تافراو ت التي تحكم المغرب.. السر الذي يبحث عنه الجميع!!

طارق عبلا

الساعة تشير للخامسة مساءا ، التعب نال منا الشيء الكثير بعد قطع حوالي ستمائة كيلومتر انطلاقا من الدار البيضاء، و أخيرا تلوح في قارعة الطريق يافطة كتب عليها بالبند العريض “تافروات ترحب بكم” …

الطريق إلى تافراوت ممتع جدا ، أشجار مترامية خضراء ، سماء صافية زرقاء ، كنوز ثمينة تراكمت بين ثنايا الأطلس الصغير ، لهاته الكنوز حارس يحرسها منذ القدم ، إنه الجبل ، يقف حانيا لتلك الديار و يروي بمياه جوفه عطش الأشجار، شامخ ذو قمم ، ساهر لا ينام ، مرحبا في كبرياء بالقادمين لزيارة تافراوت كنز الجنوب.

بالجنوب المغربي و على بعد 130 كيلومتر من مدينة أكادير تقع تافراوت بسلاسلها الجبلية الكرانيتية و منعرجاتها الضيقة و واحاتها الخضراء، أطلال و أبراج منتصبة كبقايا قصبات و قصور معلقة بين أرض جبلية و سماء صافية ليست سوى بقايا معالم اثرية تذكرنا بشعوب غابرة و حضارات قديمة تدل على أن المنطقة ضاربة في عمق التاريخ.

طوت الأزمنة سجل الحضارات و استعصت على المهتمين البحث عن حقائق الأقوام غير أن الألسن تلوك تمازج الثقافة الأمازيغية مع الجالية اليهودية في أواصر تسامح و تعايش ميزت و ما تزال كل التافراوتيين و التافراوتيات الأحرار.

تافراوات .. جوهرة الجنوب حيث العراقة و الطبيعة الخلابة

وسط سلسلة جبال الأطلس الصغير جنوب بلاد المغرب، نحط رحالنا بتافراوت، هاته المدينة الجبلية الغنية المآثر، بمعالم تاريخية قديمة تمثلها القصبات والدور العتيقة، ويزيد من غناها عادات أهلها وهندسة مبانيها المعمارية الأمازيغية، ومن بهائها نقوش الأسلاف المطبوعة على الصخر ونظام الري القديم الذي لا تزال القنوات الطينية شاهدة عليه، سفر شيق في منتهى الروعة، يأخذنا بعيدا إلى قلب الأطلس الصغير، حيث الموعد مع التاريخ، مع تافراوت العتيقة بواحتها أيت منصور وأحياء اليهود بتاهالا و بكل شيء يمتع العين و يبهر العقول.

ببحث بسيط في وسائط شبكة الأنترنيت ، يتم تقديم تافراوت التي تكتب بالأمازيغية ⵜⴰⴼⵔⴰⵡⵜ على أنها مدينة سياحية صغيرة على الطراز المعماري التقليدي، تقع على بعد حوالي 130 كلم جنوب أكادير عبر أيت باها، وحوالي 100 كلم شرق تزنيت و تعتبر عاصمة جبال الأطلس الصغير.

هذه البلدة الصغيرة، التي يبلغ عدد سكانها أقل من 10000 نسمة حسب إحصاء 2014 لديها موقع جغرافي جميل ورائع في قلب سلسلة جبال الأطلس الصغير مما جعلها في موقع مثالي بالمقارنة مع قرى أخرى في المنطقة

ميزة البقاء في تافراوت بالنسبة للزوار هي تنظيم جولات كل يوم أو رحلات إلى القرى المجاورة الغنية بالمعالم التاريخية كالقصبة والبيوت التقليدية والنقوش الصخرية القديمة والهندسة المعمارية الأمازيغية ونظم الري القديمة و المطابع القديمة و معاصر زيت الزيتون و غيرها، كما يسمح أيضا باكتشاف مختلف التقاليد لسكان هذه المنطقة الجميلة من الأطلس الصغير.

الطريق إلى تافراوت من تيزينت ومرورا بعدة جماعات ترابية، يستأثر باهتمام و إعجاب كل الزوار، والسؤال المشروع الذي يتبادر إلى الأذهان، من أول كلمتر إلى غاية الوصول إلى مدينة تافراوت، مدينة مهرجان اللوزو تيفاوين و السياحة الجبلية و المناظر الخلابة وأصحاب المال والأعمال و مدينة الوزراء، هو ما السر الذي جعل تافراوات توصف بجنة الأرض و منجم الذهب و أرض الكنوز؟

تافراوت .. منجم الذهب و أرض الكنوز المبهمة

العديد من المراجع التي تتحدث عن تافراوات تشير لكون المنطقة توصف بمنجم الذهب و أرض الكنوز ، غير أن جلها لا يفصل في الأمر و لا يتيح للباحث عن المعلومة معطيات دقيقة تسمح له باستيعاب هذا الوصف الذي يجعل المنطقة واحدة من القلائل بالمملكة التي تستأثر باهتمام الباحثين و بإعجاب الزائرين.

في حديثنا مع عدد من شيوخ المنطقة، أجمعوا على أن تافراوات قبل كل شيء هي أرض للجميع ، تفتح أبوابها على مشراعيها بصدر رحب لكل العالم ، قاطنيها تسكن بداخلهم أواصر التعايش و التسامح و الجود و الكرم عكس كل الإشاعات المنتشرة و التي مع الأسف تسيء لأهل سوس في هذا الباب و هو ما ضحدته زيارتنا المتكررة لمناطقة سوس الشاسعة بساكنتها الكريمة و المضيافة، هنا حيث يمكن لأي كان أن يستقبلك في بيته و يكرم مثواك حتى و إن لم يكن يعرفك ، فإكرام الضيف من شيم أهل سوس.

و يضيف أبناء المنطقة خاصة من كبار السن الذين غرفوا العلم و المعرفة و تشبعوا بالخبرة و تجارب الحياة أنه قديما كان يحكى أن تافراوت منجم الذهب و أرض الكنوز ، لدرجة أن عددا من الأجداد التافراوتيين كانوا يوصون ابناءهم بعبارة أمازيغية شهيرة مفادها “لا تفرطوا في تافراوت ، ففيها كنز لا يقدر بثمن”.

و يسهب ذات المتحدثين في هذا الأمر أن سكان المنطقة يستوعبون جيدا وصايا الأجداد و توصلوا لحقيقتها لذلك فهم مرتبطون ارتباطا وثيقا بمنطقتهم حيث تجد عددا منهم يهاجر لدول و مدن أخرى و مع ذلك تبقى صفة “تافراوتي” وسام شرف و فخر و استحقاق على صدر تعريفه.

و يدرك التفراوتيون جيدا أن “الكنز” الحقيقي الذي قصده أجدادهم في وصاياهم للخلف ليس هو ذاك الذي يعتقده الجميع ، بل هي تلك الروابط التي تجمع بينهم و القيم و الأخلاق و الاستقامة و النزاهة و التي تجعل الشخص يصل لمكانة و حظوة مهمة ترفعه درجات وسط الأقران.

و إلى جانب ذلك ، اشتهرت منطقة سوس و تافراوت بالخصوص بالمدارس العتيقة لتعليم أصول الفقه و الدين ، كما أن عددا من كبار المشايخ و الفقهاء هم من ابناء المنطقة ، فضلا على أن عددا من الباحثين على الكنوز “المدفونة” يلجؤون لخدمات عدد من فقهاء المنطقة بحكم تمكنهم الكبير و قدرتهم الرهيبة في عالم مليء بالأسرار و الأخطار.

تافراوات .. المدينة التي تحكم المغرب بيد من حديد

على الرغم من تواجدها على الهامش والأطراف، أنجبت تافراوت، القابعة في عمق منطقة سوس جنوب المغرب، العديد من الشخصيات التي لمع نجمها وسطع إشعاعها في مجالات السياسة والسلطة، كما في ميادين المال والأعمال، لتكتسب المنطقة بذلك خاصية تميزها عن باقي مناطق البلاد.

و من أبرز الشخصيات التي قدمت من تافراوت والنواحي، لتحتل مكانا بارزا في هذا الوطن الشاسع، خاصة في الحكومات المتعاقبة بعد استقلال البلاد، هناك المختار السوسي، وصالح المزيلي، وعبد الرحمان بوفتاس، وعبد الله أزماني، وحسن أبو أيوب، ومحمد حصاد، وأيضا عزيز أخنوش و غيرهم كثر.

سياسيا ، تعاقب عدد من الوزراء في حكومات ما بعد الاستقلال على مناصب وزارية مهمة و تقلدوا حقائب وازنة و ثقيلة و هم من أبناء تافراوت و نواحيها ، و منهم محمد المختار السوسي الذي شغل منصب وزير الأوقاف في أول حكومة بالمغرب بعد استقلال البلاد سنة 1955، بتعيين من السلطان الراحل محمد الخامس، و كذلك صالح المزيلي الذي تبوأ منصب وزير الأشغال العمومية والمواصلات سنة 1972، ووزير الفلاحة والإصلاح الزراعي في 1974، بالإضافة إلى رجل الأعمال الشهير وزير السكنى مرتين في 1985 و 1992، عبد الرحمان بوفتاس.

و من السياسيين التافراوتيين البارزين في تاريخ المغرب نذكر حسن أبو أيوب الذي شغل منصب وزير التجارة الخارجية في بداية التسعينيات من القرن الماضي، ثم وزير للفلاحة بعد ذلك، كما عمل حاليا سفيرا للمملكة في إيطاليا، وأيضا العربي عجول في حكومة التناوب، كما أن عبد الله أزماني الذي عمل وزيرا للتجارة والصناعة في 1985 ومحمد بيجعاد في حكومة 1997 هم ايضا من اصول تافراوتية.

كما أن الحكومة الحالية تضم عددا من الأسماء الوزارية الوازنة من اصول تافراوتية يتقدمهم رئيس الحكومة بنفسه سعد الدين العثماني والذي يتحدر من منطقة اسكاور بتافراوت، إلى جانب عزيز أخنوش وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، والذي يتحدر بدوره من منطقة أكرض أوضاض التابعة لباشوية تافروات، بالإضافة إلى محمد حصاد وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، والذي يتحدر من منطقة أملن القريبة من تافروات، ثم عثمان الفردوس كاتب الدولة لدى وزير الصناعة والاستثمار والتجارة والاقتصاد الرقمي المكلف بالاستثمار.

تافراوت .. المدينة التي أنجبت نخبة أغنياء الوطن

و رغم أن تافراوت صغيرة من حيث مساحتها غير أنها كانت و ستظل كبيرة بعطائها و سخائها بعدما أنجبت لهذا الوطن ثلة من الشخصيات التي هاجرت خارج حدودها لتشتغل في مجالات متعددة أبرزها التجارة لتصير بعد سنوات من الكد و الجد من أغنياء الوطن الذين بدونهم قد تتوقف عجلة الاقتصاد و تضيع معدلات التنمية و تختل موازين القوى.

في المغرب، خصوصا عاصمته الاقتصادية، يوجد كثير من الأثرياء القادمين من سوس، أوائلهم غادروا مداشرهم واشتغلوا في قطاع التوزيع و خاصة البقالة، و بعد أن راكموا أرباحا، جلبوا أبناءهم وأقاربهم، ووسعوا نشاطهم التجاري، تشبثوا بقيم الاستقامة “أغراس أغراس”، وعرفوا ببراغماتية نادرة كيف يضبطون الإيقاع مع شروط كل مرحلة سياسية، فصاروا اليوم صناعا لأشهر العلامات التجارية، قصص نجاح كثيرة هي تلك المعروفة لأبناء تافروات الذين اكتسحت منتوجاتهم من اللحوم المحولة والقهوة والشاي رفوف مطابخ الأسر المغربية.

في كتابه الصادر قبل سنتين تقريبا بعنوان “العصاميون السوسيون في البيضاء”، أرجع عمر أمرير الأستاذ الجامعي الباحث في التراث الأمازيغي حسب مجموعة من المراجع الإعلامية، أول ظهور للسوسيين في البيضاء، إلى سنة 1784 ميلادية، وأورد نقلا عن كتاب “من أخبار أنفا والشاوية عبر العصور”، لصاحبه المعروفي هاشم عبير الزهور، أن تلك السنة شهدت “انتقال أولى العائلات السوسية إلى البيضاء، نهائيا، وبنسائها وأفراد عائلاتها، وبالمألوف من عاداتهم الاجتماعية والعلمية ومهاراتهم اليدوية”.

المصدر وصل إلى أسماء عشرة من تلك العائلات أغلبها من تافروات و سوس على العموم ، وحددها في “اجضاهيم” و”الكنداوي” و”براد” و”الصنهاجي” و”بوالضربات” و”بوالزرع” و”الكابوس” و”أناكوف” و”أبلاط” و”الغزواني”، أكد أيضا، أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله، هو الذي كانت له اليد في استقدام تلك العائلات، و جاء اختيار السلطان للسوسيين من أجل إعادة تأسيس البيضاء، وراءه انبهاره بمنطق الاستقامة: “أغراس أغراس”، الذي يعرفون به إلى اليوم

و من بين أثرياء تافروات و رجالات الاقتصاد الوطني الأقوياء نذكر عائلة أخنوش صاحب مجموعة أكوا رفقة شركائه من عائلة واكريم ، و كذا ورثة الحاج الراجي صاحب علامة سلطان الذائعة الصيت و عائلة بيمزاغ و غيرهم كثر ممن يديرون مشاريع ضخمة داخل و خارج ربوع الوطن

تافروات .. السر الذي يبحث عنه الجميع

كنز التفراوتيين الحقيقيين و رأس مالهم هو كرامتهم و عزة نفسهم و أخلاقهم و مبادئهم و الاستقامة أو “أغراس أغراس” التي عرفوا بها، هذا هو السر الذي جعل عددا منهم يحققون الذات بعيدا عن لغة الأضواء و يصلون لمراكز القرار بعيدا عن لغة الألقاب العائلية الرنانة التي اشتهرت بها بعض الأسر خاصة من الاصول الفاسية.

تافراوت ، ليست مجرد مدينة تنهل بالحضارة و العراقة فقط، بل هي ثلة زخم ولادة لا تنضب ، أعطت و ما تزال لهذا الوطن في مجالات عدة ، يقصدها السياح من داخل و خارج الوطن بحثا عن الهواء العليل و النقي و الهدوء الذي يميز المنطقة ، تاروات حيث أحواش و البساطة و التواضع و الخير المتبادل و كل شيء.

هي ببساطة تافراوات ، هناك حيت مهرجان “تيفاوين” الذي تنظمه جمعية “فيستيفال تيفاوين” كل سنة و الذي يساهم في إشعاع المنطقة و التعريف بها و بخصائصها في قالب يحاكي كبريات المهرجانات الوطنية و الذي يضرب موعدا مع زوار المدينة و ساكنتها ببرنامج حافل و غني في دورته التي ستنطلق بعد أيام قليلة ، فهلموا جميعا لسبر أغوار تافراوت و الاستمتاع بما توفره من مميزات تجعلها و بحق جنة فوق الأرض…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق