفقد حياتها بسبب وصفة مستخلَصة من الأعشاب، اشترتها يوما من الحافلة، أثناء سفرها إلى مدينة مراكش، حيث أقنعها البائع بفعالية مكوناتها، التي تساعد على التخلص من الأرق. وتحكي فتيحة قصة معاناتها قائلة: «كنت أعاني من الأرق وصعوبة في النوم، لذلك لم أتردد للحظة في ابتياع ما شجعني على اقتنائه أحد المسافرين بدعوى أنه متأكد من فعاليته الخارقة في مساعدتي على الاسترخاء والنوم بكل هدوء.. لأكتشف، في ما بعدُ، أن ذلك «المسافر» يرافق البائعَ المتجول ل»إقناع» المشترين المُفرَضين ب»جودة» المنتوج وضرورة شرائه من دون تردد.. المهم أن تلك الوصفة كادت أن تودي بحياتي، حيث دخلت في غيبوبة، أجبرتني على ولوج قاعة العناية المركّزة، بسبب تعرضي لضغط دموي حاد»..
في هذا الإطار، أقرّ عبد المنعم لطفي، أخصائي أمراض النساء والتوليد في مدينة مكناس، بأنّ الأدوية المغشوشة أصبحت تشكّل خطرا داهما على الصحة العامة، لأن بعض هذه الأدوية، وفق قوله، تعدّ من المواد المسرطِنة، وحذر المواطنين من خطورة الحصول على الأدوية من دون وصفة طبية أو استشارة صيدلاني ومن خطورة ابتياعها من خارج الصيدليات المرخَّص لها من الجهات الوصية على القطاع، لافتا الانتباه إلى أن الأدوية المهرَّبة، بالخصوص، غالبا ما تكون منتهية الصلاحية أو مغشوشة وتحمل علامات عالمية يتم تقليدها.
وأرجع لطفي الأمر إلى جهل المواطنين بمصدر وأصل هذه الأدوية ومكوناتها الحقيقية والتي تنتجها مختبرات غيرُ معترَف بها، والقادمة من الصين والهند وغيرهما، واصفا الأمر بكونه معضلة، لخطورته المرتبطة أساسا بطبيعة هذه المواد التي تكون، في أغلب الأحيان، إما أدوية منتهية الصلاحية أو مواد كيماوية على شكل مراهم.. تكلف المواطنين مراحل علاجية متعددة وتكلفة دوائية ليست في متناول الجميع، من خلال الحالات التي عاينتها يقول الدكتور لطفي، والتي كانت عبارة عن انسلاخ جلدي أو ظهور بثور، وفي أحسن الحالات، احمرار موضعي بسبب حساسية الجلد للمواد الكيماوية المكونة المرهم الزائف، الذي كلف إحدى المريضات دخول مصلحة بعد إصابتها بحروق من الدرجة الثالثة في أماكن مختلفة من جسمها، حيث وضعت المرهم و يربطه الدكتور لطفي ذلك أيضا بمستوى الوعي الثقافي والاجتماعي للمقبلين على هذه الأدوية، والذين يكونون في غالبيتهم من ذوي الدخل المحدود أو المنعدم.
صيادلة مستاؤون
شدّد صيدلاني في الدار البيضاء -فضّل عدم ذكر اسمه- على ضرورة حفظ الأدوية في أماكن باردة وجافة من أجل الحفاظ على جودة مكوّنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق