قرية العناكب. بقلم : ذ. سليمان لبيب

11

كانت ليلة هادئة من ليالي الصيف الحارة،اجتمع أهل القرية كعادتهم تحت ضوء القمر الساطع محاطين بأواني الشاي وقنينات الماء البارد ليبددوا بها عطشهم كلما اشتدت حرارة الكلمات وتجمرت دروب النقاش بين دهاليز المواضيع التي لا تنقطع ،لأن معدل خصوبة العنف والعنف المضاد جد مرتفعة في هذه البلدة التي تلقب عند أهلها بقرية العناكب كناية على بيوتهم التي تشبه نسيج العنكبوت في تصاميمها المتشابكة ، ومعروف على أهلها أيضا استخدام كل حيل الضيافة المزيفة للإيقاع بفرائسهم التي تأتيهم من الغابة المجاورة، وخاصة في ليالي الصيف المقمرة حيث تتدحرج بعض الأرانب الغبية لتطمئن على الأهالي وتتمتع بزغاريد العرائس اللواتي لا يسمح لهن بمغادرة البيوت ليلا وفق النظام العام الذي أسسه الأب الروحي للقرية السيخ سعدون، لتقع الأرانب المسكينة كما لو أنها تعيش قدرها الأزلي في الفخ الذي نصب لها ،فتصبح لقمة سائغة للعناكيب التي لا ترحم زائريها مهما كانت درجة وقارهم ومقامهم.

ويحكى أنهم حينما يشتد بهم القحط في السنوات العجاف ولمقاومة الموت المحقق ، يأكل بعضهم بعضا ، وإن لم يجدوا لذلك سبيلا يقتاتون من أجسامهم متلذذين بوخز السكاكين التي تنخر عظامهم بلا هوادة، وكأننا في طقوس حضرة عيساوة حيث يمتزج الدم بالفكاهة من أجل إظهار صفات الشجاعة وقهر الطبيعة مما يحدث عندهم انفعالات نفسية غريبة وكأنها تتعامل مع أرواح العالم غير المرئي وسط صراخ وعويل ولطم على الوجوه، وبذلك تتحايل الخرافة على الحقيقة لصناعة فرجة الأوهام الممزوجة بلغة الألغاز والطلاسم تحت وقع الطبول والغياطة والسكاكين التي لاتجف من دماء المستضعفات من العرائس اللواتي لا يكفن عن الرقص والزغاريد كلما اقتربن من ساعة الموت ، لأن ذلك في اعتقادهن الموروث مجرد هدية من السماء تتنافس عليها عرائس القرية ليلة الدخلة من أجل الخلاص وتطهير الروح الأبدية من كل شوائب الحياة والخطايا السبع المميتة .

 هكذا كانت الجدة -الباتول النفزاوية- تحكي لأحفادها كلما أشرقت الشمس وعند غروب القمر، إلا أنها يوما استفزها أحد الأحفاد بسؤال حول المغزى من تقديم ثلاث فتيات من القرية كل سنة لأسود الغابة كقرابين وأضاحي بشرية، فكانت مرتبكة في بداية الأمر، إلا أنها سرعان ما استرجعت أنفاسها وتوازنها، لتجيب حفيدها قائلة : إن هذه العادة متوارثة وهي جزء من ثقافتنا كما نحن مجبرون على تنفيذها لكونها تقينا شر الغابة وتمنع الكون من الدمار، حتى تعيش قرية العناكيب في سلام وهناء لابد أن يضحي بعضنا من أجل اسعاد البعض الآخر يا حفيدي العزيز، ولكن الحفيد -رحمون- لم يقتنع برواية الجدة هذه المرة فشرع في دعوة شباب القرية إلى وقفة احتجاجية ضد هذه الظاهرة التي تخل بقوانين الحياة والعبث بأرواح الآخرين ، إلا أنه لم يستجب لدعوته إلا فئة قليلة من المترددين الذين سيطر عليهم الخوف والخجل أثناء ترديد الشعارات الإستنكارية ضد الإعتداءات المتواصلة التي تتعرض لها نساء القرية، مما أفضى في النهاية إلى تفككهم قبل نهاية الوقفة دون تحقيق الهدف منها، وعند عودتهم إلى بيوتهم همس أحدهم في الآخر بعدم المشاركة في حماقات -رحمون المجنون- مستقبلا لكونه لا يقدر عواقب الأمور، فحينما تغضب الآلهة على مثل هذه السلوكات التمردية أكيد بأنها ستلحق دمارا شاملا في المنطقة.

وبعد هذا الموقف المحرج للشاب -رحمون- وما انتابه من احساس بالخذلان من طرف من كان يعتبرهم قواعده الخلفية للإستقواء بهم عند الحاجة، قررأن يغادر القرية التي لايطيق العيش فيها ليواجه قدره منفردا للبحث عن الحقيقة في استغوار كهوف الغابة واستنطاق سكانها عن تمزيق قلوب العذراوات وهي لا تزال تنبض بالدم وكأنها في معابد الأزتك، إلاأن مغامرة الحفيد في استجلاء معاني وحقيقة الأسطورة التي تعلق بها أهل البلدة وسط الغابة المتوحشة سرعان ما انتهت به للأسف الشديد إلى نهاية تراجيدية ،حيث دفع حياته ثمنا للتمرد على أسرار الحياة التي نجهل الكثير من ألغازها مهما بلغنا من الشجاعة وتوغلنا في دنيا العلوم.

إلا أن الأمل باق لمن أراد أن يدفع ضريبة الصعود والبحث عن المفقود في غياهب المجهول.

                 ذ:  سليمان لبيب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق