ما  الذي يصنع الفرق بين الناس؟

أيوب بوغضن

المقصود بالفرق بين الناس هو ذاك التفاوت القائم بينهم في المستوى وذاك التمايز الملحوظ في ما بينهم في مسائل التفكير والتحليل وذاك التباعد الظاهر بين حظوظهم في مختلف جوانب الحياة (الدراسية، المهنية، التنظيمية، المعرفية..).

نشاهد مجموعة من الطلاب تدرس عند نفس الأستاذ (وهو أحسن الأساتذة)، وتضيف الساعات الإضافية في نفس مركز الدعم، وتحرص بشكل جماعي على إنجاز الواجبات المنزلية والانضباط الدائم لوقت الحصص الدراسية. غير أن التفاوت في المستوى يبرز بقوة عند الامتحان.

نجد زمرة من التلاميذ وصلت إلى مستوى الأولى إعدادي وهي تملك مؤهلات متساوية في اللغات، تتابع بشغف –بشكل جماعي- دروس النحو في العربية لتتخلص من الأخطاء في كتابة الإنشاء، تحفظ الأشعار الفرنسية بحماس لتنمي رصيدها اللغوي. غير أن “الطبقية” اللغوية في أوساط هذه الزمرة سرعان ما تطل برأسها عند الاختبار.

نعاين بعض الخلان يحبون مادة الرياضيات منذ الصغر، يجتهدون في إنجاز التمارين التي يعطيها الأستاذ، يستحلون المعاناة ويستمتعون بالتعب من أجل إيجاد المسائل الشائكة التي قدمها لهم الأستاذ، يحرصون بشكل تلقائي على المشاركة في الفصل. غير أن  حذق الإجابة في الامتحان وتحصيل أعلى الدرجات لا يكون إلا من نصيب القلة القليلة.

نرى الأقران يلتحقون بتنظيم معين (العمل الجمعوي)؛ ويحرصون على الحضور في نفس الأنشطة ويستمعون لذات المحاضرات وينخرطون في نفس اللجان. غير أن بعضهم يفوق بعضا بكثير.
لكن، ما الذي يحدث؟

صحيح أن أول تفاعل سيدور في الأذهان بخصوص هذه الأسئلة يحيل إلى التفاوت الأصلي الأصيل والكامن بين هؤلاء الأفراد في مواهبهم ومؤهلاتهم الفطرية وذكائهم الطبيعي (القدرة على الحفظ والاستحضار والحساب…). وهو أمر معروف، قد تكون له نسبة من الصحة. لكن عموما المعطيات التي كشفت عنها التجارب الحديثة تشير إلى محدودية المؤهلات الطبيعية والفطرية في صناعة الفرق بين الأفراد.

إن النماذج التي أوردناها افترضنا فيها جميع أنها تتقاسم نفس الظروف الاجتماعية وتشترك في نفس القدر من المثابرة على إنجاز ما يُطلب منها من طرف الآخرين (الأساتذة والمُربُون). ثمة، إذن، أمر في الخفاء هو الذي يصنع الفرق.

إنها المواظبة الاختيارية. الأمثلة التي سبق ذكرها ألمحنا إلى أن ما يجمع الأفراد المتبارين فيها هو مواظبتهم على الأمور الإجبارية المفروضة عليهم من طرف جهة خارجية (الآباء، الأساتذة، قيادة التنظيم…)، أو قل الأمور المطلوبة منهم من طرف من لهم سلطة عليهم (مادية كانت أو معنوية).

لكن المواظبة الاختيارية شيء آخر. إنها التزام يفرضه الفرد على نفسه بعد أدائه للالتزامات الخارجية والإجبارية. نعود إلى الأمثلة السابقة:

إن الذي يجعل نتائج الطلاب مختلفة هو كون بعضهم أخذ على نفسه (بعد الانتباه لمتطلبات الدرس في الفصل، وبعد الاختلاف إلى مجالس الدعم والساعات الإضافية) أن يقوم بمجهود آخر فردي اختياري يوميا. يبرمج أوقاتا خاصة في اليوم ليشتبك من جديد مع أسئلة المقرر الدراسي ويتفاعل معها بالمراجعة والتمارين.

وإن الذي يكمن وراء تميُز بعض التلاميذ في كتابة الإنشاء هو كونهم إذ يرجعون إلى منازلهم؛ يُثَبتون قواعد النحو، ويفتحون سلاسل الروايات ليستغرقوا في قراءتها، ويمسكون بالكتب لينهلوا من معين أفكارها، ويلخصون ما عنَ لهم من خلاصات، ويُدبجون ما بدا لهم من محاولات في كتابة المقالات. كما أن مرد تألق بعض الفتية والفتيات في التمكُن من ناصية اللغة الفرتسية راجع إلى كونهم قد أخذوا على عاتقهم، بعد حفظ الأشعار المُقررة، ومن تلقاء أنفسهم وبدون إلزام من أحد؛ حفظ ثلاث كلمات بمعانيها من القاموس كل يوم ومحاولة الاشتباك مع صفحات قلائل من مكتوب فرنسي بشكل يومي أو مشاهدة أفلام ناطقة باللغة الفرنسية أو الاستماع الراتب لأغان وأشعار فرنسية.

كما أن الذين يتميزون في الرياضيات عن غيرهم ليس لخارق ذكائهم وإنما لكونهم ألزموا أنفسهم بالمواظبة على التفاعل والتعب مع عدد مُقدَر من التمارين والمسائل، تنضاف إلى سلسلة ما طلبه الأستاذ. ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن أحد أصدقائي المتميزين في الرياضيات –على الصعيد الوطني- وأحد الحائزين على الرتب الأولى في الامتحان النهائي للأقسام التحضيرية الخاص بشعبة الرياضيات، دورة ماي 2016، حدثني مؤخرا بعدما سألته عن الدرس المستفاد أو خلاصة سنتين من الجد والاجتهاد في الأقسام التحضيرية: إن أكبر وهم يبيعه الناس هو قولهم بأن الإجابة على مسائل الرياضيات تنتظر من الفرد التمتع بذكاء خارق “يُلهمه” الجواب. إن الحكاية يا صاحبي لا تعدو أن تخرُج عن ثنائية التكرار والاجترار في إنجاز التمارين؛ فلن تجيب إذا لم تُجرب ولم تبحث سلفا في نموذج قريب للتمرين المطلوب حله في الامتحان، خاصة وأن الوقت يضيق آنذاك ولا يسمح باسترسال التفكير.

ولفهم الفروق بين الأفراد الذين ينخرطون في نفس الإطار الجمعوي يلزم أيضا الاطلاع على ما يفعله كل واحد منهم في أوقات فراغه بعد الانتهاء من كل الواجبات، كما يلزم البحث عن الأعمال التي يواظب عليها كل واحد منهم –اختيارا- كل يوم. فقد تجد أحدهم مواظبا على تعلُم تقنيات جديدة في الإعلاميات وقد تلفي آخر عاكفا على القراءة المتأنية في تاريخ الحركات والتنظيمات مستخلصا الوسائل التي تستثمرها لترجمة أهدافها إلى واقع ملموس..

هكذا تبدو المواظبة الاختيارية حاضرة في الاستثمار اليومي لأوقات الفراغ. إنها قد تتمثل –مثلا- في اتخاذ العطلة الصيفية إلى جانب فترات فيها للاستجمام فرصة لإجراء أبحاث شخصية في الفكر والثقافة عن موضوعات مختارة بغير إيعاز من جهة خارج إرادة الفرد الحرة الطليقة. إنها قد تتمثل أيضا في بحث الفرد عن جوانب غير مدروسة في مجاله المهني سعيا منه لضبطها وتجويد عمله بها.

إن الكبار الذين نقف مشدوهين أمام سيرهم لم يكونوا سوى مواظبين –اختيارا- على أعمال بعينها. ففي مجال حفظ القرآن الكريم –مثلا- نجد الأستاذ حسن البنا كان يأمل والده أن يراه حاملا لكتاب الله لكنه بلغ سن المدرسة ولما يقف بعد على منتصف القرآن؛ فما كان منه إلا أن واظب على برنامج يومي  –إلى جانب المدرسة النظامية- فحفظ فيه ما تبقى له من سُور القرآن بعد صلاة الفجر قبل الذهاب وفي المساء بعد العودة من المدرسة. وهذا الدكتور يوسف القرضاوي يحكي، في مراجعاته على قناة الحوار مع عزام التميمي، سر السرعة التي حفظ بها القرآن ذاكرا أنه لا يكتفي بمحفوظه من الكُتاب بل يعود إلى المصحف في البيت ليواظب على استذكار المزيد من الآيات، فحاز بذلك قصب السبق بين الأقران.

وإذا تأملنا في الإنتاج الفكري للباحثين نرى أن ما يُميز بعضه على بعض هو كون فئة امتازت بجمعها بين التعمق في تخصصها (مجال المواظبة الإجبارية) والإطلالة المُمَكنة من استيعاب ما يدور في التخصصات والمجالات الأخرى ( مجال المواظبة الاختيارية). مما مكنها من تسليط الضوء على نقط منسية وقضايا مسكوت عنها. كان الأستاذ عبد الوهاب المسيري يحكي أنه عندما يكون بصدد إلقاء محاضرة في موضوع ما أو كتابة بحث في قضية معينة يروح تلك الأيام إلى قراءة كتب أخرى لا تتصل بتاتا بالموضوع الذي هو مجبر على الانشغال به. ويلفت انتباهنا إلى أن هذه القراءات الإضافية المختارة هي التي تُخصب خياله وتُمكنه من التفكير في زوايا أخرى للنظر في الموضوع الذي هو بصدد البحث حوله وإلقاء العرض فيه.
إن الذي يصنع الفرق حقا بين الناس ويستحق أن يكون مقياسا لتقييم الأفراد هو ما واظبوا عليه باختيارهم وبدون إكراه من احد وما فعلوه في أوقات فراغهم. أما الذي ينتظر دائما إشعارا من الخارج وأمرا من الآخر ليواظب على عمل وينجز الإنجازات، فهو سيصل -نعم- إلى مبتغاه ولكن لن يكون من المتميزين ولا في الصفوف الأولى في المباريات التي تشهدها الحياة باستمرار طوال مسيرة الإنسان.

وغير خاف أن المواطنين في الغرب يصنعون الفرق لأنهم يواظبون اختيارا على احترام القوانين وصيانة جمالية الفضاء وهدوء الوسط الذين يعيشون فيه. وفي المقابل نجد بني جلدتنا يتحايلون على الاستجابة لأمور فيها المواظبة الإجبارية وفي الغرامات وفيها السجن.
 (أيوب بوغضن)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق