عمر حلي: من يزرع الحقد يحصد الغثيان، ومن لا يعمل يحصد الريح

 

بقلم : الدكتور عمر حلي

#غيلاد خاطرة على مشارف الشغب.
لن يزيدني هذا الزمن سوى اقتناع بالتصدعات تصفعنا بها حقائق الحياة.
من يزرع الحقد يحصد الغثيان. ومن لا يعمل يحصد الريح. ومن لا يقترن الكلام لديه بالفعل، لا يحصد شيئا. ومن يتشبت بالعوالم الافتراضية وحدها لقيادة التغيير فقد ضل الطريق. وأما من خفت موازينه، فلن ينفعه اللهاث الأخير. ليس الأمر شبيها بسباقات عدو ريفي، بل ببناءات متراصة ترفع أركانها ايام الكد والجد في سياق محدد ومباشر.

أقول مثل هذآ الكلام لأن العديدين منا لم يدركوا – او لم يستسيغوا على الأرجح – التحول الذي عرفه المجتمع والذي قاد حتميا إلى تقويض دور المثقف الريادي الحامل للأفكار الكبرى والمبشر بأكبر التحولات. إن المثقف الذي يعتبر كلامه منصبا في كونية هو المعبر عنها والحامي للوائها قد انتهى. وولت صورته ادبارها منذ أكثر من ثلاثة عقود على الأقل. فمن كان يعبد المثقف بتلك الصورة، فإن ذلك المثقف قد مات، ومن كان يؤمن بالعمل وبالمشاركة فيه فأرض الله واسعة. في البنيات الاجتماعية وفي البنيات المدنية والمحيط الأقرب والمباشر.

ألف المثقفون – وأشباههم – التفضيل الذي كان يجعل منهم زبدة مجتمعهم. غير أن التغيرات التي هزت تلك المجتمعات، غيرت سبل الاعتراف بالمثقف، مهما تنوعت مناهل النموذج الذي يمثله. وبذلك لحقت تلك الألفة السابقة تغيرات شملت العلاقة مع الكوني والمثالي والأهداف النبيلة التي كان الجميع يتقاسمها.
فقد قادت التحولات إلى بلوغ مفهوم المثقف الخصوصي [بالمعنى الذي حدده فوكو]: المثقف الذي يتدخل في مجالات محددة وفي نقط محصورة، تمليها الوضعية السياقية المرتبطة بشروط عمله، مثلا، او بشروط حياته، مثل الحي السكني والمختبر والجامعة والمنفى والعلاقات الأسرية والاجتماعية وغيرها. ومن مميزات هذا التغير ذلك الانتقال من النتائج العامة الكبرى إلى نتائج ملموسة مباشرة آنية للصراع، وما يترتب عنها من تموقعات متجددة باستمرار.

ولم يعد ممكنا، والحالة هذه، الارتكاز على المحددات النظرية الكبرى، بل غدا ضروريا وملحا دحض البلاغة الركيكة وتجنب المقدمات النظرية المملة، وتفكيك الجمل المسكوكة التي لم تعد صالحة والتي حان الوقت، في اعتقادي، للإلقاء بها في سوق المتلاشيات الكلامية.

ولذلك كله، يكون مفهوم العمل قد طفا على سطح الممارسة الاجتماعية والسياسية، بحمولة مغايرة لما كان عليه الوضع فيما سبق. وهذا ما يفسر كيف أننا نعيش – في العديد من المناسبات والسياقات – صراعا وتجاذبا قويين بين صورة المثقف العالم مصدر المعرف والدراية ومفهوم المثقف القريب من لحظة اتخاذ القرار في حينه الذي يحصد فوائدها ويراكمها ليوظفها في السياسة المباشرة يوم الاقتراعات والتشكيلات التي يتربع على عروشها التقنيون والعارفون بمحركات القيم ومستنبتاتها.
المثقف الخصوصي هو ما جعل تنظيمات سياسية تتسرب إلى الأحياء بشكل عمودي سمح لها بقرب مؤثر، وسمح لها بان تنتشر في الأحياء الشعبية، وفي “النقط السوداء” من المدن. وبشكل أفقي جعلها تحضر في أرقى أحياء المدن، بالخطاب نفسه وبالخطباء أنفسهم، كما هو شأن التنظيمات الإسلامية التي جعلت الطبيب والمهندس والأستاذ يعتلون صهوة جمعية الحي وبناء المسجد ويحضرون المآثم والعزاءات مواساة للناس، وينظمون مسابقات “ثقافية”،دون مسافات فارقة في الخطاب.
ولذلك، فإن المتأمل في هذه الأخيرة، أي التنظيمات الإسلامية، سوف يستخلص في النهاية، أنها استفادت من تراكمات الأحزاب الماركسية والأحزاب الليبرالية على حد سواء، وأخرجت منهما طريقا ثالثا يقوم على محركات قيمية مستوحاة من التاريخ ومن الدين، صبت كلها في طرق عمل مستحدثة، صعب على التنظيمات السياسية التي كانت تعتبر نفسها دائما شرسة ومقاومة، تجاوزها او حتى محاكاتها.
وحيث إن العبرة بالنتائج، كما يقال، أعود لما قلته أعلاه، من ان الأمر مرتبط بالكد والجد في سياق اجتماعي وسياسي محددين.

وأذيل خاطرتي هذه بملتمس (على عادتنا):
أطلب من العديد منا التخلي عن المنصات الكلامية، والتنازل نهائيا عن جمل مسكوكة مملة مثل “قبل ان نتناول لا بد أن نعرج”، وعن روابط مقيتة مثل “فليتفضل مشكورا”. كما اطلب من البعض التخلي نهائيا عن تلك الجمل المبعثرة في نهاية المداخلات والتي يسعى فيها المتدخل إلى إقناع الناس “بأهمية ما كان سيقوله لولا ضيق الوقت”. فلو لم نعرج قليلا لما أضعنا الوقت نصفه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق