رحلة إلى بلاد الحرمين الشريفين (7) بقلم الأستاذ حسن تلموت

الكعبة مكة الحج

“لبيك اللهم عمرة”

“لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”
تعالت الحناجر بالنداء مخاطبة رب السماء، مذ كنا في السماء…
وحين نزلنا إلى الأرض زادت عقائر الناس باللهج يحدوها الوهج، وهج المكان والزمان…
وحين تراءى “البيت العتيق” خالط اللهجَ عبق التاريخ، والذكريات العطرات مما تبوح به الجغرافيا، فانسابت العبرات تترى، وتوقد القلب بالإحساس، والجسد بالعنفوان، فقد ذكرنا أنهم: هنا سجدوا، وهنا ذكروا ربهم، وهنا ارتفعت الأصوات موحدة “أحد أحد”، وهنا الخطى كانت عجلا إلى بارئها…
هنا ماضي الحاضر وحاضر الماضي، وماضي المستقبل إلى أن يأذن الله…
“لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”
رأينا البيت، فجرينا إلى البيت…وجدنا غيرنا قد جرى قبلنا…ووجدنا البيت على كثرة الجارين يفتح الذراعين ويقول هل من مزيد؟؟؟ فبيت الله هو من الله، وما كان من الله فهو من منبع الكرم…كرم لا حدود له. وما كان من الله فهو للخلق، كل الخلق لا يضيق بالألسن ولا الألوان ولا البنيات ولا الأحوال….ولا….
ما أعجب المحيط وما أعجب “السياق”…
هذا الأسود الزنجي، قوي البنية، غليظ الصوت، صافي القلب، تتبع مسار نظره فتراه ينظر إلى اللامحدود، فتعلم أنه جاوز الشهادة إلى عالم الغيب يناجي رب الغيب، فلا يحس بالشهادة.
هذا الماليزي، وهذا الهندي…بنية هزيلة لا تملأ في المحيط إلا ما لا يكاد ينتبه إليه، لكن عالم الشهادة تتقازم حدوده عن احتواء هذا البدن الغارق في الفيضان إلى أن تدفق مع سابقه إلى عالم الغيب حيث أفق المناجاة لا حدود له…
أوروبي وأمريكي…أعجمي يتلعثم في حروف لا يطيق لسانه إقامتها على البنيان المرصوص، لكنه يصر على هدم الحدود بين اللغات ليعلن للعالم أن اللغات جميعها تعرف رب اللغات الواحد الأحد، مهما تعددت اللغات…
هذا “أندونيسي” يدافعنا بالأكتاف في طواف سرمدي، تتعالى حنجرته هو والوفد المرافق له بالشجي من الألحان يضمنها ألفاظ التلبية، والدعاء، ويختمها عند “الركن اليماني” بالقرآن الكريم” “ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار” لم أتمالك نفسي مع عذوبة اللحن وإشراقة الروح، فسحت مع الأندونيسي أحاول ركوب جمال “الجرس” فرددنا معا “ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار” فعبرت معه إلى حيث اجتمع الزنجي والهندي والأندونيسي والأعجمي…. كلنا نلبي وندعو ونذرف دموعا نعلن بها التسليم لله رب العالمين “إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين”.
تلك أحاسيس لا تملك مدافعتها وأنت تنظر إلى بيت الله الحرام، بل تسير فيها مع تيار هادر لا يستشير، لأن مستقبِل رسائله هو الجزء الذي لا تتحكم فيه في ذاتك، إنه “الفطرة” المخزن فيها قطعيات “الإنسانية” قطعيات تلتقي في تفاصيلها وإجمالاتها “الأرض بالسماء” “الشهادة بالغيب”…”وأذن في الناس بالحج ياتوك رجالا وعلى كل ضامر ياتين من كل فج عميق”
يسأل النبي الكريم ظانا أن الأمر أمر “صوت وأذان”:”وأي مدى يبلغه صوتي يا رب العالمين؟”
يأتي الصوت اللدني العلوي :” عليك الأذان وعلينا الإجابة” إنها معادلة الأٍرض والسماء لا يديرها إلا من “له ملك السماوات والأرض”
ختمنا الطواف، ثم مضينا إلى السعي، لم يكن السعي بدعا…
يا سبحان ألله!! مسافة غير يسيرة قطعناها ذهابا وإيابا ذكرا لله تعالى بتعددنا الواحد الموحِّد، الموحَّد…
طول مسار ليس باليسير، يقول لنا “ما أجلد أمهاتنا أمام عوادي الزمان” لست تلقى كالأم مضحيا وإن ادعى المدعون…
هاجر تسير أقرب أو أزيد من الأربع كلومترات ذهابا وإيابا، تتلهف على حبيب خرج من الحشا، لكنه يوشك أن يغيب من أمام الناظر…
علمين أخضرين “الأبطح لا يُقطع إلا شدا”…تتسابق الأبدان، وتسابقها الهمم…حتى تسعى إلى بارئها..
غصنا في عوالم الدعاء مرافقا لكل تحركات الأبدان، الأجساد تطوف، والألسن تدعو، الأجساد تسعى والألسن تدعو…ورب العباد مطلع على البرايا “لأجيبنكم ولو بعد حين”
” ما أتت بكم الدنيا ولا زخرفها، ولكنه القصد إلي فخزائني لا تنفذ أبدا… امضوا مغفورا لكم يا عبادي…
قصرنا شعورنا، فأوان الحلق لم يحن بعد، لكن الأمر من رب الشعر آن والاستجابة له لازمة، لزوم اختيار، كلزوم اضطرار…
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، من الإحرام إلى التحلل، ومن العمرة إلى الحج…
الصلاة في الحرم “مائة ألف صلاة” هدية الرحمان إلى المحرم والمتحلل، فلتنشط لهذا الخير الحواس، والأحاسيس…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق