مذكرة الاقتطاع من رواتب الموظفين المضربين.. تحريم للإضراب وإباحة للاقتطاع

وأصبح بالتالي وسيلة للضغط من أجل التفاوض بشكل قد يضمن تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للطبقة العاملة.
وقد كثر الحديث عن مذكرة صادرة عن وزارة العدل والحريات حول الأسس القانونية لإجراء الاقتطاع من أجور موظفي الدولة والجماعات الترابية المضربين عن العمل، هذه المذكرة التي لم تستوف الشروط الشكلية لنشرها ولا لاعتمادها، رغم تبنيها من قبل بعض القطاعات الحكومية الأخرى على مواقعها الإلكترونية، وهي مذكرة غير مرقمة ولا مؤرخة، بل ولا تحمل توقيع الجهة المسؤولة التي اعتمدتها، ولا الجهات الموجهة إليها، وقد همت جميع موظفي الدولة تارة وموظفي وزارة العدل تارة أخرى؛ كما يلاحظ على طريقة تحريرها غياب الأسلوب الإداري وسيطرة أسلوب المحامي، حيث كان من بين دوافعها الدفاع عن بني عشيرته الذين ضاقوا ذرعا بكثرة إضرابات كتاب الضبط؛ ومن جهة ثانية، محاولة استدراج النقابات لإخراج القانون التنظيمي للإضراب الذي ترفضه هذه الأخيرة بدعوى إخراج قانون النقابات أولا، وإلغاء الفصل 288 من القانون الجنائي.
وإذا كانت هذه المذكرة صادرة عن قطاع يضمن العدالة للجميع ويصون حرياتهم، فلا بد من الحديث عن مضامينها والتعليق عليها في إطار القانون والحقوق المكتسبة. وما يثير الاستغراب في هذه المذكرة هو افتتاحها بالفصل 29 من دستور المملكة الذي يعتبر الإضراب حقا مضمونا وأنه سيحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته. وإذا كانت البداية توحي باحترام حق الإضراب كحق دستوري، فإن نهايتها كانت مؤلمة جدا، حيث خلصت إلى أن الإضراب ممنوع تحت ذريعة ضرورة استمرارية المرفق العام، وكذا المساس بحقوق المواطنات والمواطنين، اعتمادا على أحكام نفس الدستور، وكأنه يقول إن الدستور الذي منح هذا الحق هو الذي منعه. ورغم جميع المقتضيات التي استند إليها في ضرب العمل النقابي وتحريم الإضراب، فإنه لم يفلح في ذلك لأنه لعب على الكلمات والعبارات المستعملة في تلك القوانين، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث استند إلى الاتفاقية الدولية 87 رغم عدم مصادقة المملكة المغربية عليها، كما اعتمد على المادة 32 من مدونة الشغل التي لا تطبق على موظفي الدولة، وسنجيب عنها أيضا من خلال نفس التشريعات التي اعتمدتها وكذا الاجتهاد القضائي؛ فقد نصت الاتفاقية الدولية 87، والتي تسمى اتفاقية الحرية وحماية حق التنظيم، وخصوصا في فقرتها 2 من المادة 3، على أنه يُمنع على السلطات العامة أيُّ تدخل من شأنه أن يقيد هذا الحق أو أن يعوق ممارسته المشروعة؛ وتضيف الفقرة 2 من المادة 8 من نفس الاتفاقية أنه لا يجوز أن ينطوي قانون البلد في حد ذاته على مساس بالضمانات المنصوص عليها في هذه الاتفاقية، وأن يطبق بطريقة فيها مساس بهذه الضمانات؛ كما نصت الفقرة الأخيرة من المادة 8 من الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أنه ليس في هذه المادة ما يخول الأطراف في اتفاق منظمة العمل الدولية لعام 1948، الخاص بحرية المشاركة وحماية الحق في التنظيم، اتخاذ الإجراءات التشريعية التي من شأنها الإضرار بتلك الضمانات.
والموظف لا يلجأ عادة إلى الانخراط في نقابة ما إلا لحماية حقوقه الفردية والجماعية، وهو لا يلجأ إلى الإضراب إلا عندما توصد الأبواب في وجهه، ولا يجد محاورا جادا أو يجد محاورا يتقن الوعود دون الفعل والتنفيذ، وما أكثر هذا الأسلوب الأخير بالإدارات المغربية، وهناك من يميل إلى التحاور مع المنظمات النقابية المحسوبة عليه أو خلقها أو تقويتها للدفاع عنها وتدافع عنه، فالأصل في العمل النقابي هو الدفاع والذود عن مصالح المنخرطين وتحسين الوضعية بالمقاربة التشاركية والحوار البناء والتي قد لا تكون نهايتها توقف العمل، فقد نصت الفقرة 4 من المادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 على أن لكل شخص حق إنشاء النقابات مع آخرين والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه، كما أن ديباجة دستور المملكة تؤكد وفاء المملكة المغربية لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، يتمتع فيها الجميع بالعدالة الاجتماعية والعيش الكريم، وهذه المتمنيات لن يتمكن منها موظفو الدولة دون كفاح أو نضال، بل ودونما إضراب؛ فالقاعدة أن الحقوق تنتزع ولا تعطى، وما ضاع حق وراءه طالب. وقد يلاحظ في بعض الأحيان من خلال مضمون هذه المذكرة أن صاحبها يعترف بحق الإضراب في الوظيفة العمومية تارة عدا إذا كان سياسيا، ويمنعه تارة أخرى على من يمارسون السلطة باسم الدولة، وموظفي وزارة العدل والقطاعات التي تقدم خدمات أساسية؛ فإذا أمكن السكوت عن الحالة الأولى، فإن الحالة الثانية قد تعني كذلك القطاع الخاص، كالنقل والمواد الغذائية والمحروقات… ولنتصور جميعا إضرابا للموظفين تضامنا مع حكومتهم لموقف داخلي أو خارجي، مثلا أكان هذا هو الجزاء؟ بالفعل لا، ناهيك عن كون موظفي الدولة يستفيدون من العطل والأعياد دون أن تشل الحركة ودون مساس بحقوق باقي المواطنين، فقد عمدت بعض المركزيات النقابية إلى اعتماد أسلوب المداومة كلما كان القطاع حساسا كقطاع الصحة.
واعتماد مرسوم ملكي مؤرخ في سنة 1967 لا يمكن أن يطبق لاقتطاع رواتب الموظفين لأنهم استفادوا من حق مكتسب، فالإضرابات السابقة لم تعرف هذا الإجراء والحق المكتسب يحسب للطرف الضعيف، إضافة إلى أن الاتفاقيات الدولية وأحكام الدستور تعلو درجة على المرسوم، وبالتالي يبقى الحق م
ضمونا إلى أن يرى القانون التنظيمي النور، فقد نص الفصل 6 من الدستور على أنه تعتبر دستورية القواعد القانونية، وتراتبيتها، ووجوب نشرها، مبادئ ملزمة.
أما قاعدة الأجر مقابل العمل فتطبق على أجراء القطاع الخاص الذي يهدف إلى الربح بالأساس، في حين تربط الموظفين بإداراتهم علاقة نظامية وفقا للمادة 3 من النظام الأساسي للوظيفة العمومية، ناهيك عن كون بعض الموظفين يستمرون في أداء وظائفهم خارج أوقات العمل وفي أيام الأعياد والراحة الأسبوعية دون الحصول على أي تعويض. أما الأحكام القضائية المستدل بها فهي لا تشفي غليل الحقوقيين، فالأولى تستند إلى الحالات التي يتقاضى فيها الموظف أجره كاملا ولم يكن ضمنها الإضراب، فالأصل أنه لا تحريم إلا بنص، والنص يتحدث عن الأجرة في القانون الأساسي وعن عدم إمكانية الجمع بين أجرين (الفصل 26 مكرر)، كما أن الأصل في التصرفات والأعمال الإباحة ما لم تمنع بنصّ؛ أما الحكم الثاني فهو يتحدث عن تقديم إذن بالغياب وبمفهوم المخالفة، فإن إخطار الإدارة بالإضراب يعطي الحق للموظف في الراتب كاملا وهو سار عليه القضاء فعلا.
وعلى كل حال، يبقى هذا القرار واجهة للنقابات ورفضا مسبقا لجميع الملفات المطلبية وجرا نحو تقنين الإضراب. وبدل أن يسير بنا الدستور الجديد إلى تقدم المؤسسات وازدهار الأوضاع وإلى ما توخاه المغاربة، ملكا وشعبا، سنكون لا محالة أمام دولة دركية في عهد التحولات الإقليمية والعالمية، بدل حكومة (إسلامية) دافع عنها المغاربة في صناديق الاقتراع، فالمغاربة يقولون (الفقيه اللي نتسناو براكتو دخل للجامع ببلغتو).
باحث في قانون الشغل والعلاقات المهنية
فؤاد رفيه

المساء نشر في المساء يوم 19 – 11 – 2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق