عقل.. وعقل. بقلم : أيوب بوغضن

بوغضن

يعمد كثير من الخائضين في الشأن العام إلى الإشارة إلى كون ما نحتاج إليه اليوم هو مواطن يتمتع بعقل. من يلتقط أحاديث الناس سينتبه –أيضا- إلى كونهم يثلبون حياتنا ويُرجعون أصل أدوائنا إلى غياب الغائب الأكبر:العقل. إذن، ثمة شبه إجماع على أن المطلب الأول الذي ينبغي العمل على تحقيقه في جدول أعمال الانتقال التاريخي المنشود هو إشاعة العقل وبناء مواطن يفكر بروية وعقل. لكن يبقى السؤال الأكبر، هو: أيُ عقل نريد؟

طورت المدرسة الغربية النقدية  الشهيرة “فرانكفورت” تمييزا دقيقا بين عقلين: العقل الأداتي الموجود، في مقابل العقل النقدي المفقود. ومن منطلق إيمانها بوظيفتها النقدية لم تتردد المدرسة على لسان العديد من روادها في إدانة المناخات التربوية المُهيمنة والمنظومات التعليمية السائدة لكونها تتقصد إنسانا-آلة يدور مع التفاصيل أينما دارت ويغرق في أوحال الجزئيات مهما تناقضت وتشعبت، وليس بمقدوره أخذ مسافة مع الخطاب السائد والدعايات الرسمية.

هكذا، فالعقل الذي يريد كل صاحب سلطة –مهما تظاهر بإيمانه بالعقل ودعوته إلى التعقل- سواء كان في الغرب أو الشرق هو هذا العقل الأداتي. إنه العقل المهادن الذي لا يُزعج الأصوات الرسمية ولا أصحاب المراكز المهيمنة. إنه العقل الذي لا يقض مضجع هواة الاستئثار بالسلطات (السياسية والمعرفية). إنه العقل الذي يقوم بتعميق وعي زائف لدى صاحبه؛ يتوهم معه أن بملاحقته للمعلومات المتناثرة وبمتابعته لأسئلة المسائل الرياضية التجريدية وبانتباهه مع نُظم تشغيل الأجهزة والآلات المستحدثة؛ أن بالتحامه بهكذا أوراش وبارتباطه بهكذا أعمال قد اكتسب عقلا صار له بمثابة السراج المنير والمنقذ من الضلال. 

وعليه، فقد نهضت مدرسة فرانكفورت ونهض معها كل مثقف (وكل مؤسسة ثقافية) يحمل رسالة الإنسان بالدور المطلوب وهو إعادة الاعتبار للوظيفة النقدية للعقل. ورغم ذلك فقد بقي صدى هذه الدعوات  خافتا ومحصورا في أوساط النزر اليسير من المتنورين.  ولهذا، فالعقل المفهوم من خطابات الناس وبعض الخائضين في الشأن العام هو هذا العقل المُسيج وهذا العقل المحدود؛ أي العقل الأداتي. 

في كتابه (العقل والحرية، المنشور سنة 2009 ضمن منشورات الجمل) يقودنا الدكتور عبد الكريم سروش إلى تمييز هام بين مفهومين للعقل، يمكن الاستهداء بهذا التمييزأيضا لمقاربة سؤال: أي عقل نريد؟

ينتصر سروش للرأي الذي يرى العقل موجودا متحركا وأداة لفهم الحدث وتشخيص الواقع ولا يرى مشكلة في أن يصيبه الزلل والخلل في طريق طلب الحقيقة لكون مسيرته زاخرة بالتخبط بين الصواب والخطأ. هذا التصور للعقل يقف على النقيض من منظور يرى العقل بمثابة مخزن للحقائق ويتلخص في جمع الحقائق وحفظها. (ص:30)

يضيف سروش مبينا الفروق الكائنة بين العقلين: عندما يرى الإنسان بأن شرف العقل هو كونه مخزنا للحقائق، فحينئذ لا يهمه من أين حصل العقل على هذه الحقائق وكيف دخلت إلى ذهنه، فالمهم بالنسبة له أن تسكن هذه الحقائق في ذهنه ويكون عقله واجدا لها. فلا فرق لديه أن تدخل هذه الحقائق إلى ساحة الذهن بأدوات الجبر والفرض من قبل الآخرين، أو أن الإنسان يتحرك على مستوى تحصيلها بأدوات التأمل الحر. المهم أن تكون هذه الأفكار حقة وأن يحتوي عقله على هذه الأفكار الحقة من أي طريق حصل عليها.

ولكن إذا كان تصورك للعقل بأنه موجود متحرك وغربال وطالب للحقيقة، فالمهم بالنسبة لك ليس الحقيقة ذاتها بل كيفية الوصول إلى هذه الحقيقة واقتطافها.(ص:31)

هكذا، يبدو العقل على نحوين –حسب تحليل سروش-: الأول، يعتبر العقل بمثابة المقصد. والثاني يراه طريقا.

طبعا، لا ينبغي إغفال المناخ الثقافي الذي يتكلم من خلاله سروش ويوجه إليه خطابه النقدي. إن السلطة الدينية الرسمية في إيران؛ إذ تتغيى إشاعة الحقائق التي تؤمن بقدسيتها وإطلاقيتها، تتوسل إلى ذلك سبيل الإلجاء والإكراه وحشو المقررات بشكل مثير بالإيديولوجيا التي تعتنقها. فما يهم الدوائر الرسمية هناك، هو تخريج إنسان عامر بالحقائق الرسمية  ولو كان متنكبا لمقتضياتها وغير مؤمن بها داخليا.

إن ما يُراد للناشئة اليوم في أوساط متعددة هو أن تتمتع بهذا العقل المحشو ببعض الحقائق (= استظهار نصوص قانونية، برنام تشغيل الآلات، حل المسائل الرياضية، التعامل مع التكنولوجيا الجاهزة: الحاسوب، الهواتف الذكية،  قيادة السيارة..) وبعض القناعات الدينية. يتم إيهام الجميع بأن غاية المُنى وسدرة المنتهى هو تحصيل هذه الحقائق والتقاط هذه القناعات. يتم هنا تغييب سافر لمفهوم الإنسان أصالة؛ الإنسان المشاغب الذي قال “لا” منذ أول يوم، الإنسان المسؤول الذي يفكر بلا عُقد  بل يقف من أي مسألة الموقف الذي يعن له بعد تقليب النظر.

يتم بيع الوهم الأكبر للناس مفاده أن التفكير شأن القلة ووظيفة “المختصين” وأن الاكتفاء بالحقائق والقناعات التي تم تلقيها في الجو العام (المدرسة، الإعلام..) هو ما يجب أن يكون. ويتصور خريج هذا الجو العام أن هناك طائفة تفكر مكانه (بدعوى اختصاصها) في مسائل مصيرية وحيوية؛ كان بإمكانه إذا أخذ العزم على نفسه أن يُطور بتأملاته وقراءاته موقفا خاصا فيها، لكن أنى له ذلك وقد خُيل له أن الخوض في هذه المسائل الحيوية والمصيرية من شأن طائفة خاصة “مختصة”. وعوض أن يتم الترويج لرأي متوازن يقول بأن الاستنارة بمقولات وأبحاث الخائضين في هذه المسائل الحيوية والمصيرية أمر هام ولكن بلورة موقف خاص (بناء عليه تكون المحاسبة في الآخرة ويكون التعاطي مع إشكالات الدنيا) واجب على كل إنسان مزود بعقل يتأمل ويقارن ويُغربل؛ عوض هذا يتم إيهام الناس بأن لهم فنا (ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب) عليهم الاكتفاء به  ونبذ المسائل الأخرى (فكرية، سياسية، دينية..).

إن دعوى ضرورة ابتعاد الناس عن بلورة آراء خاصة بهم في مسائل حيوية (الفكر والسياسة) ومصيرية (التدين) لا يمكن فهم ما وراءها إلا باستحضار ما يجري اليوم من نزوع نحو التقننة وتوطيد دعائم التكوين المهني وتشجيع الإقبال على التخصصات التقنية بكل ألوانها (فحفظ النصوص القانونية دون إدراك لخلفيتها الفلسفية ولا مساءلة لأفقها القيمي، هو عمل تقني أيضا).

إن جحافل “المواطنين” الذين مالوا –بدوافع ذاتية أو إيمانا صادقا بأهميتها أو استجابة للدعاية الرسمية- نحو هذه التخصصات التقنية المتنامية والواسعة. أكيد أنها إذا أنصتت لصوت يخترق الجو العام ويدعو إلى ترحيل التفكير والاكتفاء بالجاهز والسائد ستفقد حتما العقل باعتباره أداة للنقد ومعيارا للاصطفاء.

إن الحكاية في نهاية المطاف تقود إلى أن هناك “عقل.. وعقل” وشتان بينهما. الأول تنتفي معه وظيفة النقد التي هي ميزة العقل الأصيلة إذ يكتفي باللهاث وراء الحقائق والتفاصيل والمعلومات دون بوصلة ولا خيط ناظم ولا أُفق إنساني نقدي. أما الثاني فهو العقل حقا وهو المنشود صدقا من طرف كل المؤمنين بإنسان حر كريم مستخلف من رب العالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق