الباكلوريا والغـش: استنفارالمراقبين ودهاء التلاميذ

حسن زاكي

تشكل فترة الامتحانات منعطفا مهما في شتى الميادين؛ فهي بمثابة الموسم الذي يجازى فيه كل حسب ما قدم من عمل؛ فمن أبلى البلاء الحسن واجتهد وأبان عن الاستماتة في سبيل تحقيق مبتغاه، فسينقلب إلى أهله مسرورا، وأما من آثر الجمود والكسل على بذل أي مجهود يوصله إلى الهدف، فستكون خيبة الأمل مصيره المنتظر.
مجال التربية و التكوين لا يختلف كثيرا عما سلف ذكره. فإما الفلاح والنجاح لمن لمسنا فيه، طوال السنة الدراسية، الرغبة الجامحة في التعلم و التحصيل؛ أو المذلة و الاهانة لمن تهاون واستخف بواجباته واكتفى بلعب دور المتفرج داخل الفصل، ربما لأنه ألف النجاح في آخر السنة دون بذل أي مجهود وبمعدلات متدنية، ليعتبر ذلك حقا مكتسبا، فنحن في عهد أجيال مدارس النجاح حيث تتكفل المنظومة التربوية بمختلف متدخليها بإنجاح الحلقة الأهم فيها ألا وهي المتعلم الذي يجب أن تلبى له كل الحاجيات، كما علينا نحن المدرسين أن نغض الطرف و نتغاضى عن نزواته، تحت ذريعة أنه قاصر و أنه ما زال طفلا يافعا وينتظره مستقبل زاهر. علينا أن نـمــطـــط فـصول القانون و بنوده ونكـيفها لتمتيع التلميذ بأقصى ظروف التخفيف حتى و إن كان الأستاذ ضحية لسلوكه العدواني الشاذ. كم من أستاذ شج رأسه وهشمت عظامه وتأزم نفسيا حتى كره اليوم الذي ولج فيه تلك الوظيفة! لم ينصفه أحد بل اعتبروا أن ذلك كله يهون في إطار التضحية ونكران الذات (لإنقاذ فـلذات أكبادنا من غياهب الجهل والأمية) و كذا الأخطار المهنية اللصيقة بأداء الواجب. الكل يجب أن يتجند ويتفان في خدمة المتعلم حتى أن هذا الأخير أصبح يفرض نفسه حتى على أجندة الحكومة، وبشكل استعجالي، لاستصدار القوانين عشية الامتحانات، فالتعليم هو القضية الوطنية الثانية بعد القضية الترابية.
الغش في الامتحانات ظاهرة تقض مضجع المسؤولين فقد بلغ ذروته في الآونة الأخيرة؛ وكاد أن يذهب بهيبة الباكلوريا الوطنية المغربية التي كان يضرب بها المثل فيما قبل، لأن الحصول عليها كان يعد من سابع المستحيلات ولأنها كانت تفتح أبواب سوق الشغل والجامعات الأجنبية على مصراعيها. ولعل ما يثبت فقدان الباكلوريا لمصداقيتها هو جحافل المعطلين الذين تلفظهم الجامعات والمعاهد المغربية لتكون وجهتهم الموالية أمام مبنى البرلمان، ليعكروا صفو تلك المؤسسة بالتشويش وإزعاج ممثلينا وممثلاتنا أثناء أدائهم لمهامهم السامية واشتغالهم بمشاكلنا وهمومنا أو أثناء الاستسلام لغلبة القيلولة أو لغفوة أثناء عرض لوزير ما أو سؤال يتلعثم صاحبه كما يتلعثم من التبست عليه الحروف الأبجدية أو ربما أثناء تركيز لفك لغز لعبة معقدة، تبرز بوضوح تمتع ممثلينا بذكاء ثاقب أو حتى أثناء قفشات مايسترو الوزراء في جلسات المساءلة الشهرية.
ظاهرة الغش يمكن اعتبارها مؤشرا إيجابيا، فهي دليل قاطع على أن تلامذتنا ما زالوا يتمتعون بملكة التفكير ويخططون ويكدون ويعملون على توفير كل المستلزمات والوسائل واللوجستيك من أجل بلوغ الهدف. الغش كذلك دليل على مدى تمكن تلامذتنا من امتلاك ناصية الوسائل الحديثة للاتصال وتطوير أساليب الغش كما يدل ذلك على مواكبتهم للمستجدات في هذا المضمار متحدين ومتفوقين على ترسانة و آليات كشف الأجهزة التي استعانت بها الوزارة لزجر الغش. التلميذ الذي يستطيع أن يتحايل على المراقبين (الذين لم يتلقوا أي تكوين في الغش الحديث و أساليب محاربته) بشتى الوسائل التقليدية والحديثة لا يمكن إلا اعتباره تلميذا ذكيا دائم البحث عن الجديد بل يكثف من مجهوداته ويشمر عن ساعده و يتفنن في استراتيجياته عملا بالمقولة الماكيافيلية: “الغاية تبرر الوسيلة”. الخداع مباح حتى أثناء الحرب فما بالك بامتحان لا يخلف لا ضحايا و لا معطوبين إنما هي نقطة لن تكلف المصحح شيئا يذكر فهي لا تكلف ميزانية الدولة شيئا ولا تثقل كاهلها ولكن ستغير الكثير في حياة التلميذ الغاش من أجل المصلحة (على سبيل المزاح). كيف يمكن أن نطالب التلميذ ذلك الملاك الصغير والحمل الوديع بإثبات قدراته والاعتماد على نفسه ومنظومتنا التربوية هي التي صنعته؟ أضف إلى ذلك ما تلقاه واستلهمه من محيطه الاجتماعي والأسري؛ فالغش هو العملة السائدة في كل معاملاتنا اليومية بل الغش هو الهواء الذي نستنشقه والذي بدونه لا يمكن أن تستمر الحياة. كيف يمكننا أن نطالب المتعلم بالكف عن الغش و هو يرى ويتتبع كل يوم فضائح برلمانيينا ووزراءنا اللغوية والنحوية وحتى التعـبيربة التي تنم عن ضعف المستوى التعليمي للفئة التي من المفترض أن تكون المثل الأعلى للناشئة؟ تلك الفضائح التي تصلح لأن تكون مادة لديوان للنكت والمستملحات. كيف يمكننا أن نطالب المتعلم بالكف عن الغش و هو يرى رجال السياسة قد انقلبوا على مبادئهم بعد أن تمكنوا من بلوغ مرادهم وتبوؤوا المناصب العليا وأتقنوا ربط ربطات العنق؟ تلك المبادئ التي على أساسها انتدبناهم ليمثلونا ويدافعوا عن مصالحنا ويصلحوا ما استطاعوا من أمرنا، ألا يعتبر كل ذلك غشا؟ لماذا نحارب الغش اليسير بكل ما أوتينا من قوة ونجند له ترسانة من القوانين والإجراءات وجحافل من المراقبين والمراقبات وميزانيات طائلة وكأننا نحارب دولة عظمى استباحت أراضينا وحرماتنا؟ ولم لا نحارب الغش في الحملات الانتخابية و الاستفتاءات الشعبية والصفقات العمومية بنفس تلك الحدة وهي التي تخلف مشاريع لم تنجز قط أو كانت السبب في إزهاق الأرواح البريئة وما الطرق إلا أبسط مثال على ذلك؟ لم لا نحارب الغش الذي يقترفه المراقبون على الطرقات والذي يشكل السبب الرئيسي لإزهاق أرواح بريئة؟ لم يجب معاقبة من يسرق حروفا وكلمات ولا تتم معاقبة من يستولي على الملايير ويستبيح أموال الشعب بأكمله دون وجه حق؟ لم نصفح عن الغشاشين من العيار الثقيل (عفى الله عما سلف)، وقد ثبتت في حقهم جميع التهم المنسوبة إليهم وننزل أقصى العقوبات بمن يسرق مكرها حفنة من الكلمات؟ لم لا نميز بين الغش الايجابي والغش السلبي (على شاكلة التمييز الإيجابي بين بنات حواء و أبناء آدم)؟ فالغش الإيجابي سيمكننا من الرفع من نسب النجاح، وننال بذلك رضى الهيئات والمؤسسات الدولية فتغدق علينا من الحسنات أو الصدقات ما هو كفيل بملء جيوب بعض الغشاشين الذين سيحولون جزءا بسيطا منها إلى حبات العدس أو السردين المعلب تسلم بمقدار للأفواه الجائعة في إطار ما يسمى بالمطاعم المدرسية لمحاربة الهدر المدرسي. إنها فعلا أزمة أخلاق وصدق أحمد شوقي إذ يقول : إنما الأمم الأخلاق ما بقيت # فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
ملاحظة: يجب أن لا يفهم مما سبق أنني أدافع عن الغش أو أدعو إليه إنما أستغرب للمتناقضات المستشرية في مجتمعنا.

بقلم حــســن زاكـــــي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق