عندما ساق الحسن الثاني 1285 من «رجال الأعمال» إلى السجن

واستعماله تعابيرَ مباشرة لا يجد حرجا في البوح بها بأي أسلوب كي تصل إلى من يهُمّهم الأمر.. يقول الراحل الحسن الثاني في خطابه: «طلبت رسميا وكتابة من مدير البنك الدولي أن يقوم بتحليل وراديوغرافيا نزيهة ودقيقة للعناصر الثلاثة التي تكون اهتمامكم واهتمامي يوميا، العنصر الأول هو مشكلة التعليم، والثاني هو إصلاح الإدارة وجعلها قادرة على السير بالسّرعة والجدية والإيجابية التي تمكننا من أن نساير العصر، وثالثا رسم إستراتيجية اقتصادية ومالية وتجارية للسنوات المقبلة حتى نتمكن من أن نكون في صف المتنافسين والسبّاقين (..) وقد قلت له أرجوك أن تعطيني جردا حقيقيا موضوعيا يكون مصحوبا بأرقام وبمقارنات مع دول أخرى في مستوانا وصلت إلى طور الوثبة والقفزة حتى نرى لماذا لم نثِب ولماذا لم
نقفز (..) لقد قرأت هذه التقارير فوجدت فيها فصاحة موجعة وأرقاما مؤلمة ومقارنات تجعل كلَّ ذي ضمير لا ينام (..) نعم كان كل واحد منا يعرف شيئا ما عن جهازنا الإداري وعن منهجيتنا في التعليم، وعن مماطلة الإدارة في التنمية الاقتصادية.. ولكنْ حينما تقرأون التقرير سوف تطلعون على ما لم تكونوا تعلمون»..
ما الذي جعل الحسن الثاني يتحدّث بأسلوب لم يألفه المغاربة؟ وقد عبّر عنه هو نفسه في الخطاب بقوله: «إن لهجة هذا الخطاب اليوم ربما كانت خارجة عن لهجتي العادية».. وما علاقة ما عبّر عنه الملك من مخاوف بما سيأتي في القادم من الأيام؟
الثلاثاء 12 دجنبر.. شهرين تقريبا بعد خطاب الملك، تصدُر دورية مُشترَكة، وقعها كل من وزراء الداخلية والإعلام، والعدل، والتجارة والصناعة، والاقتصاد والمالية.. نصّت على إحداث لجن إقليمية لمكافحة التهريب، تضمّ ممثلين عن وزارة العدل والجمارك والأمن الوطني والدرك الملكي وممثلين عن السلطات المحلية.. تباشر اللجن عملها في سرية تامة، ومُهمّتها غير المعلنة: «الضّربُ بيد من حديد على أيدي المُهرّبين وتجار المُخدّرات»، ممن يهددون اقتصاد الوطن.. أسبوعين بعد ذلك، وتحديدا في ليلة 25 دجنبر تقوم اللجن بعمليات مداهمة لبعض المتاجر والمخازن في درب عمر في الدار البيضاء، وهي العملية التي توالت في باقي عمالات العاصمة الاقتصادية، تبعتها عمليات مماثلة في مختلف الأقاليم، وهو ما أسفر عن اعتقال عدد من التجار ورجال الأعمال وتقديمهم إلى المحاكمة.. وابتداء من هذا اليوم صار المغاربة لأول مرة يسمعون عن شيء اسمه «الحملة التطهيرية».. حملة أسالت الكثير من المداد، وظلت العديدُ من تفاصيلها غامضة حتى بعد مرور قرابة عقدَين عليها..
وطيلة كل هذه السنوات ما يزال الكثيرون يؤمنون بأنّ الحملة كانت ردّة فعل مباشرة على تقارير المؤسسات الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهي التقارير التي دقت ناقوس الخطر بخصوص الوضعية الاقتصادية للمملكة الشريفة، ويربطون بينها وبين فشل مخطط «التقويم الهيكلي»، الذي تميّزَ بإخراج العديد من القوانين وفتح عدد من أوراش الإصلاح، منها ورش الخوصصة وإعادة هيكلة النظام الضريبي وقانون الاستثمار، مثلما يربطونها بما تضمّنه تقرير المرصد الجيوستراتيجي للمخدرات لسنة 1992، وبما ورد أيضا في مقال الجريدة الفرنسية العريقة «لوموند»، الذي أشار إلى المملكة بأصابع الاتهام في توفير الحماية لبارُونات الحشيش!.. فهل كانت الحملة رسالة من الحسن الثاني إلى جيرانه الأوربيين مفادُها أنّ كل ما ورد في تقرير المرصد وما كتبته «لوموند» مجرّدُ أباطيل أريد بها حق؟ ولهذا كان من الضروري إطلاق حملة تطهيرية في صفوف بارونات المُخدّرات وفي دواليب الإدارة لتأكيد أنْ لا أحد خارج عن القانون ولا حماية لأيٍّ كان من أي جهة كانت؟..
وهل صحيح ما ذهبت إليه بعض التفسيرات من كون الحسن الثاني كان يرغب في «معاقبة» المنتمين إلى الطبقة البورجوازية على عدم استجابتهم لندائه بدعم العالم القروي، من خلال المساهمة في الحساب «111» الذي خُصّص لدعم قطاع فلاحي كان يعرف حينها أزمة عميقة.. بدليل أنه كثيرا ما كان يسر للمُقرَّبين منه إنه لا يثق في البورجوازيين، وإنه حين سيحتاجهم سيهْرُبون، طالما أن أموالهم مودعة في الخارج؟.. وما حقيقة إصرار عدد ممن خبروا تفاصيلَ تلك المرحلة على أنّ كل ما حدث لم يكن إلا «عملية محبوكة» لدفع أحزاب الكتلة إلى قبول فكرة التناوب؟ وهو ما نجح فيه الحسن الثاني من خلال ضغطه على رجال الأعمال المتعاطفين مع أحزاب المعارضة..
في هذا الملف طرَقنا باب عدد من المسؤولين ليكشفوا ما يعرفون، لكنّ أغلبهم اعتذروا عن الخوض في الماضي.. ومن بين هؤلاء إدريس جطو، الذي شغل إبّان الحملة منصب وزير الصناعة والتجارة، وتحجّج بأنّ منصبه الحالي على رأس المجلس الأعلى للحسابات يفرض عليه واجبَ التحفظ، وعلى المنوال نفسه سار مولاي أحمد العلمي، وزير الصحة آنذاك، الذي اختار أن يتجاهل اتصالات «المساء» رغم وعده لنا بكشف روايته لمَا حدث.. ومقابل ذلك قبِل آخرون مشاركتنا ما يملكون من معطيات، شرط أن تنسب حقائقهم إلى «ضمير الغائب».. وقلة منهم امتلكوا شجاعة الحديث بوجه مكشوف، ومن بينهم وزير العدل (حينها) عبد الرحمن أمالو ومحمد زيان، وزير حقوق الإنسان، ثم عبد الله بنسليمان، المدير السابق لمعهد باستور، الذي ارتبط اسمه بقضية الصيدلي بنعبد الرازق، وهي واحدة من «ألغاز» هذه الحملة..
من قرّر الحملة التطهيرية ومن وضع تفاصيلها ومن نفذها؟ ثم كيف انتهت بعد أربعين يوما على انطلاقتها؟.. أسئلة ضمن أخرى كثيرة نحاول في «المساء» الإجابة عنها، من خلال إعادة ترك
يب بعض المَشاهد التي لعبت فيها شخصيات أدوارا أساسية، منهم من قضى نحبه وآخرون ما يزالون في مواقع المسؤولية.. حملة أُريد لها أن تقوّم اعوجاجات الاقتصاد الوطني وتساهم في محاربة الرّشوة والتملص من الضرائب واقتصاد الريع.. لكنها أخطأت الهدف والأسلوب، واحتاجت البلاد سنوات طويلة حتى تتخلص من تبعاتها، كما خلفت آلاف الضّحايا والمُتضرّرين..

مولاي إدريس المودن نشر في المساء يوم 15 – 04 – 2013

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق