مجلة الآن تكتب عن "مول البيكالة … المجرم الذي كسر هدوء تزنيت"

فجأة ستتحوّل مدينة هادئة في الجنوب المغربي، تتغنى بتراثها الأمازيغي وعبق تاريخها، إلى مدينة تردد الإشاعة مليون مرة في اليوم. سينكسر هدوء تزنيت وستحلّ محله قصص وأساطير ينسجها مخيال المواطن في المدينة السوسية غير البعيدة عن أكادير؛ سيصبح الحديث واحدا في جميع الحارات والأسوار. من أصغر طفل إلى أكبر امرأة عجوز، ستسمع أهل تزنيت يتكلمون عن هذا الضيف الجديد أو الساكن الذي قرّر أن يخرج مدينة جميلة عن ألقها المعتاد، ستصبح عبارة «مول البيكالة» الخبز اليومي للتيزنيتيين منذ أسابيع، هذا المجرم المتسلسل الذي يعتدي دون أن يقتل على الفتيات بات لغزا محيرا للجميع، سيسمع كل المغرب هذه المرة عن تيزنيت التي لا يعبأ عادة بأخبارها في غفلة من بقية الأخبار، وستتناسل التحليلات والتأويلات عن هوية هذا «البعبع» الذي يرهب النساء وسيعجز الأمن عن فك طلاسم العقدة وسيفتح باب الأسطورة على مصراعيه.

الإشاعة تقتل

لنفهم حكاية “مول البيكالة” أكثر، تنقل فريق «الآن» إلى عين المكان، إلى تزنيت المدينة الصغيرة والجميلة في يوم صيف رمضاني قائظ، كانت المعطيات متضاربة تغذيها الإشاعة أكثر مما تفعل المعلومة الدقيقة؛ ولأن ناسها بسطاء، فإنه كان من السهل أن تنتقل حرارة خبر غير موثوق بسرعة البرق بين الساكنة التي لم تتعود حدثا مماثلا. في وسط المدينة، كان هناك من يتحدث عن وصول عدد ضحايا «مول البيكالة» أو «بو بشكليط» كما تنطق بالأمازيغية إلى 25 ضحية، في حين أن الحصيلة النهائية والمؤكدة ومن مصادر رسمية هي ثماني ضحايا فقط. بالنسبة إلى الفاعل المحلي وعضو نادي الصحافة بالمدينة، محمد الشيخ بلا، فإن المبالغات والتهويلات التي حدثت ساهمت بشكل كبير في التضخيم من حجم ما حدث، إذ إن «الأخبار غير المؤكدة تنتقل، حسب الشيح بلا، بسرعة غير اعتيادية داخل أرجاء المدينة، حيث يكفي أن يطلق أحد السكان هنا خبرا حتى يصدقه الجميع، بل ويتعامل الناس معه كأنه معلومة مقدسة غير قابلة للدحض؛ لكن الأمن أيضا لا يتواصل بشكل جيد، وهو ما يفتح الباب أمام استمرار باب الإشاعة التي تفعل فعلتها مفتوحا»، ويتابع الشيخ بلا:
«الأمر يتعلق بقضية رأي عام، والجميع هنا يتحدث عن «مول البيكالة» في المجالس المفتوحة والمغلقة؛ ولذلك تحرك المجتمع المدني في الأحياء
لمحاولة المساعدة على ضبط ما يحدث. ويبدو فعلا أن الأمر توقف عند الضحايا الثماني، وأن مول البيكالة لن يعاود الكرة على الأقل الآن».

تجندت جميع الطواقم والتشكيلات الأمنية وفرق المخبرين بحثا عن «مول البيكالة» دون جدوى، وتم تقديم عدد من المشتبه بهم دون الوصول إلى هوية المنفذ الحقيقي للعمليات؛ رغم التحاق عدد من عناصر ولاية الأمن بأكادير وانخراطها في حملة التمشيط. ثمة اعتقاد سائد، أيضا، لدى العناصر الأمنية ولا تنفك تسر به على خفوت هو أنها فوّتت فرصة القبض عليه، وأنه إن لن يعاود الفعلة مرة أخرى، ومن ثم فإن أمر الوصول إليه سيكون أشبه بالمستحيل.

المرجح أن صاحب الدراجة الهوائية قد أدرك أن هامش المناورة بات ضيقا بعد الاستنفار الأمني، وقرر أن يتوقف إلى الأبد أم مؤقتا فقط؟ لا أحد يدري حتى الآن.. حتى أن الشرطة استعانت بعدد من الفتيات اللائي كن يجبن عددا من الشوارع المظلمة لمحاولة الإيقاع بصاحب الدراجة الهوائية إلا أنه على ما يبدو فطن للخطة، فقرر أن يبتعد تاركا لأهل تزنيت أن يطرحوا الفرضيات ويطلقوا العنان لخيالاتهم حول هوية هذا الرجل وسنه وطريقة تفكيره، سواِء أ كان بمفرده أم  وجد هناك من يساعده.. تحولت المقاهي والحدائق إلى مسارح لموضوع صاحب الدراجة الذي يباغث الشابات ويطعنهن بسكينه، وما يزيد من تعقيد الأمور هو أن سكان تزنيت يستعملون كثيرا الدراجات الهوائية. يوضح الفاعل الجمعوي الشيخ بلا:«أصبح كل سائق دراجة هوائية مشبوها، وحتى رجال الأمن بدورهم أصبحوا ينظرون لكل سائق دراجة هوائية على أنه ربما الفاعل».

ثماني عمليات تحمل بصمات «مول البيكالة» الخاصة، جميعها نفذ بالطريقة ذاتها، يتصيد ضحاياه من الفتيات اللواتي تراوحت أعمارهن بين 14 و25 سنة في الفترة الفاصلة بين موعد صلاتي المغرب والعشاء، ويباغثهن من الخلف مستهدفا أردافهن بآلة حادة، ثم يمضي مسرعا. كان يحرص على أن لا ترينه الضحايا، لذلك كان يتجنب أن يتواجه مع ضحاياه، ويقوم بفعلته بسرعة قياسية، حتى أن معظم الضحايا لم يشعرن بمخلفات الاعتداء إلا عندما كان قد ابتعد بأمتار. وعلى عكس ما كان يروج، فإن المعتدي لم يكن يختار ضحاياه فقط ممن ترتدين سراويل «جينز» أو ملابس ضيقة، بل إن واحدة من الضحايا كانت ترتدي جلبابا تقليديا أثناء الاعتداء عليها. يومان فقط )17 و18 يوليوز( سيكونان كافيين ليجعل «ميستر إكس» من تزنيت فضاء تمتزج فيه الطرفة بالخيال؛ فعلى سبيل المثال أحد الموقوفين الذي اشتبه فيهم كان يطارد فتاة بدراجته الهوائية ليلا قبل أن يكتشف رجال الأمن أنه لم يكن سوى عاشقا ولهانا كان يبحث عن فرصة معاكسة أو للتعبير عن إعجابه بالفتاة، وامرأة أخرى عضها كلب تائه هرول نحوها عدد كبير من المارة ظنا منهم أنها ضربة جديدة من ضربات «مول البيكالة».

جراح الضحايا تتحدث

كانت الإشاعة مستمرة عن وصول «مول البيكالة» إلى سيدي إفني قبل أن ينتقل بعدها إلى كلميم، كما تحكي الرواية الشعبية. كان فريق «الآن» بصدد مهمة صعبة وهي إقناع الضحايا بالحديث عن تجاربهن المريرة. بعد عناء، ستوافق ثلاث من الضحايا، على مضض، على التحدث إلينا، سيكون الكلام
متقطعا وصعبا وقاسيا تتخلله لحظات صمت طويلة، ستكون خديجة .ح البالغة من العمر 24 سنة أكثرهن شجاعة في الكلام وهي تستحضر تفاصيل ذلك المساء المرعب بعد أن قضت ثلاث ليال متتالية في غرفة العناية المركزة بالمستشفى الإقليمي لتزنيت، بعد ضربة قوية تلقتها في الردف الأيسر. تقول خديجة: «لا يمكن نسيان ما حدث جراء هذا الاعتداء الظالم، خصوصا أنني قضيت ثلاثة أيام في المستشفى ونزفت كثيرا وفقدت كميات كبيرة من الدماء؛ فضلا عن الضرر النفسي الذي وقع لي، وهو أكبر من أن يتم تجاوزه بسرعة. أنا الآن أخشى كل شيء، ولا أستطيع أن أغادر المنزل». تتوقف خديجة عن الحديث قليلا، ثم تتابع: «خرجت غير للحانوت نتسخر.. كان الحال سخون ومشيت نشري الما… ثم وقع ما وقع بسرعة كبيرة دون أن أشعر بما وقع إلا بعد أن مشيت بضعة أمتار.. كنت حينها برفقة صديقتي، وكان الوقت بالضبط بعيد أذان صلاة العشاء بقليل. ورغم أن المنطقة التي وقع فيها الاعتداء علي كانت منطقة عامرة بالمارة عادة، فإنه مر دون أن ينتبه له أحد، رغم أنني كنت الضحية الخامسة.. لقد مشيت وكنت أظنه احتكاكا عاديا أو حادثة عابرة، لذلك لم أصرخ حتى شعرت بالدماء.. صديقتي هربت لأنها كانت خائفة، واضطررت لأخذ سيارة أجرة وأسرع إلى المستشفى».

لم تكن خديجة ترتدي ملابس غير محتشمة كما راج في بعض الأوساط، وفي هذا السياق توضح الضحية ذاتها بالقول:«الناس يتحدثون كثيرا عن أن «مول البيكالة» كان يعتدي على فتيات غير محترمات، وهذا غير صحيح؛ أنا كنت أرتدي جلبابا وبقية الفتيات كن يرتدين ملابس عادية.. والشرطة عوض أن تركز جهودها على القبض على صاحب الفعلة، فإنها ترهقنا بأسئلة كثيرة وكأننا المتهمات.. أنا شخصيا لم يتعاملوا معي بشكل جيد، فقد كانوا يسألونني، مرارا وتكرارا، عن إن كنت أخفي شيئا ما، وإن كنت أعرفه. وكأن الضرر الذي لحق بي جراء هذا الحادث غير كاف! ولست أفهم، للأسف، طريقة التعامل هاته؛ فالمفروض أننا الضحايا وليس العكس». وتختم خديجة كلامها: «الأمر صعب بالنسبة إلينا وإلى عائلاتنا.. لقد واجهت، في البداية، صعوبة إخبار عائلتي، وخصوصا والدي، والآن لا أستطيع مغادرة المنزل، لأنني أخشى أن يتكرر هذا الكابوس مجددا.. وفي المستشفى كان الخوف يصل بي درجة أن أطلب تفتيش المكان الذي كنت أوجد فيه بدقة».

أما نادية. ب (أصغر ضحية) التلميذة التي تدرس في الإعدادي (14 سنة)، فقد كانت بالكاد تنطق ببضع كلمات لتنخرط في صمت رهيب، وكانت تبدو شاحبة الوجه معظم الوقت. تقول نادية: «لقد كنتُ رفقة بعض قريباتي حينما وقع الحادث، ولست أتذكر ما حدث، فلم أشعر بشيء إلا بعد أن حدث ما حدث ثم ذهبت إلى المستشفى ..»، ثم تتكفل والدتها لتحكي لـ«الآن» عن معاناة نفسية صعبة أصبحت تعيشها العائلة كلها جراء هذا الحادث، تقول الأم: «ابنتي أصبحت تعيش كوابيس مستمرة خلال الليل، ولم تعد قادرة على النوم والعيش حياة طبيعية.. إنها تستفيق من النوم أكثر من مرة خلال الليل، وتصرخ باكية وتقول إن «مول البيكالة» سيأتي مجددا.. ابنتي تعيش حالة نفسية صعبة اليوم، وأصبحت تخشى البقاء في الظلام أو إطفاء الأنوار»، كان صعبا أن ينكسر الحاجز النفسي لتستمر نادية في الحديث عن الواقعة: «لقد استدعتنا الشرطة لتعرض أمامنا المشتبه فيهم، لكنني لم أستطع التعرف عليه لأنني لم أر أوصافه..»، هنا ستتدخل والدتها من جديد وعلامات تعجب كثيرة ترافق كلامها لتقول إنه «لم يكن هناك أدنى مراعاة لحالة الضحايا النفسية العصيبة حينما استدعين أكثر من مرة، وحينما عرضت المصالح الأمنية بعض المشتبه فيهم أمامهن مباشرة، إذ كن خائفات وزاد خوفهن الآن أكثر، فلا يعقل أن يتم عرض المتهمين ومواجهتهن به بشكل مباشر».

سناء.ع طالبة في الثامنة عشرة من عمرها، كانت تهم بالعودة إلى المنزل حينما مر «مول البيكالة» على الرصيف واقترف جرمه بالطريقة المعهودة، تحكي سناء لـ«الآن»:».. لقد اعتدى عليّ مرتين، ففي المرة الأولى كان لدي شك، وفي المرة الثانية تأكدت أنه هو.. اليوم أنا لا أغادر المنزل، فما زال الخوف حاضرا بالنسبة إلي .. لدي شهادة تثبت عجزا لمدة 21 يوما، وأنا أخاف من كل شيء ومن أبسط الأمور، وهذه أشياء تحتاج وقتا ليتم تجاوزها»، أما أمها فتقول «إن الجرح النفسي أقسى وأعمق من الجرح العضوي الذي سيبرأ حتما مع الزمن»..

كانت خديجة ونادية وسناء فقط من قبلن الحديث عن مصابهن لـ«الآن»، فيما فضّلت الضحايا الخمس الأخريات التزام الصمت؛ لكن لـ«مول البيكالة» ضحايا ذكور أيضا، الأمر ليس مزحة، الشاب سفيان ذو الخمسة عشر عاما والذي كان أحد المشتبه بهم بعد أن تطابقت صورته وصورة البروفايل المفترضة التي رسمها رجال الشرطة للمشتبه به، وبعد ساعات طويلة من التحقيق قاربت العشر ساعات، سيصاب المراهق بأزمة نفسية، وسيتوقف عن الكلام، وسيدخل حالة من الهذيان، وستعيش معه أسرته البسيطة حالة رعب حقيقية بحسب ما تحدث عنه مقربون من العائلة. لـ«مول البيكالة» ضحية تاسعة إذاً من جنس الرجال.

وحتى حين آخر، وإلى أن يفك اللغز، يبقى «مول البيكالة» شاغل الدنيا ومالئها؛ فلـ«مول البيكالة» مريدون كما هناك ناقمون عليه، هناك من يحييه على بطولة الانتقام لشرف مزعوم وتطهير للأرض قبل مقدم الشهر الكريم، وهناك في الوقت ذاته من يقول إن للجاني خلفيات دينية متطرفة تحركه للقيام بفعلته، وهناك من يعتقد أن كل ما في القصة أن مراهقا طائشا أغرته اللعبة وإفلاته في كل مرة بالاستمرار.. وبين هاته الاعتقادات جميعها، تستمر أسطورة «مول البيكالة»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق