توفيق بوعشرين :هاهو بنكيران «ولا فراسو»

تراجعت حكومة عبد الإله بنكيران عن قرار توقيع وزارة الفلاحة اتفاقية مع شركة «سهام» المملوكة لوزير التجارة والصناعة، مولاي حفيظ العلمي، بعد الضجة الكبيرة التي انفجرت حول هذا التوقيع بين أخنوش وشركة العلمي، باعتبار أن وراءها شبهة تضارب مصالح… حاولت الحكومة ألا تظهر في صورة هذا التراجع حتى لا تكشف ظهرها العاري، وفوضت إلى الشركة مهمة إخراج هذا القرار الذي صدر في بلاغ لها صباح الأحد (يوم عطلة)، جاء فيه: «إن قرار تعليق العمل بالاتفاقية التي كانت تستهدف المساهمة في توسيع رقعة المساحات المشمولة بالتأمين، جاء بسبب “البوليميك” غير المؤسس على معطيات دقيقة، وهو قرار نابع من رغبتها في المساهمة بشكل فعال في عملية تحرير قطاع تأمين المحاصيل من مخاطر الجفاف».
هذا، فيما تحرك برلمانيون من المعارضة والأغلبية، واستدعوا كلا من وزير المالية والفلاحة والتجارة والصناعة للمثول أمام لجنة المراقبة المالية لمساءلتهم حول هذه الصفقة، وظروف توقيعها، واحتمال وجود تضارب مصالح بين الحكومة ووزير يملك شركة تأمين حصلت على عقد بمليار درهم لتأمين الفلاحة المغربية، التي ستدفع الدولة 90٪‏ منه للفلاحين المؤمن على أراضيهم. لم نسمع أي وزير في هذه الحكومة خرج للدفاع عن قانونية هذه الصفقة، وانسجامها مع الدستور والقانون التنظيمي لعمل الحكومة، وقانون الشراكة بين القطاعين الخاص والعام، الذي صدر السنة الماضية، والذي يوضح طرق إعلان الصفقات وضوابطها وشروط المنافسة… بسبب هذا الغياب المريب في التواصل وفي الدفاع عن قرار حساس جدا، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، وصب الناس جام غضبهم على بنكيران، وبدؤوا يقارنون بين شجاعته في وجه الأساتذة المتدربين، وقلة حيلته أمام الحيتان الكبيرة.
ومع ذلك، فإن قرار الحكومة وشركة سهام التخلي عن هذه الصفقة، التي تكبر مثل كرة ثلج تتدحرج من قمة الجبل، كان «قرارا صائبا»، وهذا كان منتظرا بعد تصريح رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، بعد أن سئل عن هذا التوقيع الذي أشعل فتيل الغضب في نفوس الناس، بالقول: «مافرسيش»، في محاولة منه لإبعاد النار عن ملابسه، لكن إلى متى سيبقى رئيس الحكومة يردد عبارات: «ما فرسيش» و«لم أكن على علم»، و«ما عرفتش»، وماذا بعد عبارة «ما فرسيش» بعد أن صار «في رأسك»؟ نحن في سنة صعبة جدا، والأعصاب متوترة بفعل الجفاف وأزمة الأساتذة المتدربين، الذين نزلوا بالآلاف إلى العاصمة يوم أمس، وبفعل اتساع رقعة البطالة، وبسبب حساسية الرأي العام إزاء كل اختلال أو فساد يظهر في علاقة السلطة بالمال، فأزمة ريع البرلمانيين لم تنته، والجدل حول تقاعد الوزراء لم يخمد. انظروا إلى العواصف من حولنا في الداخل والخارج.
مرة أخرى، لعبت مواقع التواصل الاجتماعي الدور الأهم في الحملة الإعلامية ضد الصفقة التي تم إلغاؤها صباح الأحد، ثم تبعتها المواقع الإلكترونية المستقلة عن سلطة المال والإعلانات، التي تناولت الموضوع بمهنية متفاوتة، وأعطت كل الأطراف إمكانية الدفاع عن وجهات نظرهم، فيما بقي جل الصحف الورقية وكل الإذاعات الخاصة والإعلام الرسمي ينقل روايات الحكومة ووزارة الفلاحة والشركة المعنية دون تدقيق ولا تحرٍّ، ولا حتى اتخاذ مسافة معقولة بين رواية «ماكاين مشكل» ورواية «كاين المشكل»، فيما اختارت وسائل إعلام أخرى السكوت عن الموضوع وكأنه غير موجود تماما.
هذه النازلة الجديدة تقودنا إلى ثلاث خلاصات سريعة:
أولا: مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة الإلكترونية صارت هي صاحبة التأثير الأقوى في الرأي العام، والأكثر قدرة على تحريك الشارع للتعبير عن غضبه، كما عن رضاه، ورغم كل التحفظات التي يمكن أن يسوقها صحافي مهني حول احترام أخلاقيات المهنة في هذه المواقع، وحول شعبوية قطاع من رواد «الفايسبوك»، لكن، في المجمل، السلطة ومراكز القرار وأصحاب المصالح ووسائل الإعلام التقليدية المتحكم فيها فقدت السيطرة على وعي الناس وتفكيرهم وردود فعلهم، ونوع المعلومات والصور التي يستهلكها الجمهور.
ثانيا: جل وزراء حكومة بنكيران تقنوقراط، ويتصرفون في قطاعات حساسة دون أن ينتبهوا إلى رد فعل الجمهور، ومشاعر الناس، وانطباعات الرأي العام، وتوجهات الشعب. كيف يعقل أن توقع وزارتا الفلاحة والمالية صفقة مثل هذه دون أن تحسا بالخطر، ودون حذر، ودون احتياطات، ودون مراعاة للتوقيت، دعك من الابتعاد عن الشبهات الذي من المفروض أن يكون من أخلاقيات المسؤول، حتى وإن كانت الأمور قانونية وسليمة.
ثالثا: تعليق العمل بصفقة «سهام» مع وزارة الفلاحة اعتراف بالخطأ، والخطأ يستوجب المساءلة ،والمساءلة تستوجب تحمل المسؤولية. هذا هو منطق دولة الحق والقانون، وهذا هو مقتضى ربط المسؤولية بالمحاسبة، أما أن تختبئ حكومة بكاملها خلف شركة خاصة، وتتركها تتنازل عن الصفقة وكأنها طريقة صوفية زاهدة في الدنيا ومتاعها الزائل، فهذا ليس تدبيرا سياسيا للأزمة.. هذا هروب من مواجهة الرأي العام، وسيطرح مشاكل أخرى أكبر بمناسبة انفجار في ملفات أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق