الإبريز في نعي المرحوم البوشواري عبد العزيز. بقلم : د الحسين اكروم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الإبريز في نعي المرحوم البوشواري عبد العزيز

02_22_31

بقلم الفقير إلى رحمة ربه الراجي عفوه ومغفرته الدكتور الحسين أكروم:عضو مختبر الاجتهاد المعاصر أسس وقضايا كلية الشريعة- أكادير-والنائب الأول لرئيس المركز المغربي للبحث العلمي والأكاديمي

فمما لا شك فيه أن سيدي الحاج عبد العزيز بن محمد هو زينة الأسرة البوشوارية ووسط عِقْدِها تربى في كنف أبيه فغرف منه على قدر إناه وسرعان ما ظهرت نجابته وبدأت مشارق الزهد والصلاح تظهر عليه، ولعل ذلك عرق قديم نزع إليه من أصوله، انخرط –كعادة الأسرة البوشوارية- مبكراً في تعليم القرآن حتى ختمه عند والده وبعد ذلك انتقل إلى مدرسة الرجيلة أو الجايرة كما يحلو للبعض تسميتها عند عميد المدرسة الفقيه المقرئ سيدي الحسن فختم عنده القرآن مرات، ثُم تدَرَّج في المتون المتداولة شيئا فشيئاً عند مساعد الفقيه سيدي الحاج محمد التناني بدءاً بالآجرومية والجمل و ومروراً بالزواوي ولامية الأفعال وانتهاء بألفية ابن مالك، درسها عليه دراسة بحث وتحقيق، وختم كل الفنون المذكورة مرتين .

ثم توجه صوب والده الشيخ الصالح الفقيه المتفنن سيدي الحاج محمد فدَرَسَ عنده الرسالة ومختصر خليل والمقامات والتلخيص والرسموكية والمقنع وشرح قصيدتي البردة والهمزية والاستعارات لابن كيران حتى مهر في تلك الفنون وبرع فيها على حداثة سنه وبعضها ختمها مرات كل ذلك بشروحه المتداولة في المدارس العتيقة، حتى بدأت الأصابع تشير إلى علمه وفقهه وأخلاقه، ووصل إلى درجة كبار المدرسين بسوس، بل لو أتيحت له الفرصة ليدرِّسَها جميعا لدرَّسَها دون تكلف.

ولئن كان الفقيد المحبوب سيدي عبد العزيز -الذي خطفه القدر في ريعان شبابه يوم الأحد 29 شعبان 1437 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم – ضرب في علم بسهم فإنه لا يبغي للعمل الخيري والتطوعي بديلا، ذلك أنه ميال إلى التعاون مع الفقراء مجبول على مساعدة المساكين، وكم من فقير توسط لديه في إجراء العمليات الطبية استعصت عليه، أو أغراض دنيوية مختلفة في الإدارات العامة تعذرت عليه، وهو يبتغي من كل وراء ذلك وجه الله، -فكانت هجرته إلى ما هاجر إليه- وهم خلائق لا يحصون كثرة منهم من كانوا في عائلته أو أقربائه، أو أهل بلدته أو غرباء عنه، فيصبر رحمه الله على كل ذلك رغم صعوبة تحقيقه، ولا يكاد يقضي بعض تلكم الأغراض أحيانا إلا بعد فرث ودم، ولو لم تكن له إلا هذه الخصلة لكفته فخرا، فكيف لو أضاف لها خصال أخرى نسأل الله أن يجازيه عنها .

فهذه ميزة وما أدراك ما الميزة انفرد بها سيدي عبد العزيز بن محمد البوشواري بين سائر أقرانه ولطالما تظهر بين الفينة والأخرى مساعدات الناس لآخرين لكن بداية مساعدات سيدي عبد العزيز للمحتاجين في العمل الخيري أشبه ما تكون بنهاية غيره، وإلا فما ظنكم لو عمَّرَ مثلا مائة سنة أو تزيد كيف ستكون نتيجة عمله الخيري التطوعي حقا كمثل سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.

ومما يدمي القلب أن المرحوم وجده بعض زملائنا جالسا يوم الأربعاء بمدرسة أيت اعزا قبل وفاته بثلاثة أيام ولم يشتد به المرض بعد فخاطبه المرحوم بعبارات مؤلمة وألفاظ مؤثرة طغى عليها الأدب والاحترام وكأنها تدل على شيء ما سيقع فمال بعد ذلك إلى العزلة كاتما سره، صابرا على غيظه، وآثر على نفسه ولو كانت به خصاصة، وما هي إلا أيام قلائل حتى فارق الحياة ولقي ربه، علما بأن علة مرضِه رحمه الله تعذر معها العلاج، سيما وأن كل الفحوصات الطيبة التي قام بها ثبتت خلوه من أية أمراض مما يدل على قرب رحيله فإذا جاءا أجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون .

ولعل ذلك اليوم الأخير من شعبان الذي قضى فيه نحبه -رحمه الله- ينطوي على أكثر من مغزى لأنه اليوم الذي ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين كما في حديث أسامة ابن زيد فكل أفعال العبد التي فعلها في السَّنَة صغيرة وكبيرة تُرفع في آخر شعبان فطوى القدر عددا من حسنات حبيبنا سيدي العزيز مبكراً ومن ثَم ختم الله أعماله يوم تختم حقيقة لا مجازاً، وفي ذلك إشارة إلى سر عجيب أصيل، ولغز مكنون دفين لا يمكن للعبارات أن تكشف كنهه، ولا للكلمات أن تحيط بمقاصده.

ومن لطائف الإشارات التي تدل على صلاح الفقيد غير ما ذُكر أن الناس شهدوا له بالأخلاق الحميدة والآداب الفاضلة التي قلما تجتمع حتى في الكبار فضلا عن الصغار، ويكفيك أن كل من وصله خبر موته تغيرت ملامحه وارتعدت فرائسه خافضا رأسه وهو يتحسر ألما من شدة فراقه، ومن الغريب أن يكون حتى من لا يعرفه تجري عليه الأوصاف السالفة ونحسبه بمجموع تلك الأوصاف أنه من أهل الجنة إن شاء الله بما يتوافق مع عموم قوله صلى الله عليه وسلم: أنتم شهداء الله في الأرض .

ووجه الاستدلال بالحديث أن ظاهره يفهم منه أن تواتر شهادات الناس على صلاح الشخص واتفاقهم طرا على حسن سيرته يدل على موافقتهم لخرائر أقلام الملائكة باعتبارهم شهود السماء، وكُلاًّ وعد الله الحسنى فوقع حافر السماء على حافر الأرض، فانطبقت إشارات الخالق مع شواهد المخلوق، وكم من أناس ماتوا ففرح الناس لموتهم، وكم من أشخاص ماتوا فاختلف الناس فيهم، وكم من ميت يتأسف الناسُ على موته لسوء أفعاله، وخبث طويته، فهؤلاء يُخشى عليهم، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً، لكن فقيدنا سيدي عبد العزيز لا أظن أن أحدا يتوقف في صلاحه فضلا عن أن يشكك فيه، ولم يبق إلا انطباق شهادة الجميع على نبل الرجل وعظيم منزلته وارتفاع مكانته، الأمر الذي جعلنا نقول بأدنى حرج  بأنه: لا يوجد لسيدي عبد العزيز نظير في شباب الوقت مواساة للمحتاجين ومساعدة للمستضعفين فكيف أن يوجد أحسن منه، هذا كله مع شدة التواضع والاتصاف بالصلاح .

ومن الإتفاقات العجيبة والمصادفات الحسنة التي صادفت موت سيدي عبد العزيز هي كما قال والده الشيخ سيدي محمد هي مصادفته لختم القرآن في كل مساجد المملكة على طريقة الحزب الراتب وهذه منقبة أخرى وميزة ثقيلة تنضاف إلى المزايا السابقة، وفي هذا الوقت بالذات أخبرني بعض أقرباء المرحوم مصادفة أن والده قال لهم الآن في مجمع مهيب وهو في معرض دعائه له بأننا رضينا عليه وبدأ يغدق عليه أنواع الدعوات حتى قال باللغة الشلحية [أُرْجُّو دْنْتَّا أدَحْ إِغْيِّرْنْ أَتْسْرْبْحْ رْبِّ] الله أكبر، فهذه الكلمة وحدها لا شك أنها ستؤتي أكلها ضعفين .

فقدناك أيها الحبيب إلى الأبد وما زال الجرح لم يندمل بعد، والدموع سيالة والقلب حزن والنفس ضيقة ولو كان الحداد العلمي يُفعل بسوس لنكست المدارس العلمية السوسية أعلامها أياماً وأياماً، نعم يستحق الفقيد ذلك وأكثر، وإلا فهو رحمه الله يقوم بمهام متنوعة والتزامات مختلفة فهو اليد اليمنى لوالده، ومُدَبِّر أحواله، والمشرف على شؤون الطلبة، فبالإضافة إلى كل ذلك فهو من جهة أخرى قدوة المدرسين، ومحب الفقراء ومحسن الضعفاء ومساعد المرضى والمنسق العام للعلاقات العلمية الخارجية للمدرسة إنه باختصار القلب النابض للأسرة البوشوارية والرئة التي تتنفس فيها، آه، ثم آه، كان رحمه الله يتميز بكل هذه الأوصاف وزيادة لكنها في حياته ربما لم تظهر أهميتها أكثر، وكأن الإمام البوصيري: عناه بقوله: ومن شدة الظهور الخفاء، غير أنها بانت في الحال لكل ذي عينين وستتضح تأثيراتها في المآل دون مَيْن.

هذا وبمجرد أن أطرق سمعي نبأ وفاته سارعت على التو إلى المدرسة تلمساً للدعاء عند والده الشيخ البركة الفقيه الصالح سيدي الحاج محمد بن عابد البوشواري عميد مدرسة أيت اعزا -قياماً بواجب العزاء، ووفاء من جهة للعلاقات بيني وبين أخيه سيدي الحاج مصطفى- وصادفنا هناك بعض أعضاء المجلس العلمي بتارودانت وبعض الأعيان بتزنيت فضلاً عن قبائل اشتوكة ومناطق أخرى يضيق ذكرها هنا عرضاً بله استعراضاً، وكل هذا وقع بعد وفاته بساعات قليلة مما يدل على سمعته الطيبة في أقطار سوس فهنيئاً له، بيد أن ما جعل القلب يتقطع إربا إرباً لما شرع والده في الدعاء له بأسلوب في غاية الاقتضاب ينطوي على كثير من الإشارات والأسرار الروحانية بينهما وهذا كله في ألفاظ قليلة ذات المعاني الكثيرة مازجاً بين الرضا بالقدر خيره وشره، وبين هول فراق فلذة كبده.

وامتثالا لقوله تعالى ولا تنسوا الفضل بينكم أدعوا جميع محبيه وأصدقائه وعائلته إلى الدعاء له بالمغفرة والثواب وحتى إن حصل بعض ما قد يمكن أن يحصل بين المرحوم وبين من لهم به علاقة فليستغفر له، وليسامح له، وليتجاوز عنه، وليتنبه إلى مقاصد الآية التي سبقت الآية الأولى وهي قوله تعالى: وأن تعفوا أقرب للتقوى .

بقلم: الفقير إلى الله الراجي عفو ربه الحسين أكروم: مرشد ديني ببلدية بيوكرى .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شكر الله للفاضل البحاثة الدكتور الحسين أكروم على هذه النافذة المشرقة التي فتحها على جوانب من شخصية ـ المشمول بعفو الله ورحمته إن شاء الله ـ الشاب التقي النقي سليل العلم والفضل عبد العزيز البوشواري.
    وإني عرفته عن كثب، فعرفت فيه شابا متزنا، ملتزما، نبيلا، حييا، موطأ الكنف، طيب المعشر، بارا بوالديه .. قد كان ـ رحمه الله ـ خلوقا.
    أجدد الشكر للدكتور الفاضل، سائلا الله أن يتقبل منه، وأن يجعل الفردوس الأعلى مثوى فقيدنا العزيز عبد العزيز. آمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق