واقعة الكتاب الأول بقلم حسن الباعقيلي

أخبرني صديق عزيز البارحة أنني أنا الذي كنت السبب في شرائه الكتاب الأول. وحين رأى الاستغراب بدأ يطفو على وجهي ذكرني بملابسات تلك الواقعة الغابرة وبظروفها. وعدد لي عددا من قرائنها، فإذا هي تتراءى أمامي كأنها وقعت بالأمس فقط. وإذا بحديث صديقي العزيز يعيدني إلى زمن ليس بالقريب. إلى تلك الأيام التي لم أكن أظن أن ذكراها في يوم ما ستبعث في نفسي كل هذه الحنين الطافح والفرح الغامر. كان ذلك في منتصف تسعينيات القرن الماضي. حين حملتنا رياح طيبة من مدينة أولاد تايمة إلى مدينة طاطا الحبيبة نلتمس فيها علما نافعا ونشق فيها لأنفسنا طريقا لم نكن ندري عن نهايته شيئا.
كان ذاك الكتاب نظرات مصطفى لطفي المنفلوطي بأجزائه الثلاثة مجتمعة في سفر واحد. وأما تفاصيل الواقعة فقد حدث أن صادفت في طريق عودتي إلى القسم الداخلي لمعهد التعليم الأصيل بطاطا، والذي كنا نسكنه، بائعا جوالا يبيع الكتب بثمن يكاد يكون مناسبا لتلامذة بعيدين عن أسرهم، وليس لهم من مصدر للأموال غير ما كانوا يحصلون عليه من ذويهم بداية كل دورة من دورات الموسم الدراسي الثلاث. ويكون لزاما عليهم أن يقسموا تلك الأموال إلى ثلاثة أقسام. يخصصون القسم الأول منها لمصاريف التنقل عند الذهاب وعند الإياب. والقسم الثاني منها يركن جانبا للمستجدات والملمات الطارئة. وأما القسم الثالث فهو المصروف الذي ينفقونه بطريقة التقطير التي تستعمل هذه الأيام في سقي الحقول على مدار أيام الدورة كلها على شساعتها وطولها. ويكون عليهم أن يحسنوا تدبيره وإلا ضاق عليهم الحال ضيقته الثانية، وما أبشعها.
وقعت عيني على نظرات المنفلوطي من بين الكتب المعروضة. ولا أدري إن كنت ترددت قبل شرائه أم أنني اشتريته على الفور ودونما تردد. ولا كم من الوقت بقي الكتاب بين يدي أقلبه وأنظر إلى ما فيه. وهل قمت بعمليات حسابية لئلا تشول كفتي الميزان أكثر جهة العجز قبل أن أقرر شراءه؟ كل هذا لم أعد أتذكر منه شيئا. وليتني كنت أملك ذاكرة قوية وحادة تقدر أن تحتفظ بمثل هذه التفاصيل الدقيقة إلى أن يأتي أوان إيقاظها وبعثها. فهي وأمثالها خمائر الكتاب الأدباء التي يصنعون منها عجينة كتاباتهم وإبداعاتهم.
ولكن الذي لم أنسه هو أنني اشتريت الكتاب بعشرين درهما. وحملته معي إلى القسم الداخلي كنزا ثمينا. وأخبرت صديقي بالغنيمة التي ظفرت بها وحفزته لشراء الكتاب لعله هو الآخر يظفر بالكنز الذي ظفرت به. بل إنني اصطحبته إلى حيث كان بائع الكتب الجوال يعرض بضاعته. وظل صديقي الفاضل هذا محتفظا بهذه الحادثة ما يقرب من ربع قرن إلى البارحة حيث باح بها في سياق حديث عميق عن القراءة والكتب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق