همسات تيزنيتية من أمريكا (5)

الكابوس

    New Orleans نيو اورليانز :  أو المدينة التي لاتنام 

              لطالما سمعت عن هذه المدينة الرائعة المتواجدة في أقصى جنوب الولايات المتحدة عند مصب نهر الميسيسيبي بخليج المكسيك ، وتمتاز هذه المدينة بطابعها الارووبي و خاصة الفرنسي . هذه المدينة يأتيها الناس من جميع أنحاء الولايات المتحدة و العالم لزيارة الحي الفرنسي و شارع “بوربون” الشهير بحاناته و النوادي الليلية و جميع أنواع أشكال الاحتفال بالحياة .

          زيارتي  الأولى لهذه المدينة كانت رفقة  بعض الدكاترة العاملين معنا في شعبة اللغات الأجنبية بالجامعة ، وكانت تلك الزيارة  خاطفة حيت استغرقت نصف يوم فقط لم تكن كافية بالنسبة لي لاستكشاف المدينة بعناية . غادرنا المدينة مساءا و في نفسي أمل في العودة و قضاء عدة أيام هناك . انتظرت عطلة منتصف الدورة الخريفية على أحر من الجمر  . لما أقربت تلك العطلة التي امتدت لأربعة أيام ، حجزت تذكرة الحافلة كما حجزت غرفة في أحد الفنادق هناك رفقة بعض الأصدقاء من جنسيات مختلفة .   وصل يوم الخميس الموعود ، استقلت الحافلة من باتون روج  إلى نيو أورليانز على الساعة الحادية عشرة صباحا لأصل إليها  حوالي الواحدة زوالا . وصلت إلى محطة الحافلة  فاتصلت بالفندق من أجل إرسال من يوصلني إلى الفندق بحكم أنهم يقدمون هذه الخدمة لزبنائهم و ماهي إلا عشر دقائق حتى وصلت سيارة  لتقل زبناء الفندق  المتواجدين هناك و الذين قدموا من مناطق مختلفة . وصلنا إلى الفندق  و تسلمنا غرفنا و  تعرفنا على بعضنا البعض و قررنا الخروج في جولة بالمدينة .

        جولة بسيطة في المدينة تظهر أن المدينة  مليئة بالحياة . الهندسة المعمارية الأوروبية طاغية على المدينة بشكل كبير  كما أن المنازل هنا  جميلة و تجدها مصبوغة بألوان فاتحة و مزينة بأشياء و أشكال مختلفة من الخارج . توجهنا إلى المقهى  المشهور بهذه المدينة  والمسمى  “Café Du Monde ” الذي تعود أصوله إلى  المستثمرين الفرنسيين الأوائل هنا. ما إن وصلنا هناك حتى وجدنا صفوفا طويلة من الزبناء ينتظرون دورهم للحصول على مكان داخل المقهى أو طلب مشروب و مغادرة المكان . لاحظت أن المشروب المستهلك بكثرة هنا هو “قهوة و حليب ” أو كما يسمونها “كافي أو لي”  مرفوقة بقطع  “البيني” أو ” الشفنج” كما نسميه .  حصلنا على مكان داخل المقهى  وانتظرنا حتى يقوم أحد  النادلين بأحد طلبنا ، انتظرنا طويلا بحكم تواجد عدد هائل من الزبناء الذين سبقونا . كانت رفقتنا فتاة فرنسية من أصل مغربي فبدأت بسرد حكاية هذا المقهى وأنه فرنسي مائة بالمائة و تحدت كثيرا عن الفرنسيين في هذه المدينة و أجزم أن نصف ما قالته كان كله من نسج خيالها .  طلبنا القهوة و البيني و تحدثنا قليلا ، و رغبة مني في التعرف أكثر على مرافق المقهى ارتأيت استعمال الحمام، توجهت إلى  داخل المقهى  و كان الحمام مقابلا للمطبخ حيث تعد المشروبات والمأكولات. الغريب أن جميع العاملين و بدون استثناء  كلهم من الصين و دول جنوب شرق أسيا ، حينها تذكرت أن المقهى يحمل من فرنسا سوى الاسم .

خمر ،رقص و أشياء أخرى

               تعتبر هذه المدينة وجهة مميزة للمدمنين على شرب الكحول و الباحتين عن اللذة بجميع أشكالها . وتكفي جولة قصيرة بشارع “بوربون” المتواجد بقلب الحي الفرنسي المشهور  للكشف عن هذه الحقيقة . شارع كبير يعج بمئات الناس حاملين ما يشتهون من المشروبات الكحولية  و يتجولون بكل حرية . انه المكان الوحيد ربما في أمريكا المسموح فيه بشرب الخمر في الشارع العام  مع الحرص على أن تكون المشروبات في قنينات  بلاستيكية وليس زجاجية تفاديا للحوادث. على طول الشارع حانات متنوعة و موسيقى صاخبة هنا و هناك و شباب ينادي على المارة للالتحاق بأحد النوادي مقدمين لهم عروضا مغرية. كما أن هذا الشارع يتميز بوجود عدد هائل من نوادي التعري  سواء للنساء أو الرجال .فتجد شابات في مقتبل العمر شبه عاريات أمام نوادي يبدو عليها الأناقة  يحاولن إغراء الزبناء لولوج النادي وما أدراك ما النادي ، وفي الجانب الأخر تجد أيضا شبابا مفتول العضلات شبه عاري أمام نوادي التعري الذكورية محاولين استدراج الزبناء إلى الداخل .

                    وأنا أرى كل هذه الأشياء تبادرت إلى ذهني عدة أسئلة لم أجد لها إجابات في ذلك الحين . وحبا في الاستطلاع دخلنا إلى احدى نوادي الموسيقى ، بالطبع مجانا ريثما تكون بالداخل، فوجدت أناسا مخمورين شبابا وشيبا و فرقة موسيقية أشبه بمجموعة من الأشباح  سكارى يعزفون موسيقى “الجاز ” ، قنينات الجعة الفارغة تملأ كل مكان ولا أحد يهتم بجمعها . و بحكم أنني لا أتناول المواد الكحولية، تركت أصدقائي منهمكين في احتساء ما رغبوا فيه وذهبت في جولة لوحدي بهذا الشارع العتيق واستمتعت حقيقة بلقاء أناس من مختلف أنحاء أمريكا و العالم إذ أنه من السهل التعرف على أناس في هذه المدينة الجميلة . تناولت وجبة العشاء بأحد المطاعم اليونانية هناك و كانت الساعة حوالي الثانية عشرة ليلا . كانت المدينة في أوج نشاطها  وصخبها ، التحقت بأصدقائي في النادي ووجدتهم مستمتعين بوقتهم هناك ، أمضينا بعض الوقت وقررنا الرجوع إلى الفندق . ونظرا لبعد الفندق شيئا ما كان لزاما علينا ركوب سيارة الأجرة .

الطاكسي و الكاميرا

                استقلنا سيارة الأجرة و بدأنا نتحدث  و سائقنا يخترق الأزقة  الواحد تلو الأخر، كنت جالسا بجانب السائق و أصدقائي الثلاثة في الخلف . كانت ملامح السائق توحي لي أنه من دولة عربية لكنني ترددت كثيرا قبل أن أسأله . في البداية كنا نتحدث الانجليزية لكنني أحسست من لكنته أنه عربي فسألته فإذا بصديقنا من  فلسطين . بدأنا نتحدث اللغة العربية ، أخبرني أن مجموعة هامة من العرب يشتغلون هنا كسائقين لسيارات الأجرة و من ضمنهم عدد مهم من المغاربة..  وصلنا إلى الفندق  وأدينا ما علينا  لكن رغبتي في التعرف على المغاربة الموجودين هنا دفعتني الى أعطاء السائق ،و اسمه محمد، بطاقتي التي تحمل المعلومات الشخصية من هاتف و بريد اليكتروني لكنني نسيت أخد معلومات محمد أو حتى رقم سيارة الأجرة وطلبت منه فقط أن يربط اتصالا بأحد المغاربة و يمدهم بمعلوماتي قصد اللقاء . ودعت محمد و دخلنا إلى الفندق منهكين بعد يوم طويل و رائع .

             غيرت ملابسي وحينها فقط أدركت أنني أضعت كاميرا رقمية  شخصية تحمل مجموعة من الصور والذكريات التي جمعتها منذ حلولي بأرض الأحلام . بحثت في كل مكان بالغرفة و في ملابسي وسألت أصدقائي لكن دون جدوى . بدأت أفكر في هذه المصيبة التي حلت بي و تمنيت الحصول فقط على الشريحة التي تحمل الصور دون الكاميرا . يا الهي حصل ما لم يكن متوقعا .

            اقتنعت أن كل شيء ضاع وما علي إلا الصبر و شراء كاميرا أخرى لكن المشكل لم يكن الكاميرا أو ثمنها و إنما تلك الصور و الذكريات الجميلة التي ضاعت ، حاولت النوم لنسيان المصاب الذي أصابني لكنني لم استطع. بدأت أفكر و أضع الاحتمالات حول مكان  إضاعة الكاميرا، لم أفكر في سيارة الأجرة أو المطعم بل ذهب جل تفكيري إلى الملهى الليلي و حينها أمنت أنني أضعتها إلى الأبد. و في خضم هذا التفكير اللامتناهي رن الهاتف و بشغف كبير أجبت المكالمة التي لم يكن من ورائها سوى محمد سائق التاكسي الذي سألني اذا ما أضعت كاميرا رقمية أثناء ركوبي معه ، و بدون تردد أجبته بالإيجاب  و سرت أترحم على والديه و اشكره . ضربنا موعدا اليوم الموالي لاستلام الكاميرا و بالفعل أتى في المكان و الزمان المحددين و استلمت منه الكاميرا و قدمت له عشرين دولارا لقاء أتعابه بحكم أنها ساعة عمله  لكنه رفض تسلمها و عوض ذلك أعطاني رقم هاتف الشركة التي يشتغل لصالحها وطلب مني أن أخبرهم  بما حصل معي في أحد سيارات الأجرة التابعة لهم  بعد الإدلاء برقم السيارة و اسم السائق و هو ماقمت به  بالفعل مساء ذلك اليوم . فرحت فرحا شديدا الاستعادة ذكرياتي و الكاميرا ، حينها أدركت أن الخير موجود أينما ذهبنا طالما كنا أناسا طيبين . و منذ ذلك الحين أصبح محمد صديقا عزيزا و كلما ذهبت إلى “نيو اورليانز”  لابد أن نلتقي و نتحدث بأحد المقاهي .

كانت هذه الهمسة الخامسة …………………………………..انتظروني في الهمسة السادسة  الأسبوع القادم

  

                                                                                          بقلم :  ابراهيم الكبوس 

[email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق