“تيزنيت” المغربية ..أمكنة و شواهد

 لقبت بالمدينة السلطانية

«تيزنيت» المغربية.. عاصمة الفضة

 

..ها قد نويتَ السفر إلى مدينة تيزنيت المغربية، وقد سمعتَ أو قرأتَ شيئاً عن كنوزها وسحرها وذخائرها.. وها قد حطت بك الطائرة في مطار محمد الخامس… عليك أولاً أن تستريح يوماً أو بعض يوم في أحد فنادق الدار البيضاء قبل أن تغادرها متجهاً إلى الجنوب، ولا بد أن تدرك أن السفر سيكون طويلاً أو قصيراً حسب اختيار وسيلة النقل المناسبة لوضعك المادي. وفي كل الأحوال عليك أن تقطع مسافة (700) كيلومتر في اتجاه الجنوب، الطائرة ستختصر المسافة إلى أقل من ساعة، ستنزل في مطار المسيرة بمدينة أغادير، ثم تستقل الحافلة أو سيارة أجرة إلى (تيزنيت)، حيث ستحل بها بعد ساعة أو ساعتين. أما إذا فضلت الحافلة انطلاقاً من الدار البيضاء، فسوف يمتد زمن السفر إلى نحو عشر ساعات أو أكثر. 

وكيفما كانت وسيلتك للسفر إلى (تيزنيت) فسوف تصل.. وسوف تستقبلك هادئة نائمة في استرخاء بَاسِم على راحة سهل (سوس) الممتد جنوبي مدينة أغادير التي تبعد عنها بمئة كيلومتر تقريباً، وسوف تكتشف أنها مدينة عريقة تقتات من التراث والحكايات المبهرة بعيداً عن صخب المدن الكبرى مثل أغادير ومراكش والدار البيضاء والرباط. وستدرك أنها ملجأ لكل من يطلب هدأة النفس وراحة البال.

ستأسرك (تيزينت) وتسحرك وتفتنك كصندوق قديم عتقت فيه أسرارٌ تفيض جمالاً وبهاء، وألغازٌ تنضح روعة وسناء.. كل شيء فيها بديع ومدهش.. ستنعشك النسائم العليلة التي تلامس وجهك صباحاً وأنت تستكشف أزقتها القديمة المسقوفة، وشوارعها الواسعة الجميلة، وطبيعتها الموحية الخلابة، ومآثرها العريقة المضمخة بعبق التاريخ، ويهبّ عليك أريج النعناع يتوغل في ثنايا النفس والجسد منسرباً من أبواب سريّة مفتوحة على دنيا الخيال.. تأخذك (تيزنيت) بسحرها إلى عصور سحيقة، فتشعر كأنك (سندباد) تائه في بحار من الجمال الفتان. وحين تلمس بأناملك طوب أسوارها تسمع هسيس همسه، يغرس في خلدك ملايين الحكايا القديمة، فتتوغل في هلام الدهشة حتى يوقظك هديل الحمام، الذي يحرس أسوار هذه المدينة الجميلة النائمة، وهي تحضن أحلامها الآنية والمؤجلة.

(تيزنيت) مدينة تبتسم لك في كلّ خطوة وتفرش لك ألق جمالها، تحسّ فيها بالألفة في كل شبر تطؤه قدماك، ثم سرعان ما توقّع ميثاق صداقة صافية مع أناسها الطيبين، ومع قططها وطيورها وأشذاء عطورها التي ستظلّ عالقة بذاكرتك.

تم تجديد بناء مدينة (تيزنيت) على يد السلطان الحسن الأول سنة (1882م)، حيث أمر بإحاطتها بسور يبلغ طوله سبعة كيلومترات ونصف الكيلومتر، وعرضه متراً ونصف المتر، وارتفاعه ثمانية أمتار. ويتخلله اثنان وستون برجاً، وأربعة أبواب تاريخية وأخرى حديثة، لذلك لقّبت بالمدينة السلطانية، ثم طغى عليها لقب (عاصمة الفضة) في السنوات الأخيرة لشهرتها بصناعة الحلي الفضية.. مدينة سياحية عصرية تبهر بجمالها الذي يتسم بالهدوء والرقة.. وكلما زارها سائح، يجد نفسه غارقاً في شجون لحظة فراقها.. فيرحل عنها مكرهاً، ثم يهزّه الحنين هزّاً، ويرجه العشق رجّاً، ويتحرّق شوقاً للعودة إليها والارتماء بين أحضان غوايتها الفاتنة، ولا يملك إلا أن يعود ولو بعد حين.

بعض أبراج السور التاريخيتقع (تيزنيت) في إقليم (سوس) الذي يعد حصناً حصيناً لعلوم اللغة العربية، برغم أن سكانه أمازيغ أباً عن جد، وقد أنجب كبار العلماء والفقهاء الذين جمعوا بين الفقه والتأريخ والتحقيق والشعر والأدب ومقاومة الاستعمار. وتفقهوا في الدين وتبحروا في علومه، وحافظوا على رسالة الإسلام المعتدل. وبذلك استحقت هذه المنطقة لقب «سوس العالمة» الذي وصفت به، وبه عرفت في المغرب كله.

نبغ سكان تيزنيت في مجال صياغة الفضة، حتى إنه لا توجد منطقة في المغرب تستطيع أن تنافسها في هذا المضمار، فازدهرت فيها صياغة الفضة، وتطورت حتى احتلت المرتبة الأولى وطنياً وعالمياً. وأصبحت عاصمة الفضة، التي توشحت بسحر الماضي وأسراره، واحتفظت بملامح التراث الأصيل؛ لذلك فكر المسؤولون في ترويج المنتوجات الفضية النفيسة على نطاق واسع، فقرروا تنظيم مهرجان الفضة الذي انطلق منذ سنة (2010). وقد سمي بمهرجان (تيميزار)، وتعني هذه الكلمة بالأمازيغية (البلدان)، وفي ذلك إشارة إلى مشاركة بلدان مختلفة خارج المغرب في هذا المهرجان ومن كل القارات. ويخصَّص لكل دورة رمز لحلية فضية تكون الأكبر في العالم (أكبر خُلّالَة، وأكبر خنجر، وأجمل باب، وأكبر مفتاح، وأكبر تاج…)، وكل هذه الرموز العملاقة مصنوعة من الفضة الخالصة، وتعرض في كل دورة من دورات المهرجان، الذي ينظم صيف كل سنة وسط حضور جماهيري كبير، يحضر إلى مدينة (تيزنيت) من كلّ مكان داخل المغرب وخارجه. وتتنوع أنشطته الموازية، لكنها ترتبط كلها بالتراث العريق.

مصنوعات من الفضةوأنت تتجول في فضاء المعرض، يسحرك جمال الحليّ الفضية المعروضة أمامك، فتحلّق نفسك في عوالم من لُـجَيْن، تؤثثه الأحلام العذبة الفيّاضة بصنوف الفتنة والبهاء، فتتحجّر من الدهشة وكأنك إزاء عيون (ميدوزا)، وأنت تحاول فكّ أسرار هذا الجمال الفتان الساحر.

تحار أمام سرّ الألوان: الأحمر والأخضر والأزرق، التي تزين الحلي الفضية، لكنك إذا عدت إلى التراث الشعبي الأمازيغي، ستكتشف أن اللون الأحمر يرمز إلى الشجاعة والحب، والأخضر إلى الخصب والنماء والشباب، أما الأزرق فهو لون الأمان والسلام والهدوء والصفاء.

وتتوزع هذه الحلي ما بين يدوية وصدرية وعنقية وجبينية، إضافة إلى الأقراط والأساور، وقد تكون مزينة ببعض الأحجار الكريمة كالزّمرد والكهرمان، نذكر من هذه الحلي:

(الخُلاَّلَة): أشهر الحلي الأمازيغية على الإطلاق، وهي عبارة عن مشبك فضي مثلث الشكل تستعين به المرأة الأمازيغية، كي تثبت ثوبها على صدرها، وقد صارت أيقونة الثقافة المغربية أخيراً. و(الخنجر): ويتقلده الرجال، وهو قريب الشبه بالخنجر اليمني، غير أن له حمالة من الحرير بألوان زاهية، ويكون غمده ومقبضه من الفضة المنقوشة، ونصله من الفولاذ الحاد، ويعدّ من الحلي الرجالية، نظراً لما يفصح به من دلالات على الشجاعة والنخوة والكبرياء والقيم الإنسانية السامية. و(الأساور والخواتم): هناك أصناف عديدة من الأساور والخواتم تختلف أشكالها وأحجامها، وغالباً ما تكون مزخرفة بألوان تحاكي بهاء الطبيعة، فتزيد المرأة جمالاً ورونقاً. و(القلادات): تتنوع أشكالها وأنواعها، فمنها ما صيغ من الفضة فقط، ومنها ما هو مطعم بقطع من الكهرمان الحر، أو اللؤلؤ، أو الزمرد، أو العقيق. و(التيجان) هناك أشكال متعددة من التيجان النسائية، فمنها ما هو على شكل أشعة الشمس وهو قديم، وما نسج على قطعة من الثوب تثبت عليه القطع الفضية وخاصة النقود القديمة. وقد ظهرت تيجان أكثر حداثة تستعمل في أوساط النساء في المدن الكبيرة في الأعراس.

حين يحلّ الليل تنطلق العروض الفنية الموازية للمهرجان، تشارك فيها مطربات ومطربون مغاربة وغير مغاربة، ممن اشتهروا على صعيد الوطن العربي والعالمي. وموازاة مع هذه الأنشطة، يقام رواق لعرض الأزياء التقليدية، التي تُعدُّ تحفاً فنية تبدعها أنامل المصمّمين ببراعة وإتقان، لتتحول إلى لوحات تجعل التاريخ يتحدث وينضح بتراث سوس الثرّ الغني. ويعد مهرجان الفضة مظهراً يغري بزيارة هذه المدينة، التي تستحق فعلاً أن تسير بذكرها الركبان في أكثر من بلد، وأن يشيع اسمها ويخترق الآفاق الرحبة.

الكاتب حسن المددي

مجلة الشارقة الامارتية العدد الاربعون فبراير 2020

رابط المجلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق