عجيبة في خزانة امبارك كريم. بقلم حسن الباعقيلي

لا يزال الكتاب الورقي يحضى بالتقدير والمكانة المعتبرة رغم كل هذا المد التكنولوجي الذي جعل الوصول إلى الكتاب الرقمي أسهل وأيسر وأخفض في التكلفة. ولا يزال بعض الناس يجدون في شرائه وقراءته والحفاظ عليه شغفهم الذي لا يعادلون به شغفا. وأعتقد أن هناك صنفا من الناس يجب أن تكون لها بالكتب علاقة خاصة شراء وجمعا وقراءة. إن لم يكن شغفا وحبا فليكن واجبا من قبيل الواجب الذي لا يقوم الواجب إلا به. وهؤلاء هم المعلمون والأساتذة الذين ينزلون مضمار العلم والتربية والتنشئة. والذين تلقى بين أيديهم خامات الأمم غضة خضراء يشكلونها بعلمهم ويلونونها بسلوكهم وينقشون عليها ما لا تستطيع له الأيام له محوا ولا تبديلا.
فكم هو عظيم ذاك الشعور الذي يغشاك عندما يخبرك معلم أستاذ أنه يملك في مسكنه خزانة كتب خاصة به يأوي إليها بانتظام ويتزود من ينابيع العلم والفكر والأدب التي فيها ولا يتوقف. وهو عين ما حدث معي عندما أخبرني الأستاذ مبارك، استاذ اللغة العربية في الثانوية الإعدادية عمر واخزان بتيزنيت أنه أنشأ في بيته خزانة للكتب.
ولم يكن يتوقف الأستاذ امبارك كريم يحدثني عن خزانته كلما التقينا، وعن ما يجده في كتبها من جليل المعاني ونفيس الأفكار وعذب الأشعار حين يستيقظ باكرا ويجد رجلاه تحملاه حملا خفيفا إلى محرابه الأثير، يقرأ فيه حزبا من القرآن الكريم ويتبعه قراءة في حكم الأسكندراني ثم يثلث بجليس رشيق يسبح بمعيته في ملكوت المعرفة والبيان والبوح.
وكنت أتشوف إلى زيارة تلك الخزانة عقب كل لقاء. غير أن مقدار الجرأة الكافي لأتهجم على صاحبها وأدفعه دفعا ليفتح لي أبوابها مقحما نفسي على ذخائرها وكنوزها كان ينقصني. ولم يكن أمامي غير أن أترك الأمر رهنا للظروف لعلها تهيئ لي من عندها سببا قريبا. غير أن كرم امبارك كريم كان الأسبق. فبالأمس همس في أذني أن صديقين من أصدقائه سيزورانه ويود لو أكون ثالثهما.
كان الموعد بعد صلاة العصر. وكان الضيف الأول الأستاذ عبد العزيز مطيع مفتش الفلسفة والثاني الأستاذ الحسين العدناني. وكانت الخزانة عامرة وشاملة ومتعددة كما لم أكن أتوقع، غير أن أعجب ما فيها كتابها الأول. وهو بذرتها التي انطلقت منها وتفرعت. فهو ما يزال في مكانه المعلوم في رف من رفوفها يبز غيره من أمهات الكتب وأصول المعرفة فضل السبق والأولية. وليس له، وهو الضعيف النحيف الخامل الذكر والشهرة غير هذه المنزلة وتلك التي له في قلب صاحبه يفاخر بهما ويزهو. كأنه يدرك أن الحب لا يكون إلا للحبيب الأول.
وقد كان الأستاذ امبارك يتحدث عن هذا الكتاب الأول وأنا أسجل في ذاكرتي عجائبه حتى أحصيت منها عددا. أذكر منها أنه اشتراه في موسم من مواسم بلدته بتلك الدراهم التي كان أترابه الصغار يشترون بها الحلويات والألعاب. وأنه اشتراه لمجرد أنه كتاب وليس لأي اعتبار آخر غير ذلك. فلم يكن أحد قد حدثه عنه أو رغبه في اقتنائه أو أنه رغب في الحصول على منفعة من الأدب أو الفكر أو العلم الذي يمكن أن تكون فيه. فلم يكن حينها إلا صبيا يافعا لا يعرف للكتب قيمة ولا لمطالعتها أهمية. اللهم إلا العشق الغامض الذي تولد في كيان نفسه ساعتها وهو واقف ينظر في بضاعة تاجر الكتب الجوال يعرضها للمتسوقين. ولم يتوقف من حينها ذاك العشق الغامض ينمو حتى تمكن من لباب تلك النفس المفطورة على حب العلم ومنابعه. وأما عجيبة الكتاب الثالثة فهي أن صاحبنا لم يقرأه رغم تلك الفسحة الزمنية المتراحبة على امتداد أربعة عقود أو يزيد من شرائه. وأما الرابعة فهي أنه هو الكتاب الذي لا بد لكل زائر لتلك الخزانة العامرة أن يسمع حكايته وأن يمد إليه يده ويقلبه ويتصفح أوراقه وقد يقرأ منه فقرة أو اثنتين. وقد يكتب عنه بضعة أسطر أو يذكره في مجلس حين تذكر طرائف الكتب ومستملحاتها.
ثم تحدثنا وقلنا كلاما كثيرا، وأدرك كل منا أن لا حديث في حضرة الكتب إلا عن الكتب وأصحابها ومحبيها. ولاحظ الأستاذ عبد العزيز عن مضيفنا ميلا إلى قراءة كتب التصوف والمتصوفة فانبرى يحبب إليه الكتابة عنه وعن أهله في سوس العالمة. وهو عين ما حاولت أن ألفت إليه نظر المضيف الكريم حين ذكرته أن التودد إلى الكتابة أمر محمود لكونها تسعف في تنمية المقروء وفي إعادة إخراجه في صيغ مبتكرة وأشكال جديدة. غير أن صاحبنا سيتردد قليلا قبل أن يبوح لنا أنه بصدد التحضير لكتابة كتاب عن شخصية من تلك الشخصيات التي احتك بها في طفولته. فهو ما يزال يحتفظ في ذاكرته على كثير من ذكرياتها ومواقفها.
وحين هممنا بالانصراف مر على بالي خاطر عابر ونظرت إلى الكتاب “العجيبة” أتساءل بيني وبين نفسي عن المنزلة التي سينالها حين سيرى النور الكتاب الذي يعتزم الأستاذ امبارك كريم كتابته وما عساها تكون؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق