رحلة إلى بلاد الحرمين (11) بقلم الأستاذ حسن تلموت

حسن تلموت

” وترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان” رواه مسلم
الجزء الثالث:
ولابد هنا من التنبيه –صادقا غير محاب لأحد- على استنتاج خلصت إليه مفاده أن هذه السلوكات العنفية ليست خيارا ممنهجا لدى السلطات السعودية، بل إن مبررها أمر آخر يحتاج إلى تأمل!
والذي دفعني إلى هذا الاستنتاج أمران:
أولهما: *ما يبدوا مما رصدته “المملكة العربية السعودية” من إمكانات “مادية وبشرية” لتيسير حج الوفود.
فعلى المستوى المادي: مثلا تجد التكييف في كل مكان، حتى في الشوارع!! حيث أقيمت فيها صروح عالية تنتهي بقنوات فيها تجاويف متعددة تَبين أنها مِضَخَّات لنفث الرذاذ على وجوه الحجاج لتلطيف الجو..وقد أقامت السلطات الوصية مراوح عملاقة في الشوارع تجمع بين تدوير الهواء ونفث رذاذ الماء في وجوه الحجاج….
كما رصدت أموال هائلة –لاشك- لتأمين تغذية مجانية للحجاج توَفِّي حاجاتهم، فقد كنا نرى عقب الصلوات الخمس في المدينة المنورة حول المسجد النبوي صفوفا يصل طول بعضها إلى كلومترات متعددة، يصطف فيها الحجاج بشكل متواز ليتلقى كل واحد منهم وجبة “غذاء” أو “عشاء” أو “لمجة” مجانية…
كما كانت الجهات الرسمية في منى توزع على الحجاج مظلات واقية من حر الشمس، وقنينات ماء مبرد، كما أن الحجاج وهم في طريقهم لرمي الجمرات أو في الطريق إلى عرفات أو في طريق العودة منها…أو في الطريق الرابط بين منى ومكة المكرمة يجدون بين المسافة والأخرى مبردات للماء يسقون ويشربون…
كما سعت السلطات إلى تيسير ظروف الحج بتوسيع الأماكن التي تحتوي أحواض رمي الجمرات، وكذا بتوزيعها إلى طوابق يفضي كل طريق مبتدئ من مخيم معين من مخيمات حجاج جهة من جهات بلاد المسلمين إليه…
كما أقامت –مثلا- أنفاق مظللة يسير فيها الحجاج دون أن يخافوا من ضربات الشمس من منى إلى مكة ليتموا شعائرهم….
كما وفرت “التطبيب” بسرعة وبالمجان للحجاج، وقد استفدت من هذا التطبيب أنا وعدد ممن حج معي ممن أعرف، إذ أنني عد أن لم أنتبه نمت في مواجهة المكيف الأمر الذي أدى إلى إصابتي بنوبة برد حادة مع فقدان الصوت نتيجة التهابات في الأحبال الصوتية –كما بينت في حلقة سابقة- وبعد أن حاولت تجاهل الأمر في سعي مني لأفسح لجهاز مناعتي فرصة التدرب على عدم الاتكاء على الأدوية، إلا أن استمرار مغذيات المرض من مثل انتشار المكيفات في كل مكان كان يُرجع الحالة إلى سابق عهدها بعد كل تقدم في الشفاء، فتيقنت أن لا مناص من التوسل إلى هذا بالدواء، فزرت المستوصف الذي وجدت فيه سرعة وإتقانا في الخدمات، فقد استقبلتني ممرضة –الغالب أنها سودانية الجنسية- ثم شخص طبيب “مصري” حالتي وقام بالواجب معي، فوصف لي الدواء الذي أخذته مجانا، فتحسنت حالتي تدريجيا –ولله الحمد-
أما على المستوى البشري: فرجال الأمن من الكثرة “الغثائية” ما يجعلك تجزم أن الدولة كنسق تحاول أداء جزء من مسؤوليتها، لكن الخلل في باب آخر لازم محاولة رصده فهمه، إذ أن الغالبية منه رجال الأمن هؤلاء تجدهم مجتمعين في حلقات يجالس بعضهم بعضا –خصوصا في منى حيث الخطر داهم ومنسوب اليقظة ينبغي أن يكون عاليا- يتسامرون، ووفود الحجيج تمر بمحاذاتهم قاصدة الرمي.
بل إن مما أضحكني وأبكاني في ذات الوقت أنك تجد رجال الأمن وهم في فترة “سربيسهم” “الخدمة الفعلية” يخلعون أحذيتهم –العسكرية- ويضع الواحد منهم رجله على ركبته الأخرى منشغلا عن “سربيسه/مهمته”- باللعب في هاتفه النقال!!!! في وقت ذروة الزحام، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
أما شباب “الكشافة” فقد رأيتهم في “المدينة المنورة” يبدلون جهدا للتوجيه والإرشاد..لكن صيغة إصدار الأوامر والعبوس ديدنهم، إلا من رحم الله…
وقد وقع أن سهوت ذات يوم وأنا أفكر في بعض ما يخصني منشغلا عن العالم، في الوقت الذي كنت متجها فيه إلى باب المسجد النبوي لأدرك الصلاة، لكني حين عزمت على خلع حذائي اكتشفت أن الباب الذي أحاول الدخول منه هو باب خاص بالنساء، فتقهقرت سريعا باحثا عن مسلك يخرجني من ساحة النساء فلما أعجزني ذلك -إذ أنني كنت أجد كل ما أظنه مخارج موصدا في نهايته- رأيت شابا سعوديا يجري نحوي على عجل ربما لأن “الكامرات” رصدتني، فلما دنا مني مبتسما “ياحجي ما بيصير…” تهللت أساريري لهذا الاستثناء العجيب من هؤلاء القوم ، فرددت الابتسامة بمثلها محاولا أن أبين أن الأمر أمر سهو وغفلة عن الكون…فما كان من صاحبنا إلا أن جمع شفتيه مغلقا فاه، ظللت أسمع نعيق الغربان وهو يقودني إلى مخرج، وأشم ما يشبه رائحة دخان يخلفه الحريق، حاولت أن أكلمه في طريق الخروج لأمتص صدمة “حريقه” لي، لكني أدركت أن “الطبع يغلب التطبع…” وأن الجفاوة طبع البدو مهما حاولوا التطبع بطبع الحضارة والتحضر…
*وثاني الأمرين الذين أكدا لي أن خيار العبوس والتجهم وإداية “ضيوف الرحمان” ليس خيارا ممنهجا لدى السلطات السعودية هو:
أن بعض من رجال الأمن الذين ضختهم “المملكة العربية السعودية للسهر على راحة الحجاج كانوا يمثلون الاستثناء في هذا “الغثاء” ، وهم موجودون في “مكة و”المدينة” و”منى”…لكنهم للأسف قليل لا حكم يؤسس على نذرتهم!!
فتجد هؤلاء في مكة يبتسمون للحجاج، ويوجهونهم ويخلصون لهم النصيحة في رفق وأناة، وتجدهم في منى يثقبون قنينات ويعبؤونها بالماء البارد يرشونه على الحجيج وهم يبتسمون ويخففون عنهم بلطيف الألفاظ… وقد صادفت هؤلاء في تلك الأماكن وحكا لي بعض أصحابي ما شاهدوه مما يثبت هذا، فهذا رجل أمن يحاول بأدب أن يثني حاجا “أعجميا” عن الصلاة في مكان –لعله طريق وممر- لكن الحاج كان صعب المراس فلم يستجب في الحين، فصبر رجل الأمن وتدبر فعلم أن الإعاقة ليست في سوء أدب حاج جاء من بلد بعيد يحدوه الشوق إلى هذا المكان، بل لعل العائق في التواصل أمر آخر، فسأل الحجاج هل هناك من يحسن الحديث بلغة هذا الحاج لينوب عنه في تبليغه مراده فتقدم حاج وخاطب الحاج الأعجمي بلسانه، ففهم هذا قصد رجل الأمن فتبسم في وجهه ابتسامة عذبة تحمل معاني الامتنان، والاقتناع بدواعي الانصياع، ثم غير المكان الذي كان يعزم الصلاة فيه…ومثل هذا موجود ومتكرر لكنه للأسف لا يكاد يُذكر مع “عموم الخبث” ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لما بان لي أن القصد السيء ومنهج الإساءة إلى الحجاج منتف عن السياق العام الذي يؤطر فيه تعامل “المملكة العربية السعودية” –كدولة- مع الحجاج، بالدليلين السالفين، شغلني أمر البحث في مبررات حالة العنف الذي يعامَل به الحجيج من قبل رجال أمن السعودية خصوصا، وكل المتدخلين عموما سواء كان هذا العنف ماديا “كالدفع والكلمات الحادة…” أو كان معنويا كاستهداف أرزاق الحجاج بالزيادة الرهيبة في الأسعار، ولعلي أفرد لهذه النقطة حلقة خاصة…
فلم يهدني تفكيري إلا إلى تلك الأبيات التي كنا ندرسها كبرهان على طغيان طابع البداوة على تصرف البدوي من حيث يظن أنه يؤدي الواجب اعتيادا، وهي قول الشاعر وهو يمدح الأمير:
أنت كالكلب في الوفاء وكالتيس في مقارعة الخطوب
فرد عليه الأمير “والله ما علمنا يا أعرابي أمدحتنا أم ذممتنا!!!!
فلسان حال الحجيج يقول صادقا “والله لقد ذممتمونا يا هؤلاء من حيث ظننتم أنكم مدحتمونا”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق