إشـكــــــالـيــــة الإختصاص القضائي في المنازعات البحرية

المنازعات

رغم الأهمّبة الكبرى التي يحظى بها المجال البحري،في الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والثقافية المغربية،إلّا أنّه مازال لم يَرْقَ إلى المستوى المطلوب،ولم يَحْظَ بالإهتمام اللّازم من طرف المعنيين بالقطاع والقائمين عليه،ممّا ترتّب عنه تدهور مهول في هذا القطاع،نظراْ لإنعدام المادّة القانونية اللازمة وتضارب الإختصاص القضائي ، كما أنّ هذا الموضوع يتّسم بنُذرة العمل القضائي المنشور،بالرغم من أنّ واقع الحال يؤكّد أنّ أغلب علاقات الشغل البحري تنتهي بين جدران المحاكم،إلّا أنّ هذا البحر بمختلف مجالاته لن يكون مفيداً لأيّ دولة،إلّا إذا توفّرت على الوسيلة القانونية الكفيلة بذلك والتي هي القانون البحري،الذي يعثبر الإطار الأنسب لممارسة الأنشطة البحرية بمختلف أنواعها،ومن أهمّ المواضيع التي تجد ملاذها في القانون البحري، هي تلك المتعلّقة بالنزاعات البحرية والإختصاص القضائي بهذا الشأن،أمّا إشكالية القانون الواجب تطبيقُه في النزاعات البحرية،فهو يعرف مجموعة من الإشكاليات الناتجة عن تنوّع مرجعيات القانون البحري والمتأرجحة مابين قواعد التشريع الوطني والإتفاقيات الدولية،زيادة على الأعراف الوطنية منها والدولية وهو ما يطرح إشكالية الإختصاص القضائي في النزاعات البحرية،فما هو مدلول الإختصاص القضائي ؟ يُعَرَّف الإختصاص من الناحية القانونية بأنّه سلطة جهة قضائية معيّنة للفصل في دعاوى طبقاُ للقانون،ويُقصد بقواعد الإختصاص مجموع القواعد الإجرائية التي تحدّد ولاية كلّ جهة قضائية،فما هي أنواع الإختصاصات القضائية التي تهمّ مهنيي قطاع الصيد البحري ؟

القضاء العــامّ (المحاكم الإبتدائية): لم يكن القانون البحري المغربي لسنة 1919، يتضمّن أيّ إشارة إلى المحكمة المختصّة نوعيّاً للنظر في النزاعات البحرية،ولهذا كانت المحاكم الإبتدائية العادية هي المختصّة نوعيّاً،للنظر في كلّ النزاعات المتعلّقة بالملاحة البحرية،بإعتبارها محاكم ذات ولاية عامّة للنظر في جميع القضايا.

الإختصاص القضائي النوعي (المحاكم التجارية): وهو السلطة المخوّلة لجهة قضائية معيّنة للفصل في نزاعات دون سواها بالإعتماد على طبيعة النزاع أو نوعه،أي لا يجوز لأيّ جهة قضائية أخرى الفصل فيه مهما كان،وقد جاء الإختصاص القضائي إستجابة للظروف الداخلية والخارجية التي أملت على المغرب ضرورة مواكبة مستجدّات العصر،وذلك إبتداءا من سنة 1996 تاريخ صدور مدونة التجارة الجديدة، وبعدها مباشرة في سنة 1997 حيث تمَّ دخول نظام المحاكم التجارية إلى التنظيم القضائي للمملكة،حيث تم إسناد الإختصاص إليها في القضايا التجارية البحرية والجوية، على أساس أنّ الممارسة الإعتيادية والإحترافية لهذه الأنشطة تؤدّي إلى إكتساب صفة تاجر،هذا دون أن ننسى ما ذهبت إليه المادة 6 من نفس المدوّنة في بُنْدَيْهَا السادس والثامن،عندما إعتبرت عمليات النقل والتأمين بمثابة أنشطة تجارية،ناهيك عن تنظيم عقد النقل ضمن الباب الرابع المنظّم للعقود التجارية في مدونة التجارة،ممّا تكون معه القرينة على تجارية الأنشطة البحرية ذات الاختصاص النوعي بإسنادها للمحاكم التجارية ،ولكن هل يمكن أن ينطبق على قطاع الصيد البحري ما ينطبق على الملاحة البحرية ؟ بمعنى آخر هل يمكن أن نعثبر البحار تاجرا ؟

الواقع هو أنّ قطاع الصيد البحري لايمكن أن نصنّفه ضمن الأعمال التجارية،وهو بذلك يشكّل إستثناءا من الإستثناءات العديدة،الواردة على قضاء الاختصاص النوعي في النزاعات البحرية،كتلك المترتّبة عن عقد الشغل البحري،والتي يتعيَّن عَرْضُهَا لُزوماً على السلطة البحرية المختصّة قبل طرق باب القضاء،ويتعلّق الأمر بجميع المنازعات التي تنشأ بين المجهّز وممثله وبين البحّارة،والتي يكون موضوعها عقد العمل البحري أوالتدريب المهني،إضافة إلى طلبات التعويض عن الأضرار الناتجة عن حوادث الشغل أو الأمراض المهنية،ويرجع الإختصاص بطبيعة الحال في هذه القضايا إلى القضاء الإجتماعي لدى المحاكم الإبتدائية،أمّا عن الإستثناء الآخر المتعلّق بالجرائم المرتكبة في الميناء على ظهر السفينة فيرجع الإختصاص النوعي فيها إلى المحاكم الزجرية،وبالنسبة للقضاء الإستعجالي فإنّ الإختصاص يرجع فيه لرئيس المحكمة التجارية،بصفته قاضيا للأمور المستعجلة وذلك طبقا للمادة 21 من القانون 53/95 المحدث للمحاكم التجارية،ولا بدَّ من التنبيه إلى أنّ الإختصاص النوعي يُعتبر من النظام العامّ،ولا يجوز الإتفاق على مخالفته،كما يمكن أن يثيره القاضي من تلقاء نفسه طبقا للمادة 16 من قانون المسطرة المدنية.

الإختصاص القضائي المحلّي (المحاكم المحلّية) :  يقصد بالإختصاص المحلّي صلاحية البثّ في الدعوى على أساس جغرافي،وهو منظَّمٌ في إطار التشريع المغربي بمقتضى قواعد المسطرة المغربية،إضافة إلى القانون المُحْدث للمحاكم التجارية،إلّا أنه بالنسبة للقانون البحري يتمُّ الخروج فيه عن هذه المقتضيات،لأنّ القاعدة العامّة في القانون المغربي هي أنَّ الإختصاص ينعقد لمحكمة ميناء الربط،ولكن قد يتمّ الخروج عن هذه القاعدة كلّما اقتضى الحال ذلك،خصوصا عندما تتصادم مقتضيات التشريع الوطني بمقتضيات الإتفاقيات الدولية،حيث يتمّ إعطاء الأولوية لهذه الأخيرة،كما قد ينشأ أيّ إختلاف حول قواعد الاختصاص القضائي المحلّي في عدّة قضايا ونوازل،ولكن الأمر مختلف بالنسبة للقانون البحري حيث تنصّ المادة 264 فيه،على بطلان كلّ شرط من شأنه مخالفة قواعد الإختصاص الوطنية،كان قد سبق وتمّ إدراجه سابقاْ في مذكّرة الشحن.

ولكن في ظلّ اتفاقية الأمم المتحدة لسنة 1978 فالأمر مختلف تماماْ،حيث نظّمت هذه الإتفاقية الإختصاص القضائي في المادة 21،التي تنصّ على أنّه للمدّعى الخيارُ في رفع دعوى التعويض أمام المركز الرئيسي للمدَّعى،أو في المحلّ الإعتيادي لإقامته،أوفي مكان إبرام العقد بشرط أن يكون للمدّعى عليه مقرّ عمل أوفرع تمّ إبرام العقد عن طريقه،أو في  ميناء الشحن أو ميناء التفريغ.

وفيما يخصّ الإختصاص المحلّي بالنسبة للنزاعات المتعلّقة بعقود الشغل،فالقاعدة هي أنّ المحكمة المختصّة هي محكمة ميناء الإبحار أومحكمة رسو السفينة،أومحكمة الميناء الذي يوجد فيه المقرّ الرئيسي للمجهز أووكيله،أو إذا كان المقرّ الرئيسي للمجهّز بالخارج،حينئد يمكن للبحار المغربي أن يرفع دعواه،أمام المحكمة الإبتدائية القريبة من ميناء التسجيل.

وعلى الرغم من مظاهر الأفق المسدود،إلّا أنّ الباب فتح من جديد أمام البحارة في التشريع المغربي،عبر إستصدار مدونة الشغل الجديد لسنة 2005 والتي جعلت فئة البحارة تخضع احتياطيا لها،وأعطت للبحارة حقّ الولوج إليها عبر قسمها الأوّل المتعلّق بمجال التطبيق،في المادة 3 التي تنصّ على أنّ بعض الفئات بما فيها فئة البحارة تظلّ خاضعة لأحكام الأنظمة الأساسية المطبّقة عليها،والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال،أن تقل عمّا تنصّ عليه مدوّنة الشغل من ضمانات،كما تخضع هذه الفئات لأحكام مدونة الشغل في كل ما لم يرد النصّ عليه في الأنظمة الأساسية المطبّقة عليها .

وحتى حين إستقلال قطاع الصيد البحري بمدونة خاصة وإختصاص قضائي،فإنّه سيبقى تائها ومتارجحا بين المحاكم والإختصاصات القضائية،في منأى من إهتمام السلطات العمومية المسؤولة،التي لا تكثرت لرأسمالها المادّي من الثروات السمكية،ممّا ضيّع عليها حتى رصيدها المعنوي من رأسمالها اللامادّي المتجسّد في العنصر البشري . 

محمد كولال -المغرب الأزرق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق