ٍلماذا لا نقاضي الدولة؟

0012

في الماضي، كان المغاربة يتعرضون لكل أشكال الاستخفاف والإهانة ولا يحركون ساكنا. يسقط مواطن في حفرة حفرتها البلدية وتركتها على حالها لشهور، فلا يتجرأ على الشكوى. ويغرق الأطفال في آبار تركتها السلطات بلا سياج فلا يفكر أحد في مقاضاة من تسببوا في ذلك، ويقتل الأطباء مرضاهم في عمليات جراحية فلا يجرؤ مواطن على مقاضاة طبيب، و»يهرف» المحامي على موكليه فلا يفكر الضحية في جعل المحامي يقف أمام القاضي، وأشياء كثيرة أخرى على هذه الشاكلة.
بعد ذلك صرنا نرى تحركات خجولة لمواطنين يجرؤون على مقاضاة الدولة والمصالح التابعة لها. رأينا مواطنين يقاضون الحكومة ووزارة الداخلية والخارجية ووزارات أخرى كثيرة حول قضايا مختلفة.
رأينا مواطنين وهم يعاندون لنيل حقوقهم أمام المحاكم، صحيح أن المحاكم لا تقيم وزنا في كثير من الأحيان لشكاوى الناس، لكن على الأقل صارت هناك جرأة وبدأ الناس يقتنعون بأن الدولة، بمختلف مرافقها ومصالحها، تخطئ كثيرا، بل إنها تظلم كثيرا.
لكن لو أطللنا على عدد الملفات في المحاكم التي يقاضي فيها المواطن الدولة، فإننا سنجدها قليلة جدا مقارنة مع الظلم الكبير الذي يلحق الناس، وحتى الأحكام الصادرة في تلك الملفات لا تنصف المواطن المظلوم، والأحكام المنصفة مجرد استثناءات في بحر من الأحكام الصادرة لصالح الدولة وخدامها.
عندما يقرر مواطن أن يقاضي عنصر درك أوقفه بسبب مخالفة وهمية، فإن القاضي يطلب من الدركي أن يقسم فقط بأن المخالفة موجودة فعلا. يقسم الدركي على ذلك فيذهب المواطن المشتكي إلى الجحيم. وهذه الحالة تنطبق على حالات كثيرة جدا.
مثل هذه الأحكام المتحيزة لصالح الدولة هي التي تدفع الإحساس بالمواطنة إلى النكوص، وهناك مواطنون كثيرون صاروا يعتبرون أن مقاضاة الدولة مجرد مضيعة للوقت والجهد والمال، ففي النهاية سيضع القاضي شكاية المواطن في كف، والدولة في كف آخر، وسيعرف بسرعة أي الكفين أثقل، وسيكون حكمه لصالح صاحب الحجم الثقيل وليس لصالح الملف الثقيل.
في المغرب يموت آلاف الناس سنويا بسبب حوادث سير مفجعة، وفي تلك الحوادث تكون للدولة مسؤولية جسيمة فيما جرى. هناك غياب للإشارات وإهمال لحالة الطرق وانعدام التشوير ولامبالاة رهيبة إزاء السيارات المتهالكة واستفحال الرشوة على الطريق، ومع ذلك من النادر جدا أن نجد أسر ضحايا الطرق ترفع دعاوى قضائية ضد الدولة.
قبل بضعة أشهر، وعندما احترقت حافلة طانطان وبداخلها أزيد من أربعين طفلا تحولت أجسادهم الصغيرة إلى كتل من الفحم والرماد، جرى تحقيق سطحي أرجع المسؤولية إلى السائق واستبعد مسؤولية شاحنة يفترض أنها كانت تهرب النفط.. ثم انتهى كل شيء. في أي بلد في العالم يمكن لحادثة مشابهة أن تشعل المحاكم عبر دعاوى لا حصر لها. لكن أسر ضحايا حافلة طانطان بلعوا ريقهم ودفنوا فلذات أكبادهم، وربما أخذوا تعويضات تافهة وانتهى كل شيء.
وبعد غرق أحد عشر طفلا في شاطئ بالصخيرات قبل بضعة أسابيع، تحولت القضية، فجأة، من كارثة إنسانية وسياسية إلى مجرد رغبة في إطلاق سراح مدرب النادي الذي جر الأطفال إلى الشاطئ، وعندما أطلق سراحه تلفظ ذلك المدرب الأحمق بعبارات جعلت الكثيرين يندمون على المطالبة بإطلاق سراحه. اليوم صارت القضية نسيا منسيا، مع أنه كان من الممكن أن تقاضي عائلات الضحايا الدولة التي تركت الشاطئ دون حراسة وبدون أي إشارة تدل على أنه شاطئ ممنوع، وكان بإمكان مئات أو آلاف الجمعيات المغربية، خصوصا المدافعة عن حقوق الأطفال، أن تقاضي الدولة لنفس السبب.
لكن لا شيء من كل هذا حدث، فالمحكمة الوحيدة التي يضع فيها المغاربة شكاواهم هي المحكمة الإلهية، وهذا لا يدل على جرعة زائدة من الإيمان بقدر ما يدل على جرعة كبيرة من الجبن.
مقاضاة الدولة لا ينبغي أن تقتصر فقط على الحوادث المفجعة والقاتلة. فحتى الغلاء المهول الذي يعانيه المغاربة كان يجب أن يجد طريقه نحو المحاكم. وبما أننا في شهر رمضان، حيث تصير للأسماك «جوانح»، نتساءل لماذا لا يقاضي المغاربة الدولة بسبب هذا الغلاء المفجع في أسعار السمك.
المسألة ليست نكتة، بحيث يمكن لأي مواطن أن يتوجه إلى سوق السمك رفقة عون قضائي ليتم إجراء معاينة قانونية حول الأسعار الملتهبة. بعد ذلك يتم إعداد ملف بسيط يضمنه المواطن شهادة الأجرة أو شهادة عدم العمل ونسخة من الحالة المدنية وعدد الأطفال، مع ملف يضم حجم الثروة السمكية للمغرب والمساحة الإجمالية للشواطئ المغربية الممتدة من السعيدية إلى الكويرة، ويمكن أن نضيف إلى الملف كل الاتفاقيات التي عقدتها الدولة المغربية مع الأساطيل الأجنبية لنهب البحار المغربية، وأيضا أسماك أباطرة البحار من مدنيين وعسكريين، والذين حولوا بحار المغرب إلى إقطاعيات خاصة.
هل يمكن فعلا أن يصل المواطن المغربي إلى هذا المستوى من الوعي والعناد؟ ربما.. فكثير من الشعوب المتطورة حاليا كانت تشبهنا من قبل في الاستكانة والجهل والخوف.

عبد الله الدامون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق