مقال حول ” البعد المهني والحقوقي والقانوني لمهنة المحاماة” لعبد اللطيف اعمو

01

البعد المهني والحقوقي والقانوني لمهنة المحاماة

الأستاذ النقيب عبد اللطيف أعمو

محام بأكادير

المحاماة رسالة سامية تهدف إلى إرساء العدالة وترسيخ الحق، وهي مهنة تشارك السلطة القضائية في تأكيد سيادة القانون. وهي فوق هذا وذاك مهنة الحرية والكرامة بامتياز.

وفي بعدها  المهني، يمكن العودة في تعريف وظيفة المحامي كمدافع عن زبنائه بالمعنى الأصلي للمصطلح إلى العصور القديمة في روما،  حيث كان المحامي مدافعا عن  العوام أو الناس العاديين (plebéiens)، كما كان ملاذ النبلاء أو الطبقة العليا من المواطنين الرومان (  patriciens  )  .

ودون العودة إلى عهود أقدم لدى المصريين القدماء أو السومريين في عهد حمورابي ، حيث ظهرت وظيفة  ad vocati، وهو بمثابة صديق نلتمس مساعدته للدفاع عن النفس. فقد جاءت وظيفة  الخطيب لتلتصق بمهمة المدافع، والتي تقتضي من المحامي أن يكون عارفا بعلم القانون ويجيد فن الخطابة، وهو الذي يتولى الحديث أمام القاضي نيابة عن موكليه.

ثم أضحى الخطيب تدريجيا، محاميا محترفا، ليحتاج لممارسة مهنته إلى قواعد للعمل تمت صياغتها ومراجعتها تدريجيا على مدى العصور.

وخلال العصور الوسطى، اعترف للمحامي بتأسيس هيئة مهنية برسم وثيقة 23 أكتوبر 1274 في عهد فيليب الثالث بفرنسا، وبتعريف ”الأستاذ“ Maître  كما تم إقرار إجبارية أداء القسم.

وللتأقلم مع رهانات العصرنة والتجديد، اضطرت مهنة المحامي إلى التكيف مع العديد من المتغيرات، ومن أهمها: تطور القوانين والنصوص، وعولمة المشاكل والإشكالات القانونية، إضافة إلى ظهور تكنولوجيا جديدة، وبروز اختصاصات قانونية جديدة.

واليوم، أضحى المحامي ممارسا praticien وخبيرا قانونيا professionnel du Droit.

ورغم أن مهمته التقليدية تتمثل في الدفاع عن زبناءه – ذاتيين أو معنويين -وبشكل عام، تمثيلهم أمام القضاء والدفاع عن مصالحهم، فالمحامي يؤدي دورا  استشاريا، ويقوم كذلك بصياغة الوثائق القانونية.

مهام  ووظائف المحامي عديدة ومتنوعة

إن مهام المحامي تتمثل أساسا في العمل القانوني المحض (إعداد الوثائق للمرافعات الكتابية والشفهية، الدراسة القانونية)، بجانب العمل الحقوقي، وينضاف إليها الجانب التدبيري والتسييري للمكتب بما هو (إداري – مالي – اقتصادي – اجتماعي -…) وهو ما يقتضي مؤهلات تدبيرية ومهنية عالية.

فداخل المكتب، تزدوج وظيفة المحامي بجانب تدبيري، يحدد التنظيم المهني الإطار المهني الذي يشتغل فيه في جوانبه القانونية والقضائية.

 كما يحدد كيفية الممارسة داخل المحاكم وخارجها وداخل المكاتب وخارجها، ويحدد بجانب ذلك العلاقات بين المحامين ومع الأطراف المتقاسمة للخدمات (الزبناء – القضاة – الإدارة العمومية – المساعدون القضائيون – التراجمة – الخبراء – المحاسبون – .) ويحدد في ذات الوقت العلاقة مع السلطة التي تمارس المراقبة والتنظيم المهني …

فالوظيفة الإدارية والتدبيرية ملازمة للوظائف المهنية والقانونية المحضة سواء داخل المحاكم  أو خارجها، وداخل المكاتب وخارجها.

فداخل المكتب، كيفما كان حجمه واختصاصه، تتعدد المهام وتتشعب من استقبال وتواصل وإدارة عامة ومالية وقضائية وقانونية، والتي تشكل الجانب التدبيري لتسيير المكتب بما تقتضيه من أدوات حديثة وفعالة للتواصل، والتي تتداخل عضويامع مهام قانونية تتمثل في إعداد الوثائق  وتحرير المذكرات وتقديم الاستشارة في المجال القانوني.

هذا بجانب مهام مهنية وتواصلية خارج المكتب تتشعب من مرافعة داخل المحاكم وتتفرع عنها وظائف التواصل مع المحيط، من علاقة مع الزملاء ومع الأطراف الأخرى (القضاة، المساعدون القضائيون، …)

فإذا كانت صورة المحامي العالقة في الأذهان والأكثر انتشارا، هي صورة الترافع أمام المحاكم، فهي اليوم صورة غير مكتملة، ولا تأخذ بعين الاعتبار التنوع في مهنة المحاماة.

فالمحامي هو في المقام الأول مستشار في كل ما يهم المجال القانوني، حتى في غياب أي نزاع. وعلاوة على ذلك، فهو يمثل ويساعد زبناءه في جميع الإجراءات القانونية التي يرغبون القيام بها.

والمحامي هو أيضا وسيط، فهو يسعى في الغالب لفتح نقاش مسبق بين الأطراف، والمساعدة على إيجاد حل يناسب جميع الأطراف، لتجنب، الذهاب أمام قاض، إذا أمكن ذلك .

ووظيفة المحامي تتطلب فوق ذلك صفات إنسانية وأخلاقية محددة، كالإيثار والرحمة والإخلاص وحب الخير للآخرين…

أما في بعدها الحقوقي: فإذا كانت مهمة المحامي هي الحماية، فهذه الحماية تكون بالضرورة ضد شخص أو ضد وضع أو مصلحة ما.

وإذا كان  المحامي ملزما، ومن واجبـه توفير تلك الحماية، فهذا يعني بأن مجرد التأكيد على الطبيعة الأساسية والمحورية للقانون ، فهذا لا يكفي لجعله مقدسا، بل أن هذه العلاقة الثلاثية بين مهمة الحماية وواجب الحماية ومحورية القانون هي علاقة صراع وتجاذب وتوثر.

ففي مجتمع مثالي، تأتي مصلحة الأفراد نظريا في المقام الأول، والسلطة تقتصر فقط على ضمان ممارسة حقوق وحريات الأفراد، ومعاقبة كل من تعسف على ممارسة تلكم الحريات والحقوق باسم القانون.

و المحامي في هذا المجتمع المثالي يكون الضامن بأن  القضاة يتتبعون فعلا الإجراءات القانونية  ويتولى التحدث إليهم باسم موكليه.

فحقوق الإنسان يطالب بها ضد السلط  (pouvoirs)، التي غالبا ما تكون مفترسة للحقوق ومتعسفة عليها أكثر من حمايتها.

ويجب على المحامي، أن يحرص على الدوام،  على أن يكون حارسا للقانون وضامنا لحريات الأفراد.

قوة القانون ضد قانون القوة

إن علاقة الإنسان مع بيئته تثير إشكالية أساسية، وهي كيفية التوفيق بين القانون الخاص والقانون العام  وبين القانون والحريات الفردية، وبين حق الملكية وحق البشرية في العيش الكريم في ظروف ملائمة للجميع…

فقيمة العدالة كفكرة مثالية مؤسسة لكل مجتمع هي في قلب الصراع بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة.  ويتطلب البعد الحقوقي في شخصية المحامي الملتزم مواجهة القوة بالقانون، من منطلق أن دور القانون  هو حماية حقوق وحياة الأفراد.

وهذه الوظيفة غالبا ما يهددها خطر كبير هو تحريف مسار القانون في محاكم منحازة، تدار من طرف قضاة ينعدم لديهم الحس المهني ولا يحركهم الوازع الأخلاقي … وتحيط بهم حفنة من المحامين المتآمرين والانتهازيين والوصوليين، والذين يدفعون مهنة المحاماة نحو الانهيار الأخلاقي وعدم مواجهة هذا الوضع المأساوي.

إن الثلاثية المهددة لقوة القانون ضد الفساد هي: محاكم منحازة وغير عادلة، وقضاة ضعاف غير مستقيمين،  ومحامون بدون أخلاق،

وتعتبر المحاماة من هذا المنطلق، الحاجز الواقي الملتزم بمبدإ حق الدفاع، كحق كوني إنساني (باعتباره حقا أساسيا من حقوق الإنسان). كما أن المحامي معني بترسيخ الحقوق وتطويرها والدفاع عنها أمام قانون القوة وطغيان القانون.

و يساهم المحامي في حماية حقوق الإنسان على مستويين:

فهو يساهم  على  المستوى الفردي، في تطوير الحقوق الفردية كجزء من الدفاع عن شخص ما، لضمان احترام حقوق الدفاع وضمان المحاكمة العادلة أمام محكمة غير منحازة، انتصارا للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وهو في هذا يتدخل لحساب شخص معين.

أما على المستوى العام والشمولي، فالمحامي هو كذلك عضو في هيئة مهنية، وفي تنظيم مهني للمحامين أو عضو في منظمة حقوقية تعنى بحقوق الإنسان. ويتصرف بصفته الرسمية في أفق بناء مجتمع ديمقراطي وتشييد دولة المؤسسات وترسيخ سيادة القانون، وهنا يتدخل المحامي لحساب مصالح  جماعية ومجتمعية مشتركة.

أما البعد القانوني لمهنة المحاماة، فهو يحيل المحامي على أدوار عديدة، ووظائف متنوعة:  فمن دور المرافقة القانونيةaccompagnant juridique   إلى دور الوساطة médiateur   ثم إلى دور المدافع  défenseur   تتعدد قبعات المحامي وتتنوع.

كل هذا بجانب وظائف أخرى، هي في معظمها تندرج في خانة التقني القانوني، بجانب ممارسة مهمة الترافع لفائدة الموكل أمام المحاكم، وهي كلها مهام تتطلب صفات إنسانية خاصة، كالحساسية والتعاطف مع من يترافع لصالحهم.

المحاماة: مهنة … وحرف عديدة

حتى لو أن للمحامين أدوار المرافقة القانونية، وتقديم المشورة والدفاع عن موكليهم، فهناك الكثير من التنوع داخل مهنة المحاماة.

فهو تنوع في وضعية المحامين:  حيث يختلف الوضع المهني للمتعاون الحر le collaborateur libéral  مع المتعاون الأجير le collaborateur salarié

أو المحامي المستقل l’avocat indépendant  والمحامي المساعدl’avocat associé

كما أن التنوع يكون في حجم المكاتب ، وفي طرق تدبيرها وتسييرها، ويمكن الحديث عموما عن مدرسة لاتينية ومدرسة أنجلوسكسونية.

وعموما، شهدت مهنة المحاماة تطورا ملحوظا مع تطور القانون في شتى المجالات. وهنا لا بد من الإشارة إلى دور المنظمات المهنية المتعددة والمتنوعة في مسايرة التطورات في المجال القانوني والتنظيمي والتواصلي …، حيث يتم تنظيم المحامين في هيئات، منتشرة في جميع أنحاء المغرب، على غرار باقي بقاع العالم. ويتم تسيير كل هيئة من قبل نقيب منتخب من قبل زملائه المحامين.

وتنتظم جميع الهيئات في إدارتها وتنظيمها، في مجلس وطني للمحامين (جمعية هيئات المحامين).

وهذا البعد القانوني والمهني يقتضي تطوير البعد الأخلاقي والالتزام بقيم الاستقلال والتجرد ، بجانب تطوير البعد الاجتماعي وتقوية البعد التضامني، إضافة إلى دعم البعد الاقتصادي.

وبشكل عام، فعلى المحامي أن يسترشد بمجموعة من المبادئ الأخلاقية (الإنسانية والكرامة والضمير …) والتي تسمى ”الأخلاق“ المهنية.

منظومة القيم، رابط موحد للأبعاد الثلاثة

نحن نعلم كمهنيين بأن العزلة تجعلنا في وضع هش،  ونكون عرضة للخطر … كما ندرك أن وحدتنا هي مصدر قوتنا.

فصوت المحامي يكون مسموعا بالخصوص، ويكون مرغوبا في نصائحه أكثر، ويتضاعف احترام زبناءه ومحيطه المهني له، إذا استطاع  أن يضيف لمعرفته القانونية زاد الأخلاق والشرف والكرامة والمهنية الدقيقة والصارمة.

فالرابط بين هذه الأبعاد الثلاثة : البعد المهني والبعد القانوني والبعد الحقوقي، هو منظومة القيم التي تتأسس عليها الأعراف وتقاليد مهنة المحاماة: باعتبار أن  هوية المحامي تستند إلى خمس ركائز يتعين على المحامي ألا يجهلها أو يتجاهلها، وهي: الاستقلالية وتجويد الخدمات القانونية والحفاظ على السر المهني وتفادي تضارب المصالح إضافة إلى توخي الربح المادي المشروع.

وهذه الأسس هي التي تحدد الانتماء المهني الذي يتعين على المحامي الاعتزاز به والتشبث به  والدفاع عنه. فالمحامي يمارس مهنة مستقلة وحرة – وحيدا كان أو شريكا أو مساعدا أو متعاونا أو محاميا مستخدما –  أي لا ينبغي له أن يؤسس قناعاته من منطلق مصلحة شخصية أو بضغط خارجي،

فهو يؤدي وظيفة خدماتية مرتبطة بالقانون بتجرد ومهنية ،  وهو يؤدي وظيفته في احترام تام للسر المهني،  كما يتجنب السقوط في وضع تضارب المصالح conflit d’intérêt … وهو في طبيعته، وفي جوهر وظيفته، ”غير مهتم“ désinteressé  (أي أنه إذا كانت لديه رغبة مشروعة في كسب العيش الكريم، فعليه أن يتفادى الدخول في شراكة أعمال مع زبناءه… أو استغلال وظيفته لكسب غير مشروع)

إن تجاهل عنصر من هذه العناصر الخمسة يشوه مهنة المحاماة.

التواصل بحرية ، والتفاعل بصراحة،

إن على المحامي أن يتواصل بحرية ويتفاعل مع محيطه بصراحة، ودائما في احترام تام للمبادئ الأساسية:

فالقواعد المهنية التي تشكل قوة مهنتنا وصرامة التزامنا في خدمة المتقاضين، هي ليست بالتأكيد عائقا أو حاجزا أمام تطور مهنة المحاماة، بل بالعكس هي رصيد هائل في خدمة تنمية وتجويد خدماتنا لصالح مستهلكي القانون.

فلا هي حواجز، ولا هي عوائق، ولا هي نزوح نحو الانغلاق على الذات، بل  هي توفر في الواقع مساحة كبيرة من الحرية في احترام القواعد المهنية، ولا تطرح قيودا مكبلة غير التي تبررها الأسباب التي تغلب المصلحة المهنية والمصلحة العامة، من بينها  تلك التي تحمي مستهلكي القانون، والمتسمة بالتناسبية وعدم التمييز.

فالقواعد المهنية ليست بمثابة محظورات عامة، لكنها تقييم، لكل حالة على حدة، وتقويم للاعوجاج، وذلك بالارتكاز على المبادئ الأساسية التي تنبني عليها حدود ما هو مقبول مهنيا وأخلاقيا وقانونيا.

ومن هنا تأتي الحاجة إلى هيكلة مهنة المحاماة على أساس الأبعاد الثلاثة: المهنية والقانونية والحقوقية، وتقويتها وتعزيزها بمنظومة للقيم الضابطة والمؤطرة وطنيا ومحليا.

فعلى المستوى الوطني … يعتبر القانون والمراسيم والأنظمة الداخلية، مصدر التنظيم المهني الأساسي،  ويعزز باجتهادات المجلس الوطني، والتي تساهم في إغناء قواعد ممارسة المهنة وتنمية الأعراف والتقاليد وتثمينها ، كما تحرص على وحدة الممارسة المحصنة للأخلاق وتنوع الأساليب.

وعلى المستوى المحلي، يتعين التأكيد على دور مؤسسة النقيب في إغناء قواعد ممارسة المهنة وتأويلها ، بجانب تطوير أعراف الممارسة وتقاليد المهنة وضمان التنسيق والتواصل، إضافة إلى تحليل المعلومة، التي أصبحت رهانا استراتيجيا ومهنيا فاعلا في زمن العولمة والانفتاح.

عبد اللطيف أعمو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق