فصل المقال فيما بين ثورة الملك والشعب من اتصال. بقلم د. الحسين أكروم

فصل المقال فيما بين ثورة الملك والشعب من اتصال

تحل ذكرى وطنية غالية على قلوب المغاربة ككل سنة في 20 غشت، ولعل من نافلة القول التذكير بأنها بدأت سنة 1953، وتصادف هذه السنة 2021 الذكرى الثامنة والستين، إنها ذكرى ثورة الملك والشعب، أغلى الذكريات الوطنية، وأعز المناسبات الخالدة، وأعلاها مجدا، وأشدها في نفوس المغاربة أثرا.
وقدر الله في سابق أزله أن يجدد المغاربة في مثل هذا اليوم تلكم البيعة التي في أعناقهم للملك المجاهد محمد الخامس رحمه الله، وأصبحت بعد ذلك سُنة حسنة، سلفا عن خلف وجيلا عن جيل لا يضرهم من خالفهم في ذلك من الأقوام الأخرى حتى يأتي أمر الله.
وما زالت أحداثها العصيبة ووقائعها المروعة عالقة بأذهان المقاومين والفدائيين الذين عاشوا تلك الفترة العصيبة، والتي لقن فيها الشعب المغربي بكل مكوناته للاستعمار الغاشم دروسا قاسية في البسالة والتلاحم والتضامن.
سبب هذه الذكرى المجيدة وسياقاتها التاريخية:
انتفض الشعب المغربي في وجه الاستعمار منذ دخوله لبلادنا وتمخض عن ذاك ظهور مقاومة سرية وطنية انبثقت منها خلايا للدفاع عن حوزة الوطن، سواء من جهة النضال السياسي أو الحراك الشعبي، فتأسست جبهات سرية موحدة طيلة الثلاثينات من القرن الماضي للذب عن الوطن عُرفت لاحقا برجال الحركة الوطنية، وأسرة المقاومة، وأعضاء جيش التحرير.
وقد ضاقت هذه المقاومة النبيلة ذرعا بالمستعمر، فأظهروا له في معارك عدة بسالتها ودفاعها عن وطنها كمعركة الهري، وأنوال، وبوغافر، وغيرها فأصبحت المقاومة الوطنية درعا واقيا للوطن ضد تسربات الاستعمار، وحَدَّتْ من أطماعه التوسعية.
وبعد محاصرة الاستعمار جغرافيا؛ وحنقه داخليا؛ ابتكر أساليب ماكرة للتفريق بين المغاربة، وأصدر ما يسمى بالظهير البربري يوم 16 ماي 1930 لكن ذاك المخطط وُلد ميتا، لأن مناعة المغاربة في التلاحم قوية، وفي رص الصفوف وإجماعهم على ملكهم صلبة، وفي توحيد الكلمة وجمع الشمل ظاهرة، لما امتحنوا في شق كتلتهم فبينوا للعالم مدى تشبثهم بثوابتهم الوطنية وتمسكهم بهويتهم الاجتماعية، وتعلقهم بأهداب العرش العلوي المجيد.
وتوالت انتصارات المقاومة الوطنية على طول وجود الاستعمار بأراضينا الحبيبة، غير أن ما قض مضجع الاستعمار وآلمه كثيرا؛ هو طلب صقور الحركة الوطنية تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال بالتنسيق مع بطل التحرير المغفور له محمد الخامس برد الله ضريحه إلى سلطات الحماية يوم 11 يناير 1944م، فانزعج المستعمر من ذلك فنكَّل بكثير من رجال المقاومة، وسجن بعضهم، وعذب آخرين، فنهج سياسية وحشية لقمع النضال السياسي، وإخماد فتيل المقاومة الشرسة، وما زال أرشيف المقاومة الوطنية يحتفظ بكثير من تلك الذكريات الأليمة.
وهكذا تتوالى الأحداث والضربات على المستعمر على اليمين وعن الشمال حتى ضاقت به أرض المغرب رحبا لتنوع عمليات الكفاح الوطني ونجاعتها، فدونك زيارة الملك الراحل محمد الخامس طنجة يوم 9 أبريل 1947م، فالتقى مع شعبه، والتف به، وشجع المقاومين سرا وجهرا، ولم يخضع للضغوط الاستعمارية على مناهضة الحركات الفدائية ومنع التنظيمات السرية، فبدأت قوة الاستعمار تتراجع شيئا فشيئا، فعمدوا إلى حيلة ماكرة، وهي التي كانت سببا في ظهور ذكرى ثورة الملك والشعب فحاصرت القوات الاستعمارية القصر الملكي يوم 20 غشت 1953م فقرروا إجبار المغفور له محمد الخامس أكرم الله مثواه عن التنازل عن العرش.
فرفض رحمه الله ألا يخون الأمانة التي ألقاها شعبه الوفي على عاتقه، ومن هنا بدأت ثورة الملك، لما فاوضه الاستعمار فرفض جميع شروطه جملة وتفصيلا، وظن أنه سيُرهبه بالقوات المحيطة بالقصر، لكن إيمان القائد الكبير بالله، وثقته بشعبه كانتا أقوى من ذلك بمراحل، وتلت هذه التقلبات السياسية مواقف جريئة قام بها الاستعمار كانت سببا في انقلاب حقيقي بَيْن من أراد لبلاده الإعمار، وبين الاستعمار التي أراد لها الدمار.
نفي الملك محمد الخامس إلى جزيرة (كورسيكا) و (مدغشقر):

بُعيد قيام المستعمر بجريمته السياسية البشعة وهي إبعاد الملك عن شعبه، والشعب عن ملكه ونفيه مع نجله ورفيقه في الكفاح المغفور له الحسن الثاني رحمة الله عليهما، ومعهما الأسرة الملكية الشريفة يوم 20 غشت 1953م إلى جزيرة كورسيكا، ومنها إلى مدغشقر؛ انتفض الشعب المغربي بكل أطيافه وتوجهاته على المستعمر، وظهرت صفحات مضيئة أخرى من صفحات كفاح الشعب المغربي، فانضافت ثورة الملك أولا على المستعمر، لثورة الشعب ثانيا عليه.
وقد أحس المجتمع المغربي بمس سيادته ورمز وطنه، فتضاعفت تلقائيا مئات الخلايا في كل مدن المغرب وقراها دون تنسيق مسبق، لمقاومة الاستعمار والضغط عليه لرجوع الملك المفدى البطل محمد الخامس جدد الله عليه الرحمات، فتضاعفت وتيرة العمليات الفدائية، ونشطت التنظيمات السرية، فتلقى الاستعمار في هذه الفترة بالذات ضربات قاسية، فزاد جهاد الشهيد محمد الزرقطوني ورفقاءه لها الطينة بلة والداء علة، والذي سيبقى كفاحهم، وبسالة نضالهم، مسجلا بخطوط عريضة في غرة التاريخ الحديث للمغرب إلى الأبد.
وقد حاول المستعمر بكل الطرق إطفاء لهيب الاحتجاجات، لكن وتيرة الهجمات تتصاعد يوما بعد يوم، حتى تعذر على المستعمر ردعها، فكثرت الانتفاضات، وغصت الشوارع بالمظاهرات والتنديد بإبعاد ملِكهم عليهم، ونفيه خارج بلدهم، فأعقب ذلك انتفاضات ضاقت بها شوارع الحواضر الكبرى والساحات العمومية للمدن والمداشر، فأرضخ المستعمر في الأخير لثورة الشعب فاضطر لإرجاع الملك إلى عرشه.
مكاسب ذكرى ثورة الملك والشعب:
وليس سرا أنه قد تبين لاحقا للمستعمر أن إبعاد الملك ونفيه كان خطئا استراتيجيا ارتكبه، لأنه لم يتوقع مآل الأحداث، واللحمة التي كانت بين الملك وشعبه، ولو لم يكن من بينها إلا تعجيل خروجه بصفة نهائية من المغرب بعد ذلك بمدة يسيرة لكفاه ندامة وحسرة، ويصدق فيهم المثل العربي: مصائب قوم عند قوم فوائد.
فجاءت هذه الذكرى الغالية بين فترة الحماية وعهد الاستقلال، فعَجَّلت برجوع الملك المفدى محمد الخامس، حاملا معه لواء الحرية والاستقلال، فأعادت هذه الذكرى الغالية للمغاربة مجدهم، وقوّت من عزيمتهم، وزادت لِلُحمتهم قوة على قوة، فضلا عن توطيد أواصر التفافهم نحو ملكهم، وكلها أسباب ذوبت الركائز التي كان المستعمر يعتمد عليها، فأصبحت يومئذ كأن لم تغن بالأمس، فمالت كفة الحق والغلبة ميلة واحدة نحو عزيمة الشعب المغربي، أما المستعمر فما له بعد ذلك من قوة ولا ناصر، فحصل المغرب والحمد لله بعد ذلك على استقلاله بِـمُديْدة.
رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر:
إن هذه المقولة الذهبية التي أطلقها المغفور له محمد الخامس في خضم هذه الذكرى الغالية بعد رجوعه من المنفى ما زال مفعولها يسري في وطننا المغرب منذ إطلاقها إلى اليوم. ويخطئ من يظن أنها خاصة بذلك الوقت، والدليل على ذلك -وبعد أن حصل المغرب على الاستقلال- أعاد وارث سره المغفور له الحسن الثاني بناء المغرب من جديد؛ فأكمل ما بقي من ذاك الجهاد الأكبر.
وأهم ما وجه إليه عنايته معركة استكمال الوحدة الترابية، فاسترجع مدينة سيدي إفني سنة 1969م، كما تم استرجاع أقاليمنا الجنوبية، وخطط لمعجزة القرن المسيرة الخضراء السلمية سنة 1975 تليها بعد سنوات يسيرة استرجاع إقليم وادي الذهب سنة 1979.
أبعاد ذكرى ثورة الملك والشعب في الخطابات الرسمية:
إن الناظر في أبعاد هذه الذكرى الغالية والتأمل في مغازيها الوطنية والكونية؛ سيجد فلسفة تلك الأبعاد في فقرة نفيسة من خطاب الحسن الثاني للذكرى العشرين لثورة الملك والشعب تَربط السابق باللاحق، والماضي بالحاضر في تمازج بديع ونسق عجيب.
وقد وصف المغفور له الحسن الثاني ذلك وصفا بليغا يدل على عبقريته وحنكته، فقال رحمه الله: “ذلك اليوم المشهود الذي قدر الله فيه أن يجدد البيعة لوالدنا رحمة الله عليه سيدنا محمد الخامس طيب الله ثراه.. وأن يجدد كذلك لتاريخ المغرب الحديث ما عرفه تاريخه الماضي من تشبث الملك بشعبه، وتشبث الشعب بملكه، والتحام كل منهما بالآخر كلما أراد من أراد أن يمس بسيادتنا، أو أن  يهين كرامتنا، وأن يستعمر أوطاننا.
كان ذلك اليوم يوم انطلاقة جديدة لمغرب جديد، وكان ذلك اليوم الشرارة التي أشعلت فتيل الحرب ضد الاستعمار في القارة الإفريقية والدول المستضعفة.. فعلينا إذن أن نحتفل بهذه الذكرى ليس كعيد فقط، ولا كيوم فرحة فقط، ولا كيوم من أمجادنا وأيامنا فقط، بل علينا أن يكون هذا اليوم يوم حساب وتحليل لما قطعناه، وبالطبع تقييم لما يزال ينتظرنا، واضعين العلامات إثر العلامات حتى لا نكون سابقين للمواعيد، ولا متأخرين عنها، ضابطين أمورنا، متْقنين أعمالنا مخططين بعد الله سبحانه وتعالى مستقبلنا..”.
إحياء ذكرى ثورة الملك والشعب بروح جديدة:
لا جرم أن الملك محمد السادس أعزه الله، أحيا روح هذه الذكرى وجددها فقام بثورة هادئة شملت جميع المجالات فأنشأ الموانئ الكبرى، وإحداث الطرق السيار من شمال المغرب إلى جنوبه، وأرسأ بنيان شركات صناعة السيارات، ومحركات الطائرات، وسعى إلى تطوير مشروع المغرب الأخضر.
وقد بات من الصعب أن تلتحق الدول المجاورة وغيرها من الدول الإفريقية بركب الحضارة والتطور في المغرب لتنوع اقتصاده، وكثرة استثماراته، بفضل القيادة الرشيدة والحكيمة لمولانا الملك محمد السادس أدام الله نصره، فنوع من قدراته وزاد فقام بثورة هادئة وفق خطط جديدة لتحقيق التنمية المستدامة لشعبة، مع ترسيخ آليات حقوق الإنسان، وسن تشريعات تتناسب مع المرحلة الآنية، فأظهر مفهوما جديدا للسلطة أثمر نتائج حسنة كان من أهمها ترسيخ قيم الحداثة، وانفتاح المغرب على محيطه الخارجي، والاستفادة من تجارب الدول المتقدمة، لأنه لا يمكن أن تنهض أمة إلا بمثل ما تنهض به الأمم المتطورة.
لكن وباء كورونا أثر على الاقتصاد العالمي، لذا بادر الملك محمد السادس في مناسبة الذكرى السابعة والستين لثورة الملك والشعب في السنة الماضية 2020 إلى الإعلان عن ضخ 120 مليار درهم في الاقتصاد الوطني لإحيائه وتنميته، وتعميم التغطية الصحية للمغاربة، مشددا على ضرورة تنزيل هذه المشاريع في أقرب الآجال، وهو ما ظهر لاحقا تفعيله.
وما هي إلا فترة يسيرة من هذه التعليمات؛ حتى زاحم المغرب في وقت قياسي الدول الكبرى في صناعة هذا التلقيح. وأشار في خطابه حفظه الله وأطال في عمره إلى الجانب التوعوي والتحسيسي لوباء كورونا، وما زال أثر ذلك الوباء متفشيا في كل الدول العالمية، لكن بلدنا المغرب والحمد لله في مقدمة الدول الإفريقية والنامية التي حصن شعبه ضد هذا الوباء بشهادات صناع القرار الصحي الدولي.
خاتمة:
تلكم إذن كانت هي مناسبة ثورة الملك والشعب ولا شك أنها ذكرى وطنية عزيزة، امتزج فيها النضال والكفاح مع تشبث المغاربة بملكهم، والدفاع عن حوزة وطنهم، فانضافت إليها ثورة أخرى هادئة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكانت بذلك مناسبة عظيمة يحق للمغاربة أن يتباهوا بها خصوصا عند مقارنة تعلق غيرهم بملوكهم ورؤسائهم، وموازنة مدى دفاعهم عن أوطانهم.
إن مثل الشعب المغربي مع ملكه في هذه الذكرى الغالية وغيرها؛ كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فقد أحس المغاربة يوم قام الاستعمار بنفي ملكهم بالسهر والألم مِن بُعد ملكهم عنهم، فقاموا بانتفاضات واحتجاجات حتى رجع ملكهم، المفدى محمد الخامس طيب الله ثراه، وخلد في الصالحات ذكره. والحاصل أن مناسبة ثورة الملك والشعب هي ذكرى لمن كان له قلب، وله غيرة على وطنه، وحُرقة على بلده.

الحسين أكروم مرشد ديني بوزارة الأوقاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق