قصة محمد السادس كما لم تقرؤوها من قبل 

sm_le_roi

«هو مهندس الانفتاح الديمقراطي للمغرب»، هكذا وصفته صحيفة «Purepeople» الفرنسية المتخصصة في أخبار المشاهير، وهي تغطي احتفالات الملك محمد السادس بعيد العرش الأخير. «لقد أصبح محمد السادس ‘‘ملك المغاربة”، خلافا للحسن الثاني الذي كان أساسا ‘‘ملك المغرب”»، يقول الخبير والمخضرم مصطفى السحيمي، فيما توقّف الصحافي الإسباني إغناسيو سمبريرو كثيرا عند نقطة ارتشافه كأسا (دون كحول) بعد محاورته الملك الحسن الثاني عام 1989، في مقابل افتقاده الشاي المغربي عام 2005، وهو ينهي استجوابا مع محمد السادس. 
«بمرور السنوات، يظل الطقس ثابتا دون تغيير»، توضح «Purepeople»، «لكن الملك يكسب تدريجيا بعض الشعيرات البيضاء في رأسه، وابنه الأمير مولاي الحسن يزداد طولا ببعض السنتمترات»، تقول الصحيفة، مضيفة أن أقوى لحظات احتفائه بمرور 16 سنة على توليه العرش، كانت ترؤسه حفل استقبال رسمي بقصره بالرباط، «الملك الذي سيبلغ 52 سنة يوم 21 غشت، يقف محفوفا بولي عهده الأمير مولاي الحسن، لكن أيضا أخيه الأمير مولاي رشيد، وابن عمه الأمير مولاي إسماعيل، هكذا وقف ليستمع إلى النشيد الوطني، قبل أن تطلق المدفعية 21 طلقة احتفاء بهذه المناسبة».
بصمات سريعة
في 23 يوليوز 1999، دخلت البلاد في حالة من الذهول والصدمة الشديدين بعد وفاة الحسن الثاني، وسرعان من انطلقت المشاورات والاستعدادات لتنصيب الملك الجديد، وظهرت الخلافات المبكّرة. فالبعض، مثل المستشار الملكي أندري أزولاي، اعتبر أن دستور المملكة واضح وحسم أمر الخلافة وولي العهد يُعتبر ملكا بمجرد موت الملك. وبالتالي، لا داعي إلى الاستعجال في القيام بأداء البيعة. لكن آخرين كانوا حاضرين في تلك المشاورات التي انطلقت من مستشفى بن سينا حيث توفي الملك الراحل، واستمرت إلى وقت متأخر من تلك الليلة، أمثال الراحل عبد الكريم الخطيب والمحجوبي أحرضان ووزير الأوقاف العلوي المدغري، أصروا على ضرورة أداء البيعة فورا أي قبل دفن جثمان الملك، وعدم ترك البلاد بدون ملك ولو لحظات قصيرة. فيما كانت جل الاتصالات والتحركات تشير إلى أن وزير الداخلية حينها، الراحل إدريس البصري، جاءت نهايته بموت «سيده».
العاهل الجديد حينها، ورغم تأثره الشديد بصدمة موت والده، إلا أنه فاجأ الكثيرين بقدرته على التصرّف والحسم. عاد وولي العهد سيدي محمد إلى القصر صحبة شقيقه الأمير مولاي رشيد لمباشرة عملية انتقال المُلك بنفسه، فهو كان المهندس الفعلي لكل مراسيم انتقال المُلك. ومن قابلوا ولي العهد آنذاك فاجأتهم رباطة الجأش التي كان يتحلى بها، وحرصه الكبير على احترام أكثر التفاصيل دقة في البروتوكول. كان أول شيء باشره ولي العهد آنذاك هو الإشراف على الإعداد لمراسيم البيعة، وفي تلك اللحظات الحرجة، كان من بين الشخصيات الكبيرة داخل الدولة الحاضرة داخل القصر الملكي عبد الكبير العلوي المدغري، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، الذي أمره ولي العهد بكتابة وثيقة البيعة رفقة المستشار الملكي عباس الجيراري.
كان الأمير سيدي محمد قد حسم كل شيء بنفسه، ابتداء من مكان التوقيع على وثيقة البيعة، وانتهاء بالأشخاص الذين سيمهرون الوثيقة بتوقيعاتهم، والموعد الذي حدّد للتوقيع على مبايعة الملك الجديد. وفي الساعة العاشرة ليلا من ذلك اليوم الطويل، كانت قاعة العرش، التي شهدت العديد من القرارات الكبيرة، غاصة بالشخصيات المدنية والعسكرية وبالعلماء والأمراء. وكان المدغري يتلو نص البيعة التي طوق بها الملك محمد السادس ملكه. وشاهد المغاربة كبار مسؤوليهم السياسيين والعسكريين والأمنيين يتقدمون إلى جانب الوزراء وأفراد العائلة الملكية للتوقيع على البيعة. وقالت مصادر موثوقة إن الأمير مولاي هشام الذي حلّ للمشاركة في الحفل بلباسه العادي بدل اللباس التقليدي الذي ارتداه الجميع، بفعل استعجاله الوصول قادما من فرنسا، هو من سلّم قلمه للموقعين على الوثيقة، ليمهروا بها عقد الولاء والطاعة لأمير المؤمنين
مرت 16 سنة على تلك اللحظات وبلغ الملك اليوم 52 سنة من العمر وبالتالي خرج من دائرة البدايات واللجوء المستمر إلى المقارنة بينه وبين عهد والده الذي طبع ذاكرة جلّ المغاربة. محمد السادس أصبح له تاريخه الخاص وبصماته الشخصية وأسلوبه المتميّز كملك قطع بعرشه مناطق ألغام وكمائن كثيرة لم يكن لها مثيل في السابق. فسنتان بعد جلوسه على عرش الحسن الثاني، دخل العالم ومعه المنطقة العربية في حرب غير مسبوقة في التاريخ ضد «الإرهاب»، وعشر سنوات بعد ذلك هزّ زلزال مدمّر، بتعبير الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، المنطقة العربية، وجعل عروش خمسة من أعتى حكامها على الأقل، تتهاوى في لحظات.
لا تدخين في حضرة الملك
«في محادثة لنا مع جوردانا ميران، المسؤولة الإعلامية بالمركز المغربي الأمريكي للسياسة، وهي منظمة تعمل على تطوير العلاقات الثنائية بين المغرب والولاياتالمتحدة الأمريكية، قدّمت لنا بعضا من أهم إنجازات الملك محمد السادس»، يقول كاتب أحد مقالات مجلة «فوربيس» الأمريكية الشهيرة. «أولها هيئة الإنصاف والمصالحة عام 2004 التي عالجت انتهاكات عهد والده الحسن الثاني، والثاني تعديل مدونة الأسرة عام 2004 أيضا، وثالثها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية عام 2005، ورابع إنجازاته كان في مجال الدبلوماسية، حيث قام بتقوية علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية، وباتت للمغرب أدوار كبيرة في إفريقيا، إلى درجة أنه فتح معهدا لتكوين أئمة دول إفريقية، وخامس الإنجازات المهمة هو دستور 2011»، هكذا لخّصت تلك المسؤولة الأمريكية عهد محمد السادس لصحافي المجلة الشهيرة.
خلف هذه الصورة التي تكثّف مسار ملك قصة طويلة انطلقت ذات يوم من صيف العام 1999، حيث بكى المغرب رحيل «الأب» الذي لم يعرف أغلب المغاربة ملكا غيره. يومها مات الرجل الذي أطل في 21 غشت 1963عبر شاشة التلفزيون، في ذلك المشهد الاستثنائي الذي بدا فيه الملك القوي الطامح إلى إحكام القبضة على الدولة والمجتمع، وهو يطلّ على شعبه حاملا أول أبنائه الذكور وولي عهده. «إذا كان جلالة الملك الحسن الثاني، تغمده الله بواسع رحمته، قد رحل إلى جوار ربه، فإننا نحن، محمد السادس، قد خلفناه في خدمتك شعبي العزيز وخدمة المغرب، وسنبقى على النهج الحسني سائرين تمسكا ببيعة الإمامة الشرعية التي تطوق عنقنا وعنقك موصولة بما سبقها على امتداد أزيد من اثني عشر قرنا موثقة السند بكتاب الله وسنة رسوله الكريم»، يقول محمد السادس في أول خطاب له بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، أي في مثل هذا اليوم من عام 1999.
صورة الرجل القوي والملك الداهية التي ظلت في مخلية الكثيرين حول أسلوب حكم الحسن الثاني، لم يسلم منها حتى بعض من كبار رجال الدولة وأعمدتها في تلك اللحظات المؤثرة. صحيح أنهم جميعا شهدوا كيف مهّد الملك الراحل لانتقال عرشه إلى وليّ عهده، لكن رجلا مثل وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، اعتقد أن هذا الملك الجديد الذي لم يكن له سابق عهد بالحكم، لن ينجح في قيادة مغرب الحسن الثاني. فكرة كانت وراء ذلك المشهد الذي عاشته إحدى قاعات القصر الملكيبالرباط، بمناسبة واحد من الاجتماعات الأولى التي عقدها الملك الجديد مع بعض الوزراء. تقول المصادر إن البصري حضر هذا الاجتماع أياما قليلة بعد رحيل الحسن الثاني، ورغم الحرب الطاحنة التي دارت بينه وبين الملك الجديد حين كان وليا للعهد، فإنه اعتقد أنه يحمل مفاتيح المملكة وأن سلطاته لن تزيد إلا امتدادا. جلس البصري يومها واخرج سيجاره ورفع ولاعته محاولا إشعاله أثناء الاجتماع، ليلتفت إليه الملك الجديد ويسأله: «منذ متى كان الوزراء يدخّنون أمام الملك؟»، فكانت تلك إشارة مبكّرة إلى بروز شخصية لم يألفها وزير الداخلية الذي اعتقد أن القصر لا يستغني عنه.
فرغم أن توتر العلاقات بين الملك محمد السادس بوزير داخلية والده الراحل الحسن الثاني، ليست سرّا حيث كان الكثيرون على علم بطابعها المتشنج على طول الخط، فإن الكتاب الجديد، ‘‘ابن صديقنا الملك”، كشف تفاصيل مثيرة تفسّر أسباب وخلفيات هذا التشنّج الذي جسّدته لحظة إشعال سيجارة الوزير. ذروة هذه التفاصيل كانت حين نقل الكتاب الجديد تفاصيل واقعة يقول إنها وردت على لسان مسؤول سابق بوزارة الداخلية أحيل على التقاعد، وتؤكد علاقة الصراع التي كانت تدور بين ولي العهد سيدي محمد ووزير الداخلية الراحل إدريس البصري. هذا الأخير، حسب الرواية، كان قد أخبر الملك الراحل بأن ولي عهده تعرض لحادثة سير بسبب إفراطه في السرعة، وهو ما جرّ عليه غضبا وعتابا قويين. «جلالتكم تصدقون وزير الداخلية على حساب ولي العهد»، يقول الأمير حسب هذه الرواية، ليجيبه الحسن الثاني: «طبعا، وذلك لأنه وزيري في الداخلية، أنا من عيّنه ولا يمكن إلا أن أصدقه، وإن لم أفعل فإن ذلك يعني أن اختياري لم يكن موفقا. حين يصبح لك وزير داخليتك افعل به ما تشاء، وحينها فقط ستعرف لماذا لا يمكنني أن أصدقك الآن».
ملك يخاف عليه شعبه
«أنا لا أشبه والدي، وهو كان يعرف أن لدي وجهات نظر أخرى»، يقول الملك محمد السادس عن نفسه في أحد حواراته الصحافية.
الصحافي الفرنسي الذي اشتهر بكتابته عن حياة الملك الراحل الحسن الثاني، جيل بيرو، قال في تقديمه للكتاب الجديد الذي أصدره الصحافي المغربي عمر بروكسي، إن وصول الملك محمد السادس إلى الحكم صاحبته آمال كبيرة للمغاربة، خاصة الشباب الحالمين بالتغيير. بيرو تحدّث عن محمد السادس باعتباره ذلك الشاب المتواضع الخجول الذي لم يكن على ود كبير مع والده الملك الراحل الحسن الثاني. لكن وبمرور السنوات، يقول جيل بيرو في مقدمة الكتاب، تكرّست في مقابل صورة «ملك الفقراء» التي التصقت بالملك في سنوات حكمه الأولى، صور من قبيل ذلك الملك الغني بفعل استمرار تنامي ما اعتبره ثروة ملكية، واستمرّ الدور المركزي للمؤسسة الملكية في المجال السياسي المغربي، رغم التغييرات التي أعقبت ظهور حركة 20 فبراير، حيث بقي الملك، حسب بيرو، متحكما في السلطة التشريعية من خلال ترؤسه المجلس الوزاري، وفي السلطة القضائية من خلال ترؤسه المجلس الأعلى للسلطة القضائية. كما حافظت المراسيم الملكية إلى طقوسها العتيقة في الظهور وتجديد البيعة في حفل مثير ينظم سنويا بمناسبة عيد العرش.
تدريجيا، كشف خليفة الحسن الثاني عن بصماته وأسلوبه الخاص في الحكم وبناء قنوات الاتصال المباشر مع الشعب، فمنذ لحظات حكمه الأولى، التصق وصف «ملك الفقراء» به ليسبق اسمه، وبدا وريث الحسن الثاني منذ أيام ملكه الأولى بشوشا مبتسما ورقيقا قرب جموع «الرعايا»، يبادرهم بالسلام والتحية، وصوره الخاصة وهو يتجول في شوارع أمريكا وأوربا بلباس رياضي، أو وهو يمتطي دراجته المائية في قمة النشوة والمتعة التي تولدها لديه الرياضات المائية، أصبحت تؤثث بيوت المغاربة ومكاتب الشركات. «لقد أولينا عنايتنا، ونحن ولي العهد، للقضايا الاجتماعية التي تهم المواطنين كافة مدنيين أو عسكريين، مع رعاية خاصة للفئات التي تشكو الحرمان أو تعاني القهر»، يقول في أحد خطبه الأولى، مضيفا، في حوار مع «الشرق الأوسط»، أنه يفضل أن يوصف بكونه ملك كل المغاربة، «الفقراء منهم والأغنياء. لقد شكل العمل الاجتماعي دوما أحد انشغالاتي الرئيسة».
قرب الملك من الشعب يجد له في كلّ مناسبة للفرح أو الحزن فرصة ليتجسّد على أرض الواقع، وهو الأسلوب الذي رافق محمد السادس طيلة سنوات ملكه، معبّرا عن وجه الملك الإنسان، الذي يجد له في كل عام موعدا ليطفو بقوة على الواجهة، ويذكّر بتلك الشحنة الكبيرة من الأمل والتعاطف التي نالها منذ توليه خلافة الحسن الثاني. فعلى مدى السنوات التي قضاها في الحكم، امتدّ عمل الملك إلى قلب المناطق الجبلية والقاحلة وتلك المصابة بلعنات التاريخ. وحمل الموكب الملكي في تحركاته، بالإضافة إلى البرامج الرسمية لمختلف قطاعات الدولة، برامج مؤسسات أخرى، مثل مؤسسة محمد الخامس وبرنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بالإضافة إلى وكالة تنمية الأقاليم الشرقية.
أما الشمال الذي ورثه منكوبا مهمّشا، فبات محور النشاط الملكي مباشرة بعد إطلاقه أشغال بناء ميناء «الناظور غرب المتوسط»، وما أثاره ذلك من ردود فعل غاضبة من داخل مدينة مليلية المحتلة، باعتبار أن المشروع يشكل تهديدا اقتصاديا واستراتيجيا لمكانة الثغر المحتل من طرف الإسبان، ودخل الملك محمد السادس أحد أكبر معاقل التهريب الدولي للمخدرات، وأعطى إشارة انطلاق تحويل بحيرة مارتشيكا من ميناء لرسو الزوارق النفاثة التي تحمل الحشيش نحو أوربا إلى منتجع سياحي بمواصفات عالمية.
أسلوب القرب هذا تجسّد في صورة الملك الرحالة من خلال زياراته الميدانية وطوافه بين جميع جهات ومناطق المغرب وأكثرها تهميشا. أما أحد مظاهر الاختلاف، فكان يتمثل في كيفية تعاطيه مع السياسة الخارجية، وهو ما لخّصته عبارة «تازة قبل غزة» الشهيرة. لكن التقلّبات الدولية والإقليمية، وتزايد الضغوط المتعلقة بملف الصحراء، أعادت تدريجيا محمد السادس إلى الواجهة الدولية، حيث بات العمل الدبلوماسي في السنوات الأخيرة يتصدّر الأجندة الملكية.
سمبريرو: هكذا استقبلنا الملك
«في بداية شهر شتنبر 1989، كان الملك الحسن الثاني يستقبل في صبيحة ذلك اليوم بقصره بمدينة الصخيرات، مجموعة من الصحافيين الإسبان قبيل زيارته الرسمية الأولى إلى إسبانيا، والتي ستكون الأخيرة أيضا»، يقول الصحافي الإسباني المتخصص في شؤون المغرب، إغناسيو سمبريرو، في حديث ل«أخبار اليوم»، إن الملك الراحل كان يدخّن ويسعل، ويقف وحيدا أمامهم، ويجيب باستفاضة عن أسئلتهم باللغة الفرنسية، «علما أنه لم يطلب أن يطّلع على الأسئلة بشكل مسبق، بل كان يطرح بعض الأسئلة بنفسه ليجيب عنها عندما يلاحظ أن مستجوبيه لم يتطرقوا إلى بعض المواضيع. استمرّ الحوار لمدة طويلة، وانتهى بتناول كأس، دون كحول، بجانب المسبح وبحضور ابنيه، سيدي محمد ومولاي رشيد. في ذلك اليوم تعرّفت أول مرة على الملك المقبل للمغرب».
سمبريرو يعود ليتذكّر المشهد الثاني، والذي كان بداية يناير عام 2005، «الملك محمد السادس يستقبل، حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا، في إقامته الملكية بورزازات، صحافيين إسبانيين، وهما كل من مدير يومية إلباييس وأنا. كان الملك مقبلا على القيام بأول زيارة رسمية له إلى إسبانيا، والتي ظلّت إلى الآن الأخيرة. حضر في الموعد ودون بروتوكول، وبرفقته بعض مساعديه الأساسيين، من بينهم فؤاد عالي الهمة وفاضل بنيعيش، هذا الأخير هو السفير الحالي للمغرب في إسبانيا».
يتذكّر سمبريرو كيف قام الملك بتحيّة ضيوفه باللغة الإسبانية، «لكنه أوضح أنه لن يتحدّث إلا اللغة الفرنسية عندما سيشرع في الإجابة عن الأسئلة السياسية. دعانا إلى الجلوس في الخارج حول طاولة في رواق الإقامة، وهي عبارة عن بناية متواضعة. كان الملك قد طلب منا إرسال لائحة الأسئلة بشكل مسبق، وقام بتحضير الأجوبة. لم يكن ينوي أن يحدّثنا عن الصيد في المياه المغربية، بل عن مواضيع أهم مثل تفجيرات 11 مارس 2004 التي استهدفت محطة القطارات بمدريد، وغالبية مرتكبيها مغاربة». وعن انطباعاته التي خرج بها من هذا اللقاء النادر من نوعه، قال سمبريرو إن محمد السادس لم يكن يبدي ارتياحه للاستجواب، «فهو لم يعتد على ذلك، وكان يرغب في الانتهاء في أسرع وقت ممكن. بعد 55 دقيقة قام من مكانه معلنا أن اللقاء قد انتهى، ثم حرص على تمكيننا من الرفقة التي ستوصلنا إلى الفندق. كان هناك مسبح قريب منا، وسط الحديقة، لكن أحدا لم يقترح علينا تناول الشاي بالقرب منه».
يفاجئ ضيوفه
فمن السمات المميزة لشخصية الملك محمد السادس، والتي توقّف عندها كثيرا كتاب «ابن صديقنا الملك»، حرصه الشديد على تجنب اللقاءات الرسمية والندوات المرتجلة. «فهو لم يخاطب الشعب بتاتا بطريقة تلقائية، وطريقته الوحيدة في التواصل معه هي الخطب الرسمية».
أسلوب الملك محمد السادس في الحكم ظل، حسب الكتاب الجديد، ثابتا رغم الفوارق الاجتماعية، «فمحمد السادس مازال، في أعين شريحة من الشعب، ذلك الخليفة المصلح المحاط بالحاشية ليست على ما يرام، هنا يكمن أحد أكبر ألغاز هذا الملك الذي استطاع، في سياق دفاعه عن المؤسسة الملكية، إظهار قدرة كبيرة على التأقلم، دون أن يمس بالسلطة الشخصية التي يتمتع بها منذ 15 سنة». وجه آخر للملك محمد السادس تكشفه اللقاءات المصغّرة وتلك التي تتم بعيدا عن الأضواء، قال الكتاب إنه يفاجئ كل من يلتقون به. «في يونيو من العام 2000، جرى لقاء بين الملك محمد السادس ووزيرة الخارجية الأمريكية حينها، مادلين أولبرايت، وذلك في القصر الملكي بالرباط. وداخل القاعة التي كان اللقاء سيجري بداخلها، كان الوزيرة الأمريكية تتأمل صورة كبيرة للملك الراحل الحسن الثاني معلقة على الجدار، حين دخل الملك محمد السادس بملامح تجمع بين الانزعاج والابتسام، وقال لها: «أنا هنا الآن…». مسؤول دبلوماسي أمريكي آخر عمل بالرباط، قال لمؤلف الكتاب إن من الخطأ الاستهانة بمحمد السادس، ودليله أن الوزيرة الأمريكية خرجت من ذلك اللقاء وهي تحت وقع المفاجأة، «حيث كان الملك يتحدث لغة إنجليزية سليمة، ويبدي معرفة كبيرة بالملفات، وكان شديد الارتياح». مشهد يدل على درجة الارتياح الكبيرة التي يبديها الملك في اللقاءات المصغرة، وهو ما يؤكده وزير مغربي سابق، حين قال، طالبا عدم ذكر اسمه، إن «كل الذين كانت لهم فرصة التعامل معه يخرجون بهذه الفكرة».
أب في قصوره
وبفعل ما عرف به الملك محمد السادس خلال السنوات السابقة لتوليه الحكم، من نفور من طقوس القصور الملكية، وتبرمه الدائم من حضور المراسيم البروتوكولية الصارمة، حمل اعتلاء محمد السادس عرش المملكة صورة جديدة عن حاكم منفتح مجدد ميال إلى الأسلوب العصري، يعبر عن أذواقه الغنائية والموسيقية، ويمارس رياضاته المفضلة أمام العدسات، راكبا أمواج البحر صيفا، أو متزحلقا في سفوح الجبال شتاء. وتأكدت الاختيارات «الحديثة» لخليفة الحسن الثاني بهجره شبه التام للقصور البالية، واختياره الإقامة في إحدى فيلات واحد من أرقى أحياء العاصمة، مواليا خرجاته المفاجئة على متن سياراته الخاصة التي يتفنن في اختيار أشكالها وماركاتها، مع احترامه الشديد لقانون السير.
سلوك الملك الإنسان الذي بات المغاربة يعرفونه، خلافا لصورة الملك الحاكم في عهد الحسن الثاني، عزّزه، بالإضافة إلى خروج السيدة الأولى في البلاد إلى المجال العام، بالحرص على ظهور جانب الملك الأب. ففي إحدى المناسبات الأخيرة لعيد ميلاد ولي العهد مولاي الحسن، تسرّبت تفاصيل عودة الملك من عطلته بالخارج ورعايته رغبات ابنه البكر وحرصه على تلبيتها. «المدهش في هذه التجربة هو أنني لم أصب بالارتباك، رغم أن الملك كان على بعد متر واحد مني بينما كنت أقدم عروضي… بالنسبة إلي وأنا الولد الصغير القادم من ‘‘سان دونان”، كان ذلك أشبه بالحلم»، يقول جيرالد لوكيو. هذا الفرنسي الذي اشتهر بتميّزه الخارق في حركات الخفة مستعملا الحمام وملاعبا الكلاب المدربة على فنون السيرك، كان قد حل ضيفا على الأسرة الملكية في المغرب قبل سنتين، ليقدّم عروضه بمناسبة ذكرى عيد ميلاد مولاي الحسن. جيرالد ورغم شهرته ونجاحه الدولي الكبير، خرج حينها ليعبّر للصحافة الفرنسية عن كونه مازال لم يتجاوز بعد وقع الدعوة الملكية التي تلقاها لتقديم عروضه السحرية، حيث قالت جريدة «لو تيليغرام»، التي أجرت معه حوارا، إنه بالكاد بدأ في النزول من فوق السحاب حيث ظلّ يعيش منذ مثوله وتقديمه عروضه الفنية أمام الأسرة الملكية المغربية.
جيرالد لوكيو حكى قصة العرض الملكي التي بدأت ذات يوم، حين اتصلت السفارة المغربية بالسيرك الذي تعمل فيه مجموعته، ملتمسة انتقاء مجموعة من أفضل لاعبي الخفة وبهلوانات السيرك من أجل الانتقال إلى الرباط والمشاركة في احتفالات ولي العهد بعيد ميلاده. الساحر الفرنسي حكى قصة انتقاله إلى المغرب رفقة الحيوانات التي يستعين بها في عروضه، من كلاب مدربة وحمام خاص بألعاب الخفة، واستغرب الاستقبال الاستثنائي الذي حظي به منذ وصوله إلى مطار الرباط-سلا، وكيف أنه مرّ عبر إجراءات المراقبة الأمنية والجمركية بسهولة بالغة، قال إنها غير معتادة بسبب الحيوانات التي ترافقه عادة في أسفاره. «لكن، وحين وصولنا إلى الإقامة الملكية، كان علينا أن نترك آلات التصوير وجوازات السفر عند فرق المراقبة، فالنظام الأمني كان مذهلا». وداخل المكان الذي قدّم فيه عروضه، قال الفنان الفرنسي إن الحاضرين بدوا وقد خضعوا لعملية انتقاء دقيقة، حيث وجد الأمير رفقة أصدقائه المقربين، وقد وفّرت لهم أنواع مختلفة من اللعب، مثل رقعة الشطرنج العملاقة، والأحصنة الآلية العملاقة…
حفاظ على الهيبة
كثيرون توقعوا في السنوات الأولى بعد رحيل الحسن الثاني أن يقدم خليفته على خطوات عملاقة، من قبيل تخفيف البروتوكول الملكي والتخلي عن بعض الطقوس البالية، خاصة تقبيل اليد. لكن إقدام بعض هؤلاء على خرق تلك الطقوس، كما كان الحال مع أعضاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، كشف مدى تمسك حرّاس الطقوس بالموروث التقليدي، حيث اعتبر يومها عدم التقاط صورة جماعية مع هؤلاء الأعضاء ردا على عدم التزام بعضهم بطقوس البلاط. إشارات دوام تقاليد موروثة عن عهود غابرة، تؤدي أحيانا إلى اختفاء صورة الحكم الحديث والحاكم العصري، مثلما يقع كلما حل موعد افتتاح السنة التشريعية تحت قبة البرلمان، ليرتدي النواب والمستشارون والوزراء الجلباب والسلهام والطربوش المخزني الأحمر، ويأتوا لحضور الجلسة الافتتاحية التي يرأسها الملك، أمير المؤمنين، أو في حفلات البيعة السنوية بمناسبة عيد العرش، حيث آلاف الرعايا وممثلو الرعايا، من وزراء وعسكريين ومنتخبين برلمانيين ومحليين، يرتدون الجلابيب البيضاءويقفون صفوفا في صعيد واحد، في انتظار وصول موكب الملك الممتطي جواده كي يسارعوا إلى الركوع، في تأكيد لاستمرار الحاجة إلى الخضوع والإذعان للسلطة والتوحد معها.
هاجس إعطاء هيبة للملك وجعله مبجلا لدى العامة والخاصة بقي الشغل الشاغل لمسؤولي البروتوكول المخزني، ف«الهيبة هي الخوف والإعجاب، هذا الإحساس المختلط الذي يخالج الناس تجاه الملك، ينضاف إلى صفة الإجلال التي يضفيها الملك على نفسه، بنعته نفسه «جلالة الملك» قبل ذكر اسمه.وتنتج هذه الهيبة عن إحساس كامن في النفوس باستطاعة الحاكم استعمال العنف أمام العموم، وتعمل الطقوس والبروتوكول المحيط بشخص الملك على تثبيت هذه الهيبة»، يقول السوسيولوجي محمد الناجي في كتابه «العبد والمملوك».
باحث آخر، هو نور الدين الزاهي، يعتبر طقس تقبيل اليد نموذجا واضحا للخضوع، «فهذا الوضع المستلهم من وضعية الجمل الذي ينحي لسيده كي يستطيع امتطاءه، أصبح أمرا معتادا أمام الملوك… يوم الحساب الأكبر، وحدهم المؤمنون المخلصون سيستطيعون الركوع أمام الله، فيما سيجد الآخرون أجسامهم وقد تصلبت كي لا يستطيعوا الركوع… الركوع إذن امتياز يعبر عن القرب». طقوس حافظ عليها بروتوكول قصر محمد السادس قبل وبعد الربيع العربي، رغم أن موروث وتقاليد الحكم وممارسة السلطة لم تعد، منذ وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، خارج لائحة المواضيع التي يطالها النقاش والجدال والأخذ والرد. وكثيرا ما عرف عهد الملك محمد السادس انتشار شائعات منعه استمرار تقبيل اليد، وكثيرون قرؤوا في نهجه «الحداثي» وتسامحه مع من يكتفون بتقبيل كتفه أو السلام عليه، إيذانا بقرب تخلّص القصر الملكي المغربي من طقوس عتيقة.
تجديد الصورة والتحالفات
لمسة التجديد طالت في المقابل أسلوب تواصل الملك وظهوره، خاصة بعد الربيع العربي. نهج جديد في صياغة الخطب الملكية تمثّل أساسا في تخصيص كلّ خطاب لموضوع واحد، أو موضوع مركزي ومواضيع ثانوية، يستعرض فيه الملك تشخيصه ويقدّم ملاحظاته و«أوامره» لتجاوز الاختلالات. أسلوب امتدّ ليشمل الواجهة الخارجية، حيث فاجأ الملك محمد السادس المتتبعين الداخليين والدوليين لملف الصحراء بالطابع القوي والجريء لخطابه بمناسبة الذكرى ال38 للمسيرة الخضراء، حيث شكّل الخطاب أول خرجة من نوعها لرئيس الدولة المغربية، يوجّه فيها اتهامات صريحة ومباشرة إلى الجارة الجزائر بتوظيف أموال الشعب الجزائري في شراء مراكز قرار دولية، ومغالطة الرأي العام والقوى الكبرى بخصوص حقيقة الوضع الحقوقي في الصحراء. الهجوم الملكي المباشر على المناورات الجزائرية، وتوظيفها الورقة الحقوقية لإضعاف الموقف المغربي في ملف الصحراء، بلغ ذروته بتطرقه المباشر إلى الوضعية الحقوقية في تندوف وباقي المناطق الجزائرية، حيث قال إن المغرب يرفض أن يتلقى الدروس في هذا المجال، «خاصة من طرف من ينتهكون حقوق الإنسان بطريقة ممنهجة. ومن يريد المزايدة على المغرب، فعليه أن يهبط إلى تندوف، ويتابع ما تشهده عدد من المناطق المجاورة من خروقات لأبسط حقوق الإنسان». خطاب هجومي أكدته الرسالة التي وجهها الملك محمد السادس إلى القمة الإفريقية الفرنسية المنعقدة في باريس متم العام الماضي، والتي تلاها رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران. رسائل مشفرة وأخرى مباشرة إلى النظام الجزائريوجنرالاته لا تخلو من قوة وحزم مماثلين لما ورد في الخطاب الملكي بمناسبة المسيرة الخضراء.
تحوّل رافقته عودة النهج القوي في الدبلوماسية، وجسّدته المعارك الأخيرة التي خاضها المغرب لحماية موقفه في ملف الصحراء، والتي أبانت عن الدور الحاسم للدبلوماسية الملكية، والانخراط الشخصي للمخوّل دستوريا بتدبير العلاقات الخارجية للمملكة وحماية مصالحها السيادية. شبكة العلاقات الرسمية والشخصية للقصر الملكي مع مختلف الأوساط المؤثرة في القرار الدولي، تحرّكت منذ تأكد مبادرة واشنطن إلى اقتراح آلية جديدة لمراقبة حقوق الإنسان في الصحراء قبل سنتين. فرغم الانكماش الذي سجّله المتتبعون للنشاط الدبلوماسي للمملكة في السنوات الأولى لحكم محمد السادس، إلا أن هذا الأخير أبان عن سعي إلى الحفاظ على الأوراق الاستراتيجية في دبلوماسية المملكة، وهي بالدرجة الأولى علاقة تحالف مع فرنسا، وودّ مع أمريكا، وتضامن سياسي واقتصادي مع الخليج العربي. محاور كشفت الأزمات الأخيرة حول ملفّ الصحراء عن حيوية الدور الملكي في تفعيلها لحظة الحاجة إليها.
تثبيت للتحالفات الخارجية و«تصحيح» لبعضها كما جرى مع مصر وفرنسا ونيجيريا، تسارعت وتيرته مع شرارة الربيع العربي. فأياما قليلة بعد خروج أولى مظاهرات حركة 20 فبراير، يسجّل كتاب «ابن صديقنا الملك» كيف سارع الملك محمد السادس بالانتقال إلى العاصمة الفرنسية باريس، والاجتماع بالرئيس الفرنسي حينها نيكولا ساركوزي. وداخل قصر الاليزيه، حثّه هذا الأخير على الإسراع بإعلان «تغييرات» سياسية، مؤكدا له الدعم السياسي الفرنسي. مصدر دبلوماسي فرنسي أوضح لصاحب الكتاب أن ساركوزي أكد لملك المغرب حرص فرنسا على استقرار الملكية، وأن الأزمة الإقليمية تفرض على الأقل إعلان بعض «الإصلاحات».

يونس مسكين
اليوم 24 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق