المنارة الخالدة

المنارة الخالدة

المنارة الخالدة – إخراج : سفيان حفظي – 2015

كنت أسميها المنارة الخالدة بالرغم من قصر فترة بقائي بها إلا أنه كلما فكرت أين أسكن و أين يقع منزلي لم يأت بخاطري سوى هذا المكان العظيم.
و على جانب المنارة كانت هناك أجمل شجرة توت في الدنيا بأسرها كانت طويلة للغاية ذات أفرع متشعبة و أوراق كثيفة ,و في موسم التوت كانت القرية كلها تأتي لتشارك مراسم هز الشجرة وجمع الثمار المتساقطة.
كانت تلك الشجرة عظيمة مثلها مثل المنارة و كان أخي الأكبر ابراهيم أكثرنا غراما بتلك الشجرة, كان يجلس على أفرعها بالساعات و يعرف كل تفاصيلها الكبيرة و الصغيرة, يعرف كيف يسقط منها الثمر و أين أفضل مكان للجلوس عليها و كيف يمكنك أن تراقب البلدة كلها من فوق.
كنت أحب الشجرة مثل ابراهيم و أتسلقها أحيانا و أجلس على أفرعها مثله, و لكنني أبدا ما جَرؤت أن أصعد الى قمتها مثلما يفعل, إنني حتى كنت أخاف من الوصول الى نصفها العلوي, فلطالما قال لي و هو يضحك : ستظل تخشى من الشجرة حتى تأتيك بالمنام.
و في أحد شهور الصيف, كان كل أبناء خالاتي و أخوالي عندنا بالمنارة, و كان ابراهيم أكبرنا في السن و أكثرنا قوة, و كان من عادته أن يستعرض سرعة تسلقه الى قمة الشجرة و هبوطه منها ثم يبدأ لعبة التحدي, (من منا يستطيع أن يسبقه ؟) و لكن لم يجرؤ أحد منا على الصعود إلى قمة الشجرة مثله.
و في أحد هذه الاستعراضات و بينما إبراهيم يرينا كيف يهبط بثقة و مهارة, اشتبكت إحدى قدميه بفرع من الشجرة فوقع بينما قدمه لا زالت معلقة من فوق, فاصطدمت رأسه بمنتهى القوة في جذع الشجرة ثم رأينا الدم ينزل بغزارة من رأسه.
لم يلبث الا ليلة واحدة بالمشفى و بعدها فارق الحياة.
كانت الصدمة شديدة على أمي, فظلت تبكي و تبكي و تبكي حتى ظننا أن الدموع قد نفدت لديها, و لكن هذا لم يكن بصحيح فقد استمرت فقط في البكاء. وكان أول شيء نطقت به بعد الحادث : “الشجرة ..لا أريد أن أرى تلك الشجرة ثانية ؛أريد أن تزيلوها من أمامي ؛أريد أن أخرج فلا أجدها أمامي مرة أخرى”.
بعدها كانت القرية بأسرها تشاهد في حسرة التوتة العزيزة و هي تسقط أمام أعينهم, متفهمين تماما لمَ يجب أن تُزال من بلدهم للأبد, و لكني كنت الوحيد الذي لم أفهم لماذا يجب هذا.
بعدها بعام رضخ والدي لطلب أمي و رحلنا عن هذه المنارة التي لم تعد تعني لها سوى موت إبراهيم, ثم بعدها تركنا القرية كلها و رحلنا الى المدينة علها تنسى ما مضى و تحاول الحياة من جديد.
بعد كل هذه السنين تأملت محاولا أن أستعيد وجهي ابراهيم و أمي رحمهما الله و لكنهما دائما ما يطيران من خيالي أحاول أن أتذكر بعض التفاصيل و لكن لا فائدة بينما شكل التوتة و أفرعها و تفاصيلها لم يفارق مخيلتي أبدا .
لقد زارتني الكثير من المرات في المنام كما تنبأ لي أخي؛ الكثير… حتى أنني أراها أمامي طيلة الوقت, لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي صورة أجمل شجرة توت رأيتها في حياتي, تلك الشجرة التي كانت تقتسم معنا منارتنا, المنارة الخالدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق