الإحصاء العام و«الميكة الكحلة»

الميكة الكحلاء

الذين يتذكرون عباس الفاسي، يقولون إنه وزير أول من ورق مر كما مر غيره من مسؤولي الورق، ثم ذهب إلى منزلته التي يستحقها في سلم التاريخ. لكن الحقيقة أن هذا تجن كبير، لأن الفاسي دخل التاريخ من أوسع أبوابه وحقق للمغاربة ولمستقبلهم إنجازا عظيما جدا، وهو إصدار قانون صارم يمنع استخدام «الميكة الكْحلة».

كان بإمكان عباس الفاسي أن يدخل التاريخ مرة أخرى لو أن كلاب البيتبول تم منعها فعلا، لكن المشكلة أنه رغم إصدار قانون يمنع اقتناء وتربية هذه الكلاب الشرسة، فإنها لاتزال حرة طليقة في الكثير من المدن المغربية.

على أية حال، فإن منع «الميكة الكْحلة» كاف لوحده لكي يجعل من عباس الفاسي رجلا ليس ككل الرجال. ولو أن كل الوزراء الأولين في تاريخ المغرب قاموا بإنجاز واحد مثل هذا لتغيرت الكثير من الأشياء في هذه البلاد؛ فقد كان ممكنا، مثلا، أن تقرر أول حكومة في عهد الاستقلال، بالمطلق، منعَ استعمال سيارات الدولة؛ وتأتي بعدها حكومة تمنع تهريب العملة، ويأتي وزير أول آخر فيمنع تفويت مرافق الدولة إلى الخواص، ثم آخر يُجرّم الرشوة، وهكذا دواليك. وإذا حسبنا كل الحكومات في تاريخ المغرب لوجدناها أكثر من الحكومات الإيطالية، ولو أن كل واحدة منها حققت إنجازا واحدا فقط لحققنا أشياء كثيرة جدا.

منع «الميكة الكْحلة» كان إنجازا كبيرا بالفعل، فتلك الآفة السوداء أهلكت بقاعا واسعة من الأراضي والحقول، وهناك مناطق كثيرة في المغرب كانت دائمة الاخضرار وتنبت فيها ورود ونباتات نادرة، وفجأة تحولت إلى صحاري قاحلة لا ينبت فيها حتى الشوك، والسبب هو تلك الأكياس البلاستيكية الملعونة التي يرميها الناس في أي مكان ثم تحملها الرياح مثل غربان سوداء مشؤومة، وحيثما تحط الرحال يرافقها موات الأرض والنبات.

المختصون في شؤون «الميكة الكْحلة» وما شابهها يقولون إنها تقتل الأرض لزمن لا يقل عن مائة عام، وإن مكوناتها الكيمياوية أخطر من الأسلحة الكيماوية؛ ومع ذلك وجد المغاربة صعوبة كبيرة في التخلص منها. ولو أن شركات تصنيع تلك «الميكة» استمروا في صنعها وبيعها لما فارقها المغاربة أبدا، وكما قال الشاعر: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى // ما الحب إلا للحبيب الأول.

الغريب أنه بعد زوال عهد «الميكة الكْحلة» ظهرت «الميكة البيضا»، وهي جميلة وشفافة ومريحة للعين ولا تتوفر على خاصيات الموت، لكن المغاربة وجدوا صعوبة كبيرة في تقبلها، وآخرون تحسروا على زمن «الميكة الكْحلة»، والسبب هو أن «الميكة» البيضاء تـُظهر ما فيها، فيعرف الجار ما يحمله جاره، وتكتشف الجارة ما تطبخه جارتها، حتى صار الناس يضعون مشترياتهم في «ميكة» بيضاء ثم يضعونها في كيس بلون قاتم، وهناك من علموا مسبقا بـ»غُبور الميكة الكْحلة» فخزَّنوا الكثير منها تحسبا للأيام الصعبة المقبلة.

المغاربة أحبوا «الميكة» الكحلة وتعلقوا بها لأنها تفهمهم ويفهمونها، فهي «ميكة» رصينة وكتومة وغامضة ولا تـُظهر ما تحتها، وعندما جاءت الميكة البيضاء انكشف كل شيء، فكان لا بد من البحث عن حل، فجاءت «الميكة» البُنيّة، كحل وسط بين السواد والبياض، وهكذا هم المغاربة دائما.. أهل الوسطية والاعتدال في الدين والدنيا.. والميكة.

نزوع المغاربة نحو التكتم وستر الأسرار، بما فيها أسرار المطبخ والجيب، يظهر جليا هذه الأيام من خلال المشاكل الكثيرة التي وقع فيها المكلفون بالإحصاء السكاني. لقد اكتشف هؤلاء أن المغاربة شعب صعب المراس، إلى درجة أن مكلفا بالإحصاء يطرق باب منزل فيصب عليه السكان سطل ماء من النافدة ويشتمونه ويطالبونه بالرحيل وعدم العودة.

المغاربة شعب عجيب فعلا، فاللصوص الكبار يخافون من الإحصاء لأنهم سرقوا أشياء كثيرة جدا ويخافون الكشف عنها، والفقراء يخافون أيضا من الإحصاء لأنهم لا يملكون أشياء كثيرة ويعيشون على الكفاف ويخافون أن يفتضح أمرهم. هكذا صار الإحصاء معضلة ويخاف منه صاحب المصنع العملاق في المنطقة الصناعية وصاحب المحلبة الصغيرة في راس الدرب.. كلاهما يخافان من افتضاح
أمرهما.

سينتهي الإحصاء قريبا وستظهر نتائجه التي سيُقدّرها البعض وسيضحك منها آخرون، لكننا سنغفل عن جانب مهم جدا، وهو أننا سننسى سريعا الطريقة التي استقبل بها مغاربة كثيرون هذا الإحصاء. كنا نتمنى أن يقوم المكلفون بعملية الإحصاء بتدوين الطرائف والمشاكل الكثيرة التي تعرضوا لها ويُصْدرونها في كتاب يبقى ذخرا للأجيال المقبلة، فالمهم ليس أن نعرف كم نحن، بل المهم أن نعرف من نحن.

بقلم عبد الله الدامون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق