حول تجربة السكرتارية المحلية إفني آيت باعمران: بداية الطريق(1)

وهنا سأتحدث عن أهم التحولات التي عشتها على المستوى الفكري والسياسي وكذا الديناميكيات التي كنت طرفا فيها. البداية بالنسبة لي كانت سنة 1991، كنت طالبا بجامعة ابن زهر التي كانت تهتز تلك السنة على دوي احتجاجات الطلبة ومواجهاتهم مع قوات الأمن على خلفية حرب الخليج الأولى.
قبل هذه السنة، كنت كأغلب الطلبة لا أبالي بنضال ولا أحمل هما لقضية، ولا حتى للدراسة الجامعية التي يفترض أني كنت هناك من أجلها. كانت جل اهتماماتي معاكسة الفتيات على طول ساحل “ليل نهار” Jour et Nuit ، أو في مقاهي ليلية أنصت لموسيقى الريغي أو أغني أحيانا أغاني الفنان الجمايكي بوب مارلي، الذي كنت أعشق موسيقاه حد الجنون.
سنة 1991، شكلت منعطفا مهما في حياتي، إذ بدأت أولى اهتماماتي السياسية تبرز وشكل التعاطف مع الراحل صدام حسين أول أنواع “اليقظة الفكرية” التي داعبت مخيلتي، في انسجام تام مع جل التنظيمات السياسية المعارضة لنظام الراحل الحسن الثاني ولموقفه الداعم للحرب من أجل إرغام جيوش صدام على مغادرة الكويت.
سنة 1992، قررت مغادرة المغرب إلى موريطانيا، بدعوة من أحد أفراد عائلتي المقيم هناك آنذاك، وكان أن عدت لمدينتي سيدي إفني لأقضي بعض الوقت مع عائلتي قبل السفر إلى هناك. الأسابيع التي كنت قررت قضاءها هناك صارت أعواما، إذ لم أغادر سيدي إفني إلا سنة 1995، سنة التحاقي بالمركز التربوي الجهوي إنزكان آيت ملول.
في ذلك الوقت، كانت مدينة سيدي إفني تزخر بفعل ثقافي منقطع النظير، كانت دار الشباب تحتضن عشرات الجمعيات الثقافية والفنية، لم يكن يمر يوم دون عرض مسرحي أو معرض فني أو محاضرة …. كان التنافس على أشده بين تيارات مختلفة، لكنه كان تنافسا مفيدا، إذ كان أساسه الكلمة الجادة والملتزمة والتعبير الفني الجميل في أغلب الأحيان.   
سنة 1992 أيضا عرفت  المدينة أيضا انطلاق مبادرة مهمة،  عندما قرر مجموعة من حاملي الشهادات تأسيس أحد أول فروع الجمعية الوطنية لحملة الشهادات بالمغرب التي تأسست وطنيا لتوها سنة 1991. كنت عضوا في اللجنة التحضيرية لتأسيس الفرع، وكلفت من طرف اللجنة بالسفر إلى الدار البيضاء من أجل الحصول على تزكية المكتب الوطني للجمعية والذي كانت تحتضنه نقابة الكونفيدرالية الديمقراطية للشغل CDT بالدار البيضاء. هناك تابعت اللحظات الأخيرة استعدادا للإضراب العام الذي دعت إليه النقابة، التي كانت من داخل مقرها تذب كخلية نحل جراء اشتغال مختلف اللجان، ومن خارج المقر مطوقة بعشرات الأشخاص بزي مدني، يبدو واضحا من خلال ملامحهم أنهم أعضاء أجهزة بوليسية واستعلاماتية مختلفة. خبر تعليق الإضراب العام سقط كالصاعقة على أعضاء بعض اللجان، حيث رأيت رجالا ينهارون بكاء ومنهم من انتابتهم أزمة غضب حادة، حيث تعالى الصراخ واختلط الحابل بالنابل بمقر النقابة في ذلك اليوم. في تلك اللحظة، حضرت سيدة كنت أنتظر قدومها، وسألتني إن كنت أنا الرفيق القادم من سيدي إفني لمقابلة الكاتب العام للجمعية، قلت: أجل ومن تم انتقلنا إلى مكتب بمقر النقابة مخصص للجمعية الوطنية. هناك تبادلنا أطراف الحديث حول الجمعية وأهدافها والتحديات التي تواجهها، قبل أن تخبرني أن مقابلة الكاتب العام للجمعية لن يتم إلا في الغد، وهي فرصة، كما قالت، لأحظر نشاطا لأحد فروع الجمعية بالدارالبيضاء وأشارك بكلمة نيابة عن اللجنة التحضيرية لتأسيس فرع الجمعية بمدينة سيدي إفني. مشاركتي في الغد، كانت عبارة كلمة نيابة عن اللجنة التحضيرية وأيضا قصيدة زجلية، إذ كنت آنذاك أكتب بين الفينة والأخرى قصائد زجلية من وحي الاستبداد السياسي القائم و اليقظة الفكرية التي كنت أعيش نشوتها.
عند عودتي لسيدي إفني، كنت قد تغيرت بشكل كبير وكانت بداية مشواري الحقيقي نحو الالتزام الفكري والسياسي، وكانت تجربتي الأولى في ذلك الاتجاه كعضو مكتب فرع سيدي إفني للجمعية الوطنية لحمة الشهادات المعطلين بالمغرب، الذي كان يرأسه الأخ محمد الطاقنجة الكاتب المحلي للشبيبة الاتحادية بسيدي إفني آنذاك.
كانت هذه التجربة مدرسة بالنسبة لي، إذ بدأت لفوري أتعلم مفاهيم الفعل النضالي، وصرت أبدل جهدا في فهم القوانين المنظمة لحق التنظيم، خاصة أن القائد قاسم الطويل الذي كان مكلفا بملف الجمعيات والذي آل إليه تسيير شؤون المدينة بعد ترقيته لرتبة باشا بعد ذلك، عرف عليه تضلعه في القانون، وهو ما كان يفرض علينا كأعضاء مكتب الفرع مراجعة القوانين وفهمها بشكل يسمح لنا بمواجهته خلال الساعات الطويلة التي جمعتنا وإياه حول الملف القانوني للفرع ، ثم حول الملف المطلبي للجمعية وكذلك التراخيص للأنشطة التي كانت الجمعية تنظمها.
في سيدي إفني أيضا، كان فرع الجمعية محتضنا من طرف الكونفيدرالية الديمقراطية للشغل، وكان مقرها في حي بولعلام الشعبي، على شارع الحسن الثاني مقابل الباب الثانوي لإعدادية الحسن الأول.
في نفس الفترة، عشت أولى اصطفافاتي الحزبية من خلال شبيبة منظمة العمل الديمقراطي الشعبي صحبة بعض الإخوة أذكر منهم جامع مرابط والحبيب الراجي، حيث شاركنا في الحملة الانتخابية للأخ محمد شوقي، ولا زلت أحتفظ برسالة الشكر التي توصلنا بها من المكتب الوطني للمنظمة، كان ذلك سنة 1992.
في السنة الموالية، كانت الانتخابات الجماعية التي فاز حزب الاتحاد الاشتراكي بأغلبية مقاعدها، وقد شاركت مع أغلبية شباب المدينة في دعم هذه التجربة، إذ رابطنا حتى ساعات متأخرة من الليل أمام مكاتب التصويت كوسيلة للضغط على السلطة لثني
ها على تزوير الانتخابات كما كنا نتصور في ذلك الوقت.  
كل هذه التجارب خلقت بداخلي رغبة في الانتماء إلى حزب أو تيار يوجه الطاقة التي تفجرت بداخلي وفتحت شهيتي فجأة للعطاء وللمساهمة الجادة في تغيير الأمور، وقد اعتقدت في تلك الفترة أن فكر منظمة العمل الديمقراطي الشعبي يلائمني، كنت مواظبا على قراءة جريدة التنظيم “أنوال”، وكنت في الحقيقة على وشك الانخراط في تلك التجربة.
كنت ولا أزال من المعجبين بشخصية المناضل محمد بنسعيد آيت إيدير، ولا زلت أذكر السؤال الذي طرحه من قبة البرلمان على وزير الداخلية السابق الراحل إدريس البصري حول معتقل تازمامارت والضجة التي أثارها السؤال والحرج الكبير الذي واجهته الدولة آنذاك جراء تنكرها لوجود هذا السجن الرهيب. في تلك الفترة قليلون كانوا يجرؤون على الكلام وكنت ولا أزال أقدر من كان يتكلم زمن الحسن الثاني، ولا شك أن النضال والسجن على عهده له قيمته وأن النضال والسجن على عهد سلفه يعد مجرد نزهة.
فتحية لكل الشجعان الذين كانوا يتكلمون عندما كان للكلام قيمة وضريبة قاسية تدفع، إن نحن إلا تلاميذ في مدرسة بُنيت على أجسادكم واعذرونا على جرأتنا على الكلام اليوم وقد أصبح الكلام مباحا، لا بل تعداه صياحا. فمعذرة أيها الأبطال.

 

كتبها إبراهيم سبع الليل ، في 14 يونيو 2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق