“تيتا”..قصة إفناوية حزينة

حمدي الحيرش

شيد الاسبان مدينة إفني سنة 1934حول حديقة غناء هي الأخرى من تصميمهمأمنحهم صفة بناة الحضارة  فقط لأنهم بنوا مكانا رأيتُ فيه لأول مرة شقائق النعمان، التي يخجل من جمالها  الآسر مَن لا يعرف الخجل، وبها تعلمتُ أبجديات القراءة باللغتين العربية والفرنسية.

ما يثير انتباهي على الدوام بهذه المدينة الساكنة، هو كثرة المجانين بها ومن كلا الجنسين:المساواة قد تحققت هنا إلى أقصى حد، إلى حد الجنون إن صح التعبير

من بين هؤلاء تشينو، الأكبر سنا والأكثر تمثيلية للجنون الإفناوي، إن شئنا استعمال هذا المصطلح الشائع في الأدبيات الديموقراطية؛ فقد تجاوز الستين خلال عقد الثمانينات، حيث كنتُ في مرحلة الصبا.

تشينو  بلغة الاسبان تعني الصيني، رغم أن الرجل لم يكن يربطه شيء يٌذكر ببلد جاكي شان؛ فسحنته سمراء، ضاربة للسواد بفعل أشعة الشمس التي يتعرض لها طيلة النهار بما أنه متشرد، متوسط القامة، وذو شعر أجعد بفعل تراكم الأدرانكنا ونحن صغار نسمع أنه كان، إبان التواجد الاسباني، لاعب كرة قدم لا يشق له غبار، لكن لا أحد في المستعمرة السابقة يعلم شيئا عن سبب تحوله من معسكر الحيوانات الناطقة بمعنى العاقلة (حسب التعريف الفلسفيإلى معسكر الحيوانات العجماوات.

تيتا، بالمقابل، سبب مأساته الوجودية معروف للجميع، وقصته الحزينة تفاصيلها يرويها الصغير قبل الكبيركان حلاقا متيما برومية فاتنةبسبب الحب فقد هويته، حيث لم  يعد أحد يدعوه باسمه الحقيقي، بل باسم محبوبته تيتا، في أرض شجراتُ الأنساب بها مقدسةحدثني أبي عن جدي… وهكذا صُعدا إلى يوسف بن تاشفين أو عقبة بن نافع

كان تيتا يعيش حياة سعيدة مع روميته الشقراءشاب رشيق، مفعم بالحياة، عاشق لهاكان ذلك قبل الجنون طبعا، فما الذي حصل بعده ؟

وهو عائد من عمله، مساءَ يوم جوه صحو، لم يجد غادته الهيفاء، فانتابه شعور غريب بأنها تركته إلى الأبدأخذ يتمتم وهو يرنو إلى الأفق كمن به مسحبيبتي، أنا فارسك ذو الطلعة الحزينة من الآنقيل له إنها بالميناء، فأسرع كالمجنون عله يدركها ويحملها بعيدا عن أعين الناس على بساط من الريح، قد تصوره على عجل في مخيلته التي سيفقدها بعد ذلك بلحظات وإلى غير رجعة.

في المرفأ، أخذ ينظر إلى السفينة التي تقِلها، وهي تمخر عباب البحر  المحيط في اتجاه جزر الكناري، المكان الذي جاء منه العقيد كباث لأول مرة سنة 1934ليحط بعاصمة أيت بعمران، فيحرك ما بها من راكد على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعيأجال ناظريه في الفضاء اللامتناهي و لسانه يرددذهبت تيتا… ذهبت تيتا… من تلك اللحظة وهو يحمل هذا الاسم الذي ظل لصيقا به حتى ودع هذه الحياة الفانية في السنوات الأخيرة.

عادت تيتا  إذن إلى موطن أجدادها، و تركت لصاحبنا اسما يتكون من مقطعين قد تركا في حياته وفي مخيال الافناويين أثرا لا تذروه الرياحنسج الأهالي حول تيتا وعشيقها الأسمر حكايات وحكايات، وما  يزال الكل يتذكر قصة حبهما إلى الآن بحنين جارف ممزوج بشيء من الأسى والمرارة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق