الشيخ سيدي أحمد بن موسى … مواقف خالدة أو بلاغة القول والفعل

سيدي احمد اوموسى

نعتبر هذا الفصل الذي هو منتهى قولنا في الشيخ وخبره أساسيا لان فيه خلاصات واستنتاجات ما رأيناه.. كما أن فيه قيما ثمينة علينا تذوقها واستعادتها.. قيما معاصرة نحتاجها في التعامل مع ذواتنا، ومع عصرنا المليء بالضوضاء والسرعة والادعاء، وثقافة الأشكال البراقة، والرياء المتنافس فيه والمتسابق إليه… هذه القيم و السلوكات والمواقف هي ما نعتبره نحن بمثابة كرامات لا تموت .يجب ان تعود او ان نعيدها الى مكانها وتسكن دواخلنا وتعاملاتنا وحياتنا لانها تعطي دفئا وحياة ومعنى لتلك الدواخل والتعاملات والحيوات ولأنها يجب ان تربط الحاضر بالماضي والماضي بالحاضر. حاضر ملؤه ما رأيناه من ثقافات زائفة وأسئلة خاطئة.
فالشيخ كما رأينا انغمس الى أخمص قدميه كما يقال في عصره، عاشه بكل جوارحه وبكل وعيه، وعصره كما رأينا لم يكن عصر استقرار وهدوء ليعيشه بسهولة كذلك، بل كان عصر تحولات كبرى وقلاقل ومفاتنات، عصر مليء بالاسئلة العويصة: اسئلة الذات واسئلة الوجود، واسئلة الوقت، واسئلة العيش، واسئلة الاستقرار، واسئلة الدفاع عن النفس، واسئلة الكيف في التعامل واسئلة اشكال المثاقفة.. اسئلة لا ترحم عاشها سيدي احماد اوموسى، مع ثلة من مثقفي وصلحاء عصره لم يأخذهم التصوف المشرقي الغنوصي الى مغادرة الساحة وقلب الأعين الى الدواخل وحدها، والانزواء عن الناس في قربهم وبعدهم، واللجوء الى المغارات والجبال، والاستكانة الى الأنانية والأثرة، بل تحملوا مسؤوليتهم، وانضموا في جماعات وبدأوا بأنفسهم وضعوا تصوفهم الخاص، كجواب عن تلك الاسئلة المقلقة وصنعوا تصوفهم المغربي، فكانوا بحق مثقفين عضويين مجددين حاملين لمشروع مستقبلي هدفه الاصلاح بمفهومه الشامل، و قاموا لسوس بل للمغرب عموما ولانسانه، وأجابوا بالفعل عن اسئلة لمواقف خالدة.
وقبل تفصيل بعض هذه المواقف، والتذكير مجددا بهذه السلوكات النبيلة الواعية، لابد ان نشير الى مسألة اساسية أوردناها مرارا لكننا نؤكد عليها لأنها الاطار العام الذي يتحرك فيه الشيخ، ويبدع داخله وفيه، وهي ان ما قام به وابدع فيه وتفنن، يتموضع داخل سياق عام رسم خطوطه العريضة الشيوخ المؤسسون للطريقة، وان الشيخ سيدي احماد اوموسى يشترك مع غيره من الجيل الثاني من صلحاء، وشيوخ الجزولية، في تطبيق وتصريف وتبيئة المبادئ الاساسية التي قامت بها وعليها الطريقة: المجاهدة والجهاد (الاصلاح والتحرير) وان الاختلاف معهم – يكمن فقط في القدرة على التنزيل والتبيئة. فاذا كانت عملية المجاهدة عملية واضحة ومستمرة في تتبع حياة المريد ونفسه (بل الشيخ كذلك) وصقلها المستمر الذي لا يجب ان ترمش عنه العين لانه هو الاصل، فان ميدان المجاهدة الخارجي هو الجهاد.. الجهاد بمفهومه العام كما ا ضافه مجدد الطريقة الشيخ سيدي محمد بن سليمان الجزولي، الجهاد ضد الحاجة بجميع اشكالها وتمظهراتها من جوع و سقم وجهل وفتن وذلة وغيرها كثير. فبادروا الى اصلاح الانسان واستصلاح المجال في تفان قل نظيره، حيث لم يكونوا ينتظرون اجرا، استفاقوا من تلقاء انفسهم ملبين نداء دينهم ووطنهم، فالجهاد الذي اضافته مدرستهم وطريقتهم او فعلته – لانه كان دوما موجودا – لم يحصروه في قتال المستعمر والغازي بل اعطوه معناه الاصلي: الجهاد ضد الجهل والفقر والجوع.. بتأسيس المدارس والزوايا للتربية والتعليم والاطعام والاستشفاء، واستصلاح الارض والمحافظة على البيئة، ونشر الامن والحماية.. فاعطوا هذه الاعمال كلها بعدا دينيا فكل شيء لله و في سبيله، وكل شيء وسيلة فالهدف هو تقوى الله وتلكم الاشياء ترجمة للتقوى، وقد ادوا اماناتهم بحق، حيث ظهر منهم المهندسون والاطباء، والاطباء النفسانيون والخبراء في التدبير والتسيير، والفلاحة والخبراء الحربيون والمستشارون للدولة بلغة عصرنا، كانوا يلتقطون حاجة الجهة التي ينتمون اليها في ذكاء باكر كأولوية، ثم بعد ذلك يذهبون الى الاشياء المشتركة في تعاون و تخابر وتبادل للحاجات قل نظيره.
واذا كانوا كلهم كذلك، فان الشيخ سيدي احماد اوموسى، زاد عليهم و فاقهم في تفانيه في تنزيل المشروع، باعترافهم هم انفسهم، وما ذلك الا بما رأيناه من ربط تام للقول بالممارسة، وربطها معا بالصمت وعدم الادعاء، مما دفع احد الانتروبولوجيين المعاصرين الى اعتبار ذلك هو ما جعله قطب سوس الاول والجنوب المغربي.
والخلاصة ان الشيخ ذهب بالتصوف الجزولي في سوس الى مداه، بيأه حتى صار هو البيئة ذاتها. ولم يخطئ ولم يجانب الصواب العلامة بول باسكون حين قال: ان سيدي احماد اوموسى قد عمل على تعميق خصوصيات ا لتصوف المغزي وذلك بتمريره من خلال الجزولية الى سوس.
لذا فنحن حين نفرد الحديث عنه ونعيدالتذكير بخلاصات بعض الخصال والسلوكات والمواقف، فاننا لا نبتغي محو غيره، اولا لاننا لا نستطيع ولا نقدر، وحاشا ان نريد.. وثانيا فغيره اولا وأخيرا هم مرآته التي رأيناه يتحرك ويعمل فيها وبواسطتها اي سيدي احماد اوموسى من خلال رؤية الاخرين اليه.

اذن مواقف خالدة

1 – في التعامل واحترام الآخر
اعطى الشيخ مثالا خالدا في التعامل، مبدؤه احترام الذات، وبدأ العمل في تنزيل هذا الموقف على سلوكه مبكرا منذ بدء حياته.. فقد كان لقاؤه مع صاحب القفة محطة فاصلة بين عهدين وسلوكين: سلوك النزق، وسلوك النضج، فبنى سلوك النضج ذاك على مبدأ احترام الذات او النفس كطريق ونهج لاحترام الغير، فنجح في ذلك طوال حياته ايما نجاح، ولا يسعنا هنا الا ان نستحضر مثلا سائرا في سوس وفي كل الجنوب المغربي عن مفتاح احترام الاخرين، وسبب نزول المثل ان الشيخ اخذه من تجربة بسيطة خبر بها نفسه وقيمته لدى الاطفال. فقد كان هؤلاء . فقد كان هؤلاء حين يلعبون ويمر بقربهم يسارعون الى ايقاف لعبهم حتى يمراحتراما، وذات مرة خرب ألاعيبهم متعمدا فانبهروا لما صدر منه، اذ لم يعهدوا فيه ذلك، فتغاضوا عنه ظانين انها مجرد فلتة منه لكنه عمد مرة اخرى.. فلم يردوا عله يتركهم، لكنه بمجرد ان اتلفها في المرة الثالثة حتى خرق ستر الاحترام، وعندها لم يصبروا فرموه بكل ما استطاعوا من كلام وحجارة فقال عندها قولته المأثورة.
انيغ ازد مدن ايوقرن احماد ايغد احمد اوموسى ايوقرن اكيونس
فسارت مثلا بالامازيغية في كل سوس يضرب لكل من لا يحترم نفسه ويعتدي، كنت اعتقد ان احترام الناس لي نابع منهم فاذا بي اتأكد ان احماد اوموسى هو من يحترم نفسه.
لقد سار على هذا النهج كل حياته فاحترام الصغير والكبير. الفقير والغني المريض والسليم، المالك والمعدم، الحاكم والمحكوم، فبلغ ما بلغه بذلك، اي باحترام ا لاخرين من بوابة احترامه لنفسه.. وازداد احترامه للاخرين من خلال احترامه لنفسه حين علا شأنه وانتشر صيته، مما جعل لاحترامه ذلك مذاقا خاصا. وهو كذلك دائما: احترام القوي والعظيم لغيره.. وما احوجنا اليوم الي ذلك السلوك.

2 – في التواضع
لا يمكن للذي يحترم نفسه ويرسم لها حدودها وخيالا يطالبها يصبح ويمسى معها الا ان يكون متواضعا. فالتواضع لا يأتي بالادعاء… والحديث عن النفس والكذب عليها والنسب اليها.. التواضع عملة وعملة نفيسة ونادرة لا يمتلكها الا الصادقون، والموغلون في المعرفة، الاغنياء بها الذين يعرفون حقيقة انهم عابرون ويعملون بهذا المقتضي.. الشيخ من هذه الطينة لم تستهوه لا السلطة ولا الجاه ولا المال.. وكلها كانت ملك يده فلو اراد الابل لجاءت اليه من بغداد مثل النمل.. ولكنه سلم في الدنيا لا يلتفت اليها ولا يقبل عليها.
وكل ما يمكن ان يقال عنه في هذا الباب هو مجرد لغو امام سلوك جبار لا يقدر عليه الا من اوتيه. فيكفي ان نورد بعض كلمات – وليس فصولا وفقرات.. وردت متفرقة عن حالته، ومعيشه، وتصرفاته.. فهو يسكن عريشا انتهى به. و،لا يأكل الا ما يأكله مريدوه، ولا يركب الا عصا ولا يلبس الا برنوسا كغيره.

3 – في طلب المعرفة
منذ دعاء صاحب القفة الى تأسيسه لزاويته وسفر في سفر في بحث دؤوب عن اجابات الاستقرار.. الاستقرار النفسي واستقرار البدني والاطمئنان الى انه ليس في الامكان ابدع مما كان بحث مستمر عن المعرفة في المزارات، والزوايا والجامعات والحوزات والمقامات حيث يوجد الرجال والشيوخ رجال العلم وشيوخ الحقيقة يلاقيهم، يصاحبهم ينصت اليهم لا ييأس ولا يتعب سلاحه الصبرو التواضع واحترام الاخر، فلم يجيء بما جاء به الا من هذه التجربة، ولم يخرج بما خرج به الا من داخلها: حلوها ومرها، حرها وقرها، هولها و طمأنينتها، فعرف ان الحقيقة لا طريق لها سوى المجاهدة والجهاد وانها ليست سوى في الممارسة والسلوك والعمل.. والخلاصة ان للمعرفة ثمنها وانها لا توخذ بالسهل، وان طريقها هو السير اليها، بدل الارتكاز الى السهل والى الجدل من دون علم وخبرة وتمرس، وذاكم – مع الاسف مسلك معظم من يتقدمون اليوم في هذا الميدان، دون ابداع وخلق وفي اعادة انتاج واضحة لاجوبة ماضوية عن اسئلة الحاضر ومشاغله..

4 – في نقل معرفته
لم يحتفظ ولم يبخل الشيخ سيدي احماد أوموسى بما استفاده واكتسبه في سيحته، وما أخذه من شيوخه من معارف. عكس ما يفعله مثقفو اليوم وما يمارسونه من عنف رمزي في استثمار الرأسمال المعرفي وبيعه، وفي التعالي على الناس… فبمجرد رجوعه إلى مسقط رأسه بدأت الوفود تتسارع إليه، وهو لا يبخل بما اكتسب وبما عرف: يخبر – يوعي – يربي – يعظ – يدعو – يوجه بجميع الأشكال والوسائل المؤدية للمعرفة، فقد كان يعي ويدرك أن ما يملكه ليس له، هو فقط موصل رسائل، ورسائله هي ما تعلمه وتلقنه، وعليه تمريره بالمصاحبة والمخالطة وما رأيناه، بدون تأفف ولا ادعاء ولا احتقار للمخاطب ولا تكبر، وبأريحية لا يستطيع أن يصبر عليها الا من أعطاه الله ذلك.

5 – في الالتصاق بهموم الناس
إذا كان مثقفو القرن الماضي (عرب وغيرهم) قد أخذوا بأفكار الغرب الأوربي أيما أخذ – وهذا مبرر منطقيا اذا كان في إطار وحدة الفكر الإنساني »(أطلبوا العلم ولو في الصين)« وخصوصا فيما يتعلق بنظريات الواقعية المختلفة: كنظرية الالتزام عند »سارتر« أو نظرية المثقف العضوي عند »غرامشي«، بل ذهب جناح منهم إلى تبني نظرية مشرقية تشبه أو تعتبر المثقف كالسمكة في الماء وذلك في رسم علاقته بطبقته، فإن صلحاء الجازولية (مثثقفو الجازولية بلغة اليوم) كانوا قد فطنوا بوعي تاريخ نفاذ ووعي مطابق إلى أهمية الالتحام بالناس وحمل همومهم، وبلورتها في شعاري المجاهدة والجهد. فكانوا بحق خير معبر عن آلام الناس وآمالهم، خيباتهم وتطلعاتهم، خوفهم وفرحهم، ولم يخرج دوما الشيخ سيدي احماد أموسى عن هذا المنوال بل كان سيده.. فقد كانت تارودانت ومراكش مركزين كبيرين يعجان بكل ما يريد المرء.. أي امرئ، فما بالك بإنسان غير عادي.. كل وسائل الرغد والرفه وسعة العيش متوفرة كما الأحباب من رفاق الطريقة، فلم تطب النفس إلا عند من تركهم وهم على ضنك وضيق عيشهم، لكن التنكر لم يرد بالبال، إنها مسؤولية »المثقف،« مسؤولية المصلح مرة أخرى، المسؤولية التي لم يقلدها له أحد غير ضميره وخوفه من خالقه، إنها ضرورة الإنصات إلى الناس وعيش همومهم، وعدم تركهم يتيهون وسط الأعراف، فوجب توعيتهم.
ولتوعيتهم، وليتقوا يجب أولا إسقاط الأبراج العاجية والنزول إليهم والعيش عيشهم، ولبس لباسهم، وأكل أكلهم والمشي مثلهم، وإعطائهم النموذج والمثال في المسكن (عريش) و في الملبس (برنوس) وفي المركب (لا يركب) إنها الممارسة التي تنتهي وقتل كل مزايدة نظرية واهية »كبر عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون«.

6 – في محاربة الهجرة
والتشبث بالجذور
لسياحته المعروفة ولتي امتدت في الزمان والمكان »ما شاء الله« دور كبير كما رأينا في ا كتساب معارف كثيرة وكبيرة كانت وليدة الخبرة والمعاينة والتمرس، ومن بين الأشياء التي خرج بها الشيخ ودعا إليها بقوة: فكرة الاستقرار، وأنه نعمة ما بعده نعمة، وأنه عش الطمأنينة الواجبة والموفرة للإبداع والخلق والعمل وإن الهجرة إن لم تكن مفروضة في عالم متموج لا يلبث على حال هي مغامرة، وأن استبدال مكان بآخر إن لم تفرضه الضرورة القصوى يحتاج إلى ترو، وضرب اخماس باسداس، وذلك لما خبره وما رأه من مصائب، كان يوصي بالتعمير والسكن واستصلاح الأرض ولا يشجع على ترك المكان، فحين جاءه وفد من أبناء بلدته بومروان يستشيرونه حول تبديل محل سكناهم واستقرارهم سرعان ما رفض الفكرة، واستفاض في مدح مكانهم بومروان« ورفعه الى مرتبة جعلت منه جنة فوق الأرض تحبيبا…
وكان مراده إقناع مشيريه وردهم عن عزمهم وتجنيبهم لعنة المخاطرة الجماعية غير المضمونة العواقب، ولم تخنه على عادته مرة أخرى فراسته، حين أصبح لأهله الذين أخذوا برأيه حاليا في جميع مدن المغرب بل في جل بلدان العالم شأن عال وكبير في ميدان التجارة والاقتصاد والعلم، وبلدهم مقرهم متى ذهبوا ومتى آبوا… »[…] وقد ذكر لي بعض إخواننا في الله تعالى، الموثق بهم أنه حضر لقبيلة سيدي احمد بن موسى أهل (بومروان) يتحدثون معه في مهماتهم، إلى أن قالوا له: يا سيدي احمد بن موسى إنك جلت في بلاد الدنيا وسلكت الجيد والدنئ، ونحن في بلدة قصيرة الغلل زرعا وغيره، فإن قدر الله الجدب على الناس نبقى في البراز، لا يقدر كل واحد منها أن ينجي نفسه فضلا عن غيره، لو دللتنا على بعض البلاد الجيدة التي فيها العيون الجارية، فننتقل إليها بأولادنا، ونبني فيها جامعا نعبد الله فيه، ونستغلها مدة حياتنا ونترك أولادنا في السعة و رغد العيش، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، قال وسيدي أحمد بن موسى ساكت حتى فرغوا من كلامهم، فقال لهم: سمعت كلامهم من أوله إلى آخره، فاسمعوا كلامي انتم، اعلموا أنكم لو مشيتم إلى بلاد (الشام) التي تذكر لكم بأنواع النعم، وأصناف الفواكه، لم تجدوا فيه قرين بلدتكم في الصحة والبركة والنعم المباركة، فاشكروا الله تبارك وتعالى الذي رزقكم هذه البلاد، وابتهلوا بالدعاء والمغفرة والرحمة لآبائكم وأجدادكم الذين تركوكم فيها«.

7 – في العمل
في تواز مع التعليم والتربية الروحية التي كان يقوم بها الشيخ، كان العمل هو الرجل الثانية لسير نهجه ومدرسته، فقد أولاه – كما الجزولية عموما – مكانة عميقة في فكره حيث لم يعد فقط وسيلة، بل غاية مراده بها محاربة افات النفس، من غرور ووساوس وغيرها من ادران النفس والروح، بل اعتبره نوعا من أنواع العبادات للتقرب الى الله باستصلاح الأرض وتشجيرها وسقيها ثم تعميرها، فقد قال للذي رأى المريدين وهم يشتغلون في سقي أرض ببلدة الشيخ وعلق عليهم بأنه هذا العمل ناقص استنادا الى عملية الربح والخسارة، إذ رأى العمل أكبر من المنتوج مقارنة مع ما في بلده درعة.. قال له بأن حسابه دنيوي محض وهو نفعي ضيق، إن المبتغى والذي لم يره المعلق هو تجارة أكبر، أكبر مما قاس فنفعها يتعلق بالحياة الأخرى.

8 – في الحافظة علي البيئة
ترابطا مع تقديسه للعمل واعتباره غاية في حد ذاته فإن موضوع عمل المتصوفة عموما و الجزوليين خاصة هو البيئة.. والتركيز على البيئة أخذ حيزا كبيرا من فكرهم، فمجرد ما يسمح للشيخ بفتح زاويته، إلا ويكون أصبع التوجيه مشيرا إلى الأرض، وجميع ما يتعلق بها من استصلاح، وغرس، وتشجير، واستسقاء، وبناء طرق وقناطر (تمصلوحت – بنساسي – تازروالت – تامنارت).
وهكذا وكما رأينا – بادر الشيخ الى استصلاح بسيط تازروالت من مرعى موحش الى بساتين ذات ثمار تبهر، ومناظر تسر الناظر تجمع بين العمل والنفع »والأجر« وهذا لعمري درس كبير لمن أراد بمدرستنا أن تكون وأن تسير بشكل سوي.

9 – في قول الحق
الجهر بالحق مرتبط بأشياء كثيرة منها شخصية الإنسان، نشأته، تكوينه، درجة وعيه الخ. والكل يعرف الحق من الباطل: لكن الذين يصدحون به هم الشجعان، وهم نادرون، قل ما يجود الزمان بهم. لأن ضريبة قول الحق صعبة، قد تفقر، تقتل تشرد، تيتم، وأمثلة التاريخ كثيرة ومتعددة، وقد صنف السلطان محمد الشيخ السعيدي صلحاء وقته الى ثلاثة: صنف أول يخاف الله ولا يخاف السلطان، وصنف ثان يخاف الله ويخاف السلطان، وصنف ثالث: لا يخاف الله ويخاف السلطان، ومن قرأ سيرة حياة الشيخ وتمعن فيها رأى كيف أن الشيخ يغلب المصلحة على الشجاعة والتبصر على التهور وأن الشجاعة في الوحدة من أجل الجهاد بدل التشرذم والأنانيات فقد كان هاجسه هو الوحدة الوطنية وحمايتها من جميع أصناف الأعداء خارجيين وداخليين (ما أشبه اليوم بالبارحة) ووجب قول الحق في كل من يكسر ذلك فلا نستغرب ان رأيناه يرفض طعام السلطان لمجرد الشك في مصدره، ولا نستغرب أكثر فيما قاله لرئيس شرطته في إحدى قدماته على السلطان بمراكش حين كان يرد زائري الشيخ عنه قائلا” »من زار خرج”« ليحور الشيخ الجملة مصيرا إياه (من جار خرج) بدل »(زار) لإحساسه ربما بجور بعض من “»بطانة السلطان«” وقد كان الشيخ إلى جانب قيامه الى جانب الحق يتدخل الى جانب المظلومين ويحميهم وقتما استجاروه وفروا الى زاويته بدون أدنى خوف وبمجرد الإيمان بقضيتهم.

10 – في الشفاعة
لمكانته وهيبته كان السلطان يقبل شفاعته، فكثير من معارضي السلطان و الفارين إليه منهم كان يشفع لهم لدى السلطان، وكان هذا الأخير يقبل.. وكان الشيخ في ترفع كبير لا يستغل ذلك ولا يستلذ به، ولا يتتبع من شفع لهم.
(…) وكان قد شرد منه (أي من السلطان عبد الله الغالب بالله السعدي) الى زاوية الشيخ المذكور المرابط الأندلسي، وولد أزناك، وأمثالهم، وكان الشيخ المذكور يقوم بالشفاعة فيشفع، ولا يتعقب ولا يبحث عما وراء ذلك بقايا على عهده ومودته..).

11 – في الاهتمام بالشأن العام

أ – في العمل المدني
المقصود بالعمل المدني هو العمل الخيري الاجتماعي، وقد كان الشيخ رائدا فيه كغيره من أصحابه، فقد أولى العناية الكبرى للحمة الوطن درءا لكل ما قد يصيبه من تفكك سيزيد التفكك الحاصل دمارا.
فبدأ بأولى الأولويات: الجوع.. فالجوع أصل الآفات. والجوع عدو الأمن، وعدو الاستقرار، وعدو العبادة. ألا يقولون إن الجوع كافر أو كفر أو كاد يكونه، وعدو كل القيم الانسانية الجميلة، والزمن زمن جوع فبدأ بالإطعام. ومازالت الأقوال المنسوبة للشيخ سائرة في هذا المضمار: »إزوور العبود المعبود«.
كما كانوا ينسبون له هذه القولة كذلك: »أعبود ايحمان احماد ايخلان« كناية عن أولوية الرغيف… فالرغيب الكريم قد يساعد في إعادة الكرامة والله ألبسها الانسان… فأوى الشيخ وأطعم وأكرم وزاد في الكرم، وكان شعاره المذكور خير شعار للمرحلة، بل لكل مراحل الخصاص واقتصاد الندرة.
»”كيف أصل المقامات عند الله إن خرج ضيفي جائعا«” وقد سلك رموز المدرسة الجزولية وشيوخها نفس المسلك. وكان ذلك على مدار الوقت. لا يميزون بين شهر وغيره دون ادعاء ولا تبجح حيث كان عملهم هو كلامهم… ولم ينس التطبيب في زمن سادت فيه الأمراض دون خوف من العدوى وفي شجاعة قل نظيرها، ولم يقتصر التطبيب على الأمراض العادية والنفسية بل تعداه إلى كون الشيخ انبرى لمقاومة الأوبئة، وكان مثالا للشجاعة وعدم الخوف ونكران الذات في تصديه لهذه الأمراض المتنقلة كالجذام وغيره.
والعمل المدني ليس مفصولا عن العمل الوطني والسياسي بل هو أرضيته وأساسه… وبهذا الوعي الكبير والرؤية البعيدة عمل على بناء شروط الاستقرار والأمن (تأمين – الطرق – المؤاخاة بين القبائل الامازيغية والعربية) الحكامة الجيدة في النزاعات – إزالة لاحتكام إلى الاعراف لخصوصيتها ومنافاتها للشرع. هذه الشروط هي المهيئة لعمل سياسي ووطني ناضج ووحدوي خصوصا والتحديات كما رأينا كثيرة وكبيرة…

ب – في العمل الوطني والسياسي.
لا يمكن فصل العمل الوطني عن السياسي أو الاجتماعي… فإذا كان العمل الاجتماعي كما رأينا هو اللبنة الأولى للعمل الوطني من حيث توفير شروطه، فإن العمل الوطني والسياسي حين يكون الوطن معرضا لمخاطر الغزو أو الاستقرار وكل الخلافات والامراض المجتمعية والسياسة تصبح صغيرة ليكبر الوطن ويصبح ملء العينين يحتاج إلى أبنائه بجميع أطيافهم وطبقاتهم، وعناصرهم.. ذلك ما استوعبه صلحاء المغرب في هذا القرن. فعملوا كما رأينا بكل طاقاتهم على التمهيد لدولة الجهاد… وهكذا كانت للشيخ مواقف خالدة في العمل الوطني ويمكن ذكر البارز فيها فقط (للتدليل الذي لا يحتاج إلى تدليل) ذلك أنه ربط العمل الخيري الاجتماعي المدني بوعي كبير بالعمل الكبير الذي هو الدفاع عن الوطن، وعدم التساهل حتى مع الغريب الذي يحمل نفس العقيدة (الأتراك) فالوطنية واضحة ولا مجال إلى خلطها، فقلب المغرب في المغرب وليس في مكان آخر كما فعل بعضهم آنذاك أو كما يفعل آخرون الآن في توسيعهم لمفهوم الوطن ومحاولة تمييعه، وإيقاظ ما حاربه الأجداد وأعطوا موقفا واضحا منه. ووطنيته بدأها كما قلنا باللبنة الأولى العمل الاجتماعي لينهيها بندائه التاريخي يوم أن احتاجه السلطان لشحذ الهمم والدعوة إلى الوحدة وراءه “»يا عرب يا بربر يا سهل يا جبل أطيعوا السلطان مولاي عبد الله ولا تختلفوا عليه”« مرورا بإنشائه في أول أمره صحبة الأخوين علي وسعيد ناصر لمدرسة »”زيما«” العسكرية الحمرية إلى لقاءاته المستمرة مع سلاطين عصره الثلاثة قصد التشاور في شأن الوطن وقضاياه..
ويمكن تلخيص هذه المحطات الوطنية في:

1 – التدخل لإطفاء ثائرة القبائل الأمازيغية والعربية ضد السلطان أحمد الأعرج صحبة شيوخ عصره حين ثارت عليه »بأقا« سنة 932 هـ.
2 – الإسهام بإقناع فرسان القبائل المعقلية وضمنهم فرسان قبيلة احمر الذين كانوا تحت إشرافه المعنوي والروحي 8000 فارس بالدخول إلى الجيش النظامي.
3 – الدعوة إلى الانتقام للسلطان المغتال محمد الشيخ السعدي من الأتراك وإيجاد مبرر للاتحاد والوحدة وراء السلطان الجديد ضدهم.
4 – الدعوة إلى توحيد الصف والجهاد وراء السلطان الغالب بالله ضد الغزو بشكليه »”الايبيري”« و»”التركي«”
5 – الدخول في عملية المصالحة الوطنية بين السلطة وبعض الزوايا الممتحنة (زاوية تامصلوحت – زاوية الشيخ عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم)… ياعرب يا بربر أطيعوا السلطان ولا تختلفوا عليه«.
6 – اقامة تواصل بين العرب والامازيغ تسهيلا لعميلة المثاقفة التي تصب في اطار واحد هو الدفاع عن الوطن.
7 – ضمان الولاء للإمام ولاء مشروط بالجهاد والعدل.

12 – في العمل الديني

تجلى العمل الديني عند الشيخ في تصحيح العقيدة عند أناس ظل إسلامهم لا يتعدى مظهر الهوية والانتماء وظلوا ثقافة وشريعة يحتكمون إلى الاعراف… وذلك باللقاءات وتنظيم مواسم دينية يجتمعون فيها به وغيره من شيوخ الطريقة قصد التنوير والارشاد والتوجيه كموسم ادوالتيت الذي يرجع زمن تأسيسه إلى زمن الشيخ والذي تجتمع فيه قبائل ادوالتيت الثلاث للذكر والموعظة والتوجيه.
كما كان الشيخ مع أصحابه “ينظمون السفر إلى الحج في ظروف مخيفة وصعبة”
وأخيرا هذا نزر قليل من كثير من السلوكات والمواقف والادوار رأينا من خلاله تعاطي متصوفة القرن العاشر الجزوليون مع معضلات عصرهم وكيف اهتموا بالانسان الذي كرمه الله، وكيف اهتموا بالمجال دون تلكؤ أو خوف أو استصغار أو هروب فكانوا بحق نعم من حمل الرسالة، رسالة الحق والعمل ونكران الذات… ولنا الحق أن نتساءل ماذا بقي من هؤلاء؟ ماذا بقي من الشيخ وأصحابه؟ وما مدى صلاحية هذه المواقف والأدوار والأفكار؟ هكذا تساءل غيرنا من أهل الطريقة. ونورد نحن تساؤله وإجابته. وبإيرادنا لها نكون قد تبنيناها لوجهاتها وفصاحتها والله أكبر العارفين:
يقول الأستاذ الدكتور أحمد التوفيق بعد عرض أدوار الصلحاء الصوفية في تاريخ المغرب”
»”لابد أن نتساءل عن مدى صلاحية هذه المواقف والأدوار والأفكار في عصرنا هذا لابد من الاعتراف بأن كل المواقف والادوار والمعتقدات والافكار عرضه لمحك الزمن ومستجداته والتصوف من ضمن ما يجري عليه هذا الفحص. لأن فكرته وإن كانت مطلقة، فلها ميزة التركيز على الانسان ومن ثمة عايشها الانسان وعايشته في تجليات تاريخية نسبية، ولكن الفكرة الاساسية في التصوف وهي الايمان بإبعاد التكريم الإلهي يفسرها قيام التصوف على طلب الحرية للانسان الذي يتحرر إذا تجرد من التملك وتحلى بضمير المسؤولية عن المخلوفات أناسي وأشياء وهو النموذج.
إن الحرية السياسية التي يعمل على بنائها المجتمع الانساني اليوم ستوفر بمؤسساتها والتزاماتها مناخا جديدا للمعتقدات بما فيها فكرة التصوف ستحميها وتخرجها من زوايا التهميش وسطوة الإقصاء. وبذلك ستشارك مع مؤسسات الدولة فعالية المجتمع المدني في أعمال خير يحميها ويراقبها القانون، لكن الايمان بالانسان على أساس التكرين الإلهي وتجربته كما يراها المتخلص من ربقة الاشياء سيكون هذا الايمان مولدا لحكمة متجددة ولأخلاقية مسندة أي غير مقطوعة عن الايمان ولجمالية تعشقها الحواس في توافق مع الروح بل إن هذا الايمان سيتوافق مع قدرات أخرى يستنبطها الانسان من نفسه تتعدى العقل ولا تناقضه، بل تفتح إمكان فهم المتناقض في تطلعنا إلى أسرار الذات«.
المدني إدكروم … أكابريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق