جرائم بيئية تجتاح أكادير بسبب "اللوكسافيا" ونفايات المصانع

بيئة

 

سوائل تتدفق بلون مقرف، روائح كريهة تنبعث من المطرح البلدي، مصانع تخنق السكان بالأدخنة في حي أنزا، وأخرى تصب شوائبها مباشرة في البحر، فيول صناعي بأحد الأودية، رئات أكادير مهددة بسرطان اسمه التلوث.

أكادير من المدن المغربية الجميلة، كما أن خليجها البحري من أحسن الخلجان في العالم. ينضاف إلى هذا توفرها على العديد من المرافق الترفيهية. لكن هذه الواجهة التي تبدو براقة تخفي وراءها خلفية بشعة. فإذا كنت تمشي في كورنيش أكادير وتتنفس الهواء النقي بعمق، فإنك لن تستطيع التجول في حي أنزا إلا وكفك على أنفك. ولا يمكنك أن تزور أحياء الداخلة والقدس وتيليلا دون أن تستغرب من الروائح التي تحملها رياح الشرقي. وإذا كنت تتجول في متنزه وادي الطيور وتمتع عينيك بمناظره، فإنك لن تطل على وادي الحي المحمدي دون أن تشمئز نفسك من منظر الزيوت السوداء التي تكسو قعره.

شبح اللوكسافيا

الساعة تشير إلى العاشرة صباحا بحي تيليلا بأكادير، كل شيء يبدو هادئا هنا. أزقة خالية إلا من بعض الأشخاص، وأمهات جلسن أمام بيوتهن وأطفالهن يلعبن بالقرب منهن. لكن كلما اقترب الزوال إلا وبدأت تفوح في الجو روائح كريهة، يعتقد من يستنشقها من أول وهلة أن أحد مجاري الصرف الصحي انفجر في مكان قريب. سعيد أحد سكان هذا الحي اعتبر الأمر عاديا مادام المطرح البلدي لأكادير قريبا من هذا الحي، إذ لا يفصله عنه سوى أربعة كيلومترات أو أقل، “المطرح خصو يكون بعيد على السكان” يقول بنبرة المشتكي. من خلال جولة في أزقة هذا الحي بدأت الأجوبة تتشابه. كل أصابع الاتهام تشير إلى المطرح البلدي القريب من الحي. طريق معبدة ملوثة بالأزبال التي تسقط من شاحنات نقل الأزبال، لا تصادف فيها سوى شاحنات خضراء. فجأة تظهر لك طيور اللقلاق تحلق في الهواء وتحوم حول منطقة معينة، إنه المطرح البلدي لأكادير، روائح تزكم الأنوف وأكوام كبيرة من النفايات تحوم حولها الطيور والكلاب، بينما بعض الأشخاص يبحثون بين النفايات عن البلاستيك والحديد، وبعض المواد التي قد تكون مازالت صالحة للاستعمال. فيما أحواض في الجنبات تتسرب إليها عصارة الأزبال أو ما يسمى بـ”اللوكسافيا”. لكن إذا كانت هذه الروائح تصل إلى حي “تيليلا” القريب، فكيف تصل إلى أحياء القدس وتكيوين والداخلة البعيدة؟

“المتسبب في كل هذه الروائح ليست الأزبال بل هي عصارة “اللوكسافيا”” الكلام هنا لرشيد فاسح رئيس جمعية “بييزاج” المهتمة بالبيئة في أكادير، وأضاف المتحدث في تصريح لـ”هسبريس” أن الشركة الفرنسية المفوض لها تدبير هذا القطاع من المفروض فيها أن تشرف على معالجة هذه العصارة وتحويلها إلى سماد جاف كما هو متعارف عليه في هذا المجال. لأن هذه العصارة حتى وإن لم تسبب الروائح الكريهة تلك لأبناء بعض الأحياء، فإنها ستتسبب لا محالة في مشاكل بيئية أكبر أبرزها التأثير على الفرشة المائية الباطنية والغطاء النباتي. هكذا ينتصب السؤال: لماذا لم تطبق الشركة المكلفة دفتر التحملات كما يجب؟

سعيد السعدوني عضو المجلس البلدي بأكادير عن حزب العدالة والتنمية له رأي آخر في الموضوع. فدفتر التحملات، يقول السعدوني، كان فيه خلل منذ البداية. لأن الشركة المكلفة بتدبير هذا القطاع تكلفت به على أساس أن المطرح البلدي ستفرغ فيه نفايات الجماعات التابعة لأكادير فقط، لكن بعد ذلك تمت إضافة جماعات أخرى، منها جماعة أولاد تايمة التابعة لتارودانت. لذلك فإن حجم النفايات فاق المتوقع وتجاوز طاقة الشركة المكلفة بكثير. لكن، حسب السعدوني، ليس هذا إلا جزء من المشكل، أما الجزء الآخر فمرتبط بنفايات مصانع السمك التي تفرغ في المطرح، لأن معالجة هذه النفايات جد مكلفة، لذلك تعمد المصانع إلى التخلص منها بهذه الطريقة. لذلك فالمشكل حسب المتحدث أكبر من اختصاصات البلدية، بل إنه يدخل ضمن اختصاصات ولاية أكادير التي عقدت لقاء بهذا الخصوص. لذلك فالمقترحات التي جاءت في سبيل حل هذا المشكل ذهبت في اتجاهين: أولا ربط هذه الأحواض بقنوات الصرف الصحي مباشرة، فيما اتجاه آخر ارتأى معالجاتها في محطة المعالجة وربطها بقنوات الصرف الصحي.

يوم 25 فبراير من هذه السنة عقدت اللجنة المكلفة بالتعمير وإعداد التراب والبيئة اجتماعا، وكان مشكل المطرح البلدي من بين النقاط التي تدارستها اللجنة في هذا الاجتماع حسب تقريرها الذي تتوفر “هسبريس” على نسخة منه. إذ قامت بالدراسة والمصادقة على مشروع اتفاقية شراكة مع شركة “arval” حول إنجاز دراسة ممولة من طرف صندوق دعم المقاولات التابعة لوزارة المالية الفرنسية(FASEP)حول المشروع المندمج لمعالجة وتثمين النفايات الصلبة بأكادير، وصادق المجلس الجماعي على هذه النقطة. ويتعلق الأمر حسب التقرير “باتفاقية بين الجماعة الحضرية لأكادير وشركة “ar-val ” الفرنسية من أجل القيام بدراسات معمقة للوصول إلى جدوى مشروع مندمج لمعالجة وتثمين النفايات المنزلية بتكلفة إجمالية تقدر بـ376 ألف أورو (ما يعادل 4 ملايين درهم) ممولة من طرف صندوق دعم المقاولات التابعة لوزارة المالية الفرنسية(FASEP)”. بعد ذلك وقعت الشركة والمجلس البلدي بروتوكول اتفاق تتوفر “هسبريس” على نسخة منه.

الحي القنبلة

إذا كان المطرح البلدي يقض مضجع جيرانه من الأحياء القريبة كلما هبت رياح الشرقي، فإن حي أنزا تجثم عليه الروائح الكريهة في كل الأوقات، إلى درجة أن سكان مدينة أكادير يسمونه “أنزا الخانزا”. فبمجرد ما تتجه في اتجاه شمال أكادير تاركا أكادير أوفلا على يمينك والميناء على يسارك، يستقبلك حي أنزا بروائحه الكريهة، كما اعتاد أن يستقبل ضيوفه، وتنتصب أمامك مصانعه الضخمة بمداخنها الشامخة، ومنازل السكان محاذية لها كأنها أقزام وقفوا بجانب عمالقة، قد يسحقونهم بأقدامهم الكبيرة في أية لحظة. بمجرد ما تطأ قدماك هذا الحي لا بد وأن تقوم بحركة لا إرادية، وهي أن تضع يدك على أنفك لتصد الروائح، وما هي إلا دقائق حتى يتعود أنفك على هذه الرائحة. فالحي يشمل أكبر تجمع صناعي بأكادير، حيث أن مساحته تبلغ 200 هكتار، منها 110 هكتار خصصت للوحدات الصناعية والباقي للتجمعات السكنية. العديد ممن صادفتهم “هسبريس” هنا من أبناء الحي يرددون عبارة واحدة “ولفنا هاد الريحة”. لكن الذي لا يعرفه أبناء هذا الحي أن العديد من الأمراض التنفسية المنتشرة هنا سببها هي هذه الروائح يقول إسماعيل أحد شباب الحي. ثم يمعن في وصف معاناة السكان مع المصانع هنا. روائح كريهة تغمر الحي طول اليوم، ومداخن تنفث مواد كيماوية باستمرار. أما خلال الليل فتسقط قطرات شبيهة بالندى.

من أكبر الملوثات في هذا الحي معامل دقيق السمك، إذ تقوم هذه بتخزين الأسماك غير الصالحة للتصبير والاستهلاك لمدة ست ساعات في الهواء الطلق. هكذا تنبعث روائح كريهة ناتجة عن التخمر. بل قد تستمر مدة التخزين هذه إلى أن تجتمع كمية مهمة تسمح بتشغيل المعمل. بعد ذلك تأتي عملية التحويل لتنبعث معها غازات ناتجة عن احتراق مادة “الفيول” التي تتحول إلى سحابة سوداء تغطي سماء المنطقة. ثم عملية التجفيف التي تخلف سحبا بيضاء محملة بروائح كريهة. وإلى حدود الآن لم يحدد التركيب الكيماوي لهذه الغازات، حسب دراسة قامت بها خلية الوقاية والحفاظ على البيئة بأنزا. ومسببات التلوث حسب هذه الدراسة هي المصانع الموجودة بالحي. كما أكد التقرير نفسه أن هذه المعامل لا تحترم القوانين المعمول بها لحماية البيئة، من حيث عدم استعمال المصفاة في المداخن، وبالتالي فإن المواد العالقة تزيد من نسبة الرائحة الكريهة، زيادة على قدم هذه المداخن وقصرها.

أخطر وحدة صناعية بالمنطقة، هكذا وصفت الدراسة المذكورة معمل الأسمدة والمواد الكيماوية الذي يقوم بتهيئة السماد باستعمال مواد أولية عضوية ونباتية: “بقايا الموز- العنب- القمح..” وأخرى حيوانية “جلد- قرون- عظام…”. فبالنسبة للمواد النباتية فإنه يتم مزجها بنوع من البكتيريا لتسهيل تحليلها عن طريق التخمر، وتجمع هذه المواد في الهواء الطلق لتتخمر وترش بالماء لتحافظ على الرطوبة. هذه العملية تتم مرة كل شهر تقريبا، مما يسبب انبعاث غازات كريهة. أما المواد الحيوانية فيتم تحميضها بالحامض الكبريتي وتسخينها بالبخار، لتتحول إلى عناصر بسيطة، بعد هذا يتم خلطها بمواد معدنية بنسب تتغير حسب تركيب المنتوج المطلوب، كما يقوم المعمل بتلفيف وتوزيع أسمدة معدنية أغلبها مستوردة.

أما معمل الزيوت الذي يعتبر هذا المعمل من أكبر معامل أنزا إذ يقوم بتحويل الزيت النباتي المستورد إلى زيت قابل للاستهلاك، كما يصنع الشاي والقهوة والصابون وزيت الزيتون. هذا المعمل، حسب التقرير المذكور، يلوث البيئة بطرق متعددة إذ أن شوائبه التي هي عبارة عن سيول من النفايات الزيتية الفاسدة والمعقدة كيميائيا تصب مباشرة في البحر عبر قناة، كما يطرح عن طريق هذه القناة مادتان وصفهما التقرير بالخطيرتين هما : الصودا والأمونياك. مع العلم أن أغلب الصيادين يصطادون الأسماك بمحاذاة هذه القناة ويتم بيعها للاستهلاك. من جهة أخرى تقذف مداخن هذا المعمل روائح كريهة وسحب سوداء خانقة، وأبخرة زيتية كريهة يتم إطلاقها مباشرة بعد حلول الظلام. 212 حالة مرض بالأمراض التنفسية تم تسجيلها من بين 412 شخصا، تم فحصهم خلال يوم طبي نظمته جمعية البساط الأخضر للبيئة. كلها في صفوف القاطنين بجوار معمل الزيوت.

نفايات المصانع

في الشهر الماضي اكتشفت جمعية “بييزاج” وجمعية أنزا للبيئة والتنمية مواد كيماوية في أحد الأودية القريبة من الحي المحمدي، تبين فيما بعد أنها كميات من الفيول الصناعي انطلقت عبر سيول سوداء جارفة، محملة عبر طبقات سميكة وثقيلة تقتل كل ما تصادفه في طريقها. وخلص تقرير للجمعيتين إلى أن هذه الزيوت الثقيلة تحتوي على ملوثات خطيرة وسامة ونفايات ثقيلة، تتكون من زيوت المحركات ومخلفات الفيول الصناعي، “وتبدو عليها روائح السمك أو محركات بواخر الميناء، لأنها مختلطة بهذه الروائح، ويتكون هذا الطوفان الملوث من مواد جد سامة وخطيرة جدا على البيئة الطبيعية والبحرية وهي سيول تصب من أعلي الوادي على شكل سيول سوداء سامة جدا، تؤثر بشكل مباشر على الفرشة المائية، وقد تحملها سيول الأمطار إلى البحر ليعيش شاطئ أكادير أسوء كارثة بيئية أشبه بتسرب النفط من حاملات البترول”.

بعد هذا التقرير بأيام فقط، أوفدت السلطات الولائية لجنة مشتركة كبرى تضم العديد من المصالح المعنية بمجال البيئة وعناصر الدرك الملكي والسلطات المحلي، لمعاينة حجم الأضرار التي خلفها صب مخلفات الفيول الصناعي في قعر الوادي، التي من المرجح أن تكون “زيوت الفيول ” مختلطة بروائح ومخلفات دقيق السمك (الكوانو). لكن إلى حدود الساعة لم يتأكد ذلك، إذ فتح تحقيق في النازلة لم تظهر نتائجه بعد.

المشاكل البيئية بأكادير ليست وليدة اللحظة، خصوصا المتعلق منها بالمطرح البلدي، بل إنها قديمة تجترها المدينة منذ سنوات، لتتفاقم سنة بعد أخرى. لذلك إذا كانت بهذه الحدة في سنة 2013 فإنها ستكون أكثر حدة خلال سنة 2014 والسنوات المقبلة، إذا لم تتم معالجتها بشكل جدي بدل الحلول الترقيعية التي اعتادت الجهات المسؤولة أن تقدمها.

المجلس الجماعي يقطع أشجار الكالبتوس

أقدمت بلدية أكادير على قطع العديد من أشجار الكالبتوس القريبة من الشاطئ، الأمر الذي جعل العديد من الأشخاص والجمعيات يستنكرون هذا الأمر الذي اعتبروه جريمة بيئية يجب محاسبة من ارتكبها. لكن سعيد السعدوني عضو الأغلبية في المجلس البلدي كان له رأي آخر في الموضوع، إذ قال في تصريح لـ”هسبريس” إن هذه الأشجار التي يعود تاريخها إلى الستينيات والخمسينيات من القرن الماضي لها منافع على البيئة، لكن لها أضرار لا يعرفها إلا جيرانها. من جملتها، يقول المتحدث، أنها تتسبب في تكسير مجاري الصرف الصحي وتشقق الجدران. كما أكد العضو نفسه أن المجلس البلدي قام بهذه الخطوة بناء على عدد من شكايات السكان التي وردت على المجلس.

هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق