رحلة إلى بلاد الحرمين (8) بقلم الأستاذ حسن تلموت

حسن تلموت
بعد العمرة التي انتهينا منها للتو تحللنا مؤقتا، ذلك أننا أحرمنا “متمتعين”، فالحمد لله على التيسير.
بدأت أشعر بما أشعر به كلما أجهدت نفسي في السير، بدايات حالة التهاب جلدي نتيجة احتكاك الأعضاء بعضها مع بعض في حرارة مكة المفرطة!!!
وبالمناسبة لابد من الإشارة إلى أن الجو العام السائد في مكة –أقصد حالة الطقس- يستحيل على من عاش في جو المغرب المعتدل أن يتأقلم معه البتة، وقطعا…حتى لو كان من سكان مراكش الحمراء بسخونة جوها المعروف صيفا وبرودته الشديدة شتاء… ذلك أن اللهيب الذي يشبه فيح النار يحرق وجهك قبل حتى أن تحس بحرارة الشمس، هذا إذا سرت في الظل أما أن تمني النفس بالتمتع بأشعة الشمس فهذا مظنة الهلاك…ولذلك فإن الشعب السعودي يمكن القول بأنه “شعب المكيفات” دون تردد ولا وجل من القول.
بمجرد أن تطأ قدمك بلاد الحرمين فإنك ملزم أن تنتقل بين حالتي طقس إحداهما طبيعية غير محتملة، والأخرى صناعية غير محتملة أيضا!!! حالتان تنتهيان بحالة مرضية غالبا.
وإذا كان هذا الوضع طارئا بالنسبة إلى زائري بلاد الحرمين، فإن المواطن “السعودي” هذا هو وضعه الاعتيادي، فهو من “مكيف” في البيت إلى “مكيف” في العمل –إذا كان هناك عمل أصلا- إلى “مكيف” في المسجد…
ولهذا يتعجب المرء حين يسمع في “المسجد النبوي” حالات سعال حاد تكاد تملأ مدة الصلاة وما بعدها، من جل المصلين حين يسكت الإمام بين السجدتين أو حال التشهد أو في الصلوات السرية….
وأنا شخصيا أصبت بنوبة زكام عابر لكنه كان مشفوعا بحالة التهاب في الأحبال الصوتية دامت إلى حين عودتي إلى المغرب، وكانت نتيجة تعرض لهواء المكيف أثناء النوم في “منى” إذ نمنا الليلة الأولى والمكيف في مواجهتنا أنا وأحد الإخوة، ولم نعر الأمر أهمية تذكر، لكننا تبينا خطأنا بمجرد الاستيقاظ في الصباح، مما صرت معه إلى استعمال كمامات على فمي وأنفي عند النوم لأن المخيم غاصٌ بالناس، ولا مجال لتغيير مكان سريري، ثم إني اضطررت إلى استشارة الطبيب بعد ذلك واستعمال الدواء..فلله الحمد على العافية.
أثناء عودتنا إلى غرفتنا في الفندق للاستراحة، لفت انتباهي حالات التعنيف غير الخفية من لدن رجال الشرطة السعودية للحجاج، بطريقة لا تخلو من عدم لباقة ولا تقدير لمقام الحج ولا لقيمة الضيوف، فكيف بضيوف الرحمان، كما لفت انتباهي تلك الوجوه البائسة لسحنات أسيوية وهندية وإفريقية… الجامع بينها ما رسمه الدهر وواع الحال على صفحاتها من بؤس وشقاء، كان أصحابها ينتظرون الصدقات التي يجود بها عليهم المارة من الحجاج وهم يحملون في أيديهم أمارات بؤسهم من طمقشات” و”مجرافات” صغيرة يحملون فيها ما يجدونه من أزبال في الشارع.. –ولما خلفته المشهدان الأخيران في نفسيتي من ألم فإنني سأفرد لهما الحلقة القادمة بحول الله-
من أروع ما أكرمنا الله تعالى به هو قرب فندقنا الذي نزلنا فيه من الحرم، وكان عدد إخواني ممن يُكونون “عشرتنا” في الحج، حوالي الثمانية موزعين على غرفتين في الفندق، اتفقنا مذ كنا في المغرب على أمير للمجموعة وقررنا اتخاذ قراراتنا في أي موضوع بالاتفاق والتشاور، كنا أول الأمر أول الأمر سائرين على هذا الاتفاق إلى أن بان لبعضنا أن الأمر ليس ممكن الاستمرار لأن الهمم تختلف، والناس بين “شدائد ابن عمر” و”رخص ابن عباس”…
و “كل أدرى بثلثه”، فقرر الإخوة فك الارتباط وكل يقرر ما يناسبه، إلا في قضية جوهرية واحدة قررنا أن لا ينفرد بها أحدنا دون الآخر وهي جلسة “التياج” تلك التي “يتيي” لنا المحترفون ويتنغم بشرب “اتايها/شايها” الهواة مثلي…
لكن فك الارتباط هذا لم يتم إلا بعد أن أخذنا “نساءنا” لأداء عمرة التمتع –فقد اصطحب كل واحد منا معه زوجته أو أمه- لخوفنا من أن تضيع إحدى نسائنا في الزحام الشديد فلا تعرف لطريق العودة إلى الفندق سبيلا لذلك أقمنا حولهن طوقا كل من جهة أهله، وحرصنا على الطواف جماعة، والسعي كذلك مع التعاون في تذكر أذكار المناسك…حتى ختمن عمرتهن بسلام.
قضينا الأيام التالية في الحرص على الصلاة داخل الحرم كل حسب طاقته، بين من كان يرى الحرص على القدوم إلى الحرم ساعتين قبل الأذان، لألا يجد أبوابه قد أغلقها رجال الأمن، وقد كانوا يفعلون ذلك قبل الصلاة بأوقات متفاوتة بين الساعة أو أكثر حسب الصلاة وحسب تقدير أعداد من هم داخل الحرم المكي… وبين من يرى أن “مكة” كلها حرم، ومن أقعده العذر، فقد كان منا من أسرف على نفسه حتى أصابته ضربة شمس أقعدته الفراش، ومنا من تادى بطول المشي في الحرارة المفرطة حتى احتاج إلى استعمال أنواع من الدواء…
ثم جاءت أيام “منى” فنودي فينا أن أعدو العدة، فأيام الحج قد أهلت…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق