عرفات الله ..تجربة روحية

ثم الشوق إليه, ثم العزم عليه, ثم قطع العلائق المانعة منه, ثم شراء ثوب الإحرام, ثم شراء الزاد, ثم اكتراء الراحلة, ثم الخروج, ثم المسير في البادية, ثم الإحرام من الميقات بالتلبية, ثم دخول مكة بالتلبية ” (1).

وحرص الغزالي على تقديم الفهم والشوق والعزم تأكيد لما يخالج كل نفس هامت بتنسم الحقيقة العليا  من مشاعر وانطباعات, واستيقاظ للعاطفة الروحية التي كادت أن تتوارى خلف ستار المادة .

وإذا كانت لمناسك الحج آثارها البليغة في دعم مسيرة العبد نحو ربه, وتجديد إيمانه و مبايعته له, إلا أن مشهد الوقوف بعرفات, والتئام الحجاج حول مركز واحد, يُخلف في النفوس إجلالا واهتزازا وجدانيا تعجز عن وصفه الألسنة, وتكل الأقلام في سعيها لالتقاط أبعاده ودلالاته, وما يبثه للعالم أجمع من رسائل وإشارات !

يعرض المفكر الهندي (وحيد الدين خان) في كتابه الشهير ” حقيقة الحج” خلاصة تجربته الروحية, وانطباعاته غداة حلوله بأرض الحجاز لأداء مناسك الحج, في رحلة غريبة لم يكن الركن الخامس مدرجا فيها ! ولعل أبلغ هذه الانطباعات التي ساقها الكاتب بأسلوب رائع هو وقفته العميقة والهادئة عند مشهد عرفات وما يثيره من حقائق وعظات.

يصف الكاتب هذا المشهد بقوله ” يقدم ميدان عرفات في أيام الحج منظرا تمثيليا لميدان الحشر, فنشاهد أفواجا بعد أفواج من عباد الله يأتونه من كل حدب وصوب في يوم معين. وما أغربه من منظر.. فعلى كل الأجساد لباس بسيط من نوع واحد, لقد فقد الكل صفاته المميزة, وكل الألسنة تردد كلمة واحدة : لبيك اللهم لبيك .. فحضور عرفات يهدف إلى تذكير العبد بمثوله أمام الله يوم الحشر, لكي يجري على نفسه بصورة رمزية وتصورية ما سيجري عليه غدا ” (2).

ويمتد الأثر حسب الكاتب إلى إعلان عهد جماعي بالسير على خطى السلف الصالح الذي اختار العبودية وأداها بصورتها المعيارية : ” هنا يجتمع كل الحجاج في ميدان واحد مفتوح, فيعاهدون ربهم عهدا جماعيا بأنهم سيظلون ينفذون في حياتهم القادمة ما تعلموه خلال الحج, وأنهم سيعيشون مقلدين حياة أولئك الأبرار الذين يُؤدى الحج تذكارا لهم ” (3) .

ويمضي الكاتب في وقفته المتأنية لرصد المعنى التاريخي والرسالي لهذا المشهد الجليل, قبل أن يصوغ بيانه الختامي الذي يحث فيه المسلمين على اتخاذ هذا المؤتمر السنوي العالمي فرصة لتقوية الوحدة , وتجديد  السير على خطى إبراهيم عليه السلام في تنفيذ الخطة الإلهية الدعوية !

أما الشيخ متولي الشعراوي في كتابه الماتع ” الحج المبرور” فيكشف ما ينطوي عليه التئام الحجيج بعرفات من معان إنسانية جمة, تتهاوى أمامها كل الاعتبارات الاجتماعية الأخرى : ” إنك لن تجد إنسانا في عرفة يقول أنا فلان, أو يحاول أن يُباهي بمكانته الدنيوية, بل الكل في ذلة وخضوع لله تبارك وتعالى, يتسابق كل منهم ليعلن خضوعه لله وخشيته منه .. في هذا اليوم الذي ننفض عن أنفسنا الاستعلاء وطغيان النفس, يتجلى الله سبحانه وتعالى علينا بالمغفرة, لأن الذي يجعل بيننا وبين الله حجاب هو اللجج الذي يحدث, واللجج معناه أن نكون في مجتمع واحد وكل واحد منا يرى نفسه أحسن من غيره, يرى ميزاته ولا يرى عيوبه ! في هذا اليوم العظيم نعرف أن ما تميزنا به ليس من عندنا ولكنه من عند خالقنا, فيحدث استطراق العبودية ” (4).

يقول الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله ” ليس البلاغ اليوم في المسلمين بلاغ خبر هذا الدين, فذلك أمر قام به الأولون, وما بقي اليوم صقع في الأرض لم تبلغه قصة الرسالة الإسلامية على الجملة .. إنما المسلمون اليوم في حاجة إلى إبصار, إبصار الحقائق القرآنية التي تتلى عليهم صباح مساء, وهم عنها عمون ” (5).

وحري بمن يشهد عرفات ألا يقف عند حدود  المنسك, أو يستفرغ الجهد في الأداء الظاهر المتماسك لهذا الركن الجليل فحسب, بل يجب أن يرى في عرفات كذلك تجربة إنسانية حية يستعيد فيها المسلم عمق التماثل بين لحظة ميلاده الأولى, ونزوله من غيب الرحم إلى عالم الشهادة, وبين ميلاده الثاني  في عرفات. هذا الميلاد الذي يخلصه من حجب المادة وصوارف الحياة الدنيا ليجدد الإيمان والعقد بينه وبين خالقه على الثبات.

إن مناسك الحج وشعائره في وعي المسلم المعاصر, تكاد لا تفارق الإطار الفقهي بقواعده و شروطه ومستلزمات إنجاح هذه التجربة الفذة. لكن ما تخلفه تحديات العيش في عالم متقلب من استلاب وغربة ورضوض نفسية مؤلمة يٌلزمنا اليوم بالكشف عما في ثنايا العبادات من دلالات روحية و اهتزازات وجدانية تسهم, ولا شك, في تحقيق عمران الإنسان !

حميد بن خيبش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أبو حامد الغزالي : أسرار الحج . دار التحرير للطباعة و النشر . القاهرة 1992 . ص 113

(2) وحيد الدين خان : حقيقة الحج . دارالصحوة للنشر . ط 1 . 1987 . ص8 بتصرف

(3) المرجع السابق . ص 27-28

(4) الشيخ محمد متولي الشعراوي : الحج المبرور . مكتبة الشعراوي الإسلامية . القاهرة 1990 . ص 54

(5) د. فريد الأنصاري : بلاغ الرسالة القرآنية .دار السلام للطباعة و النشر .ط1 . 2009.ص

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق