الجشتيمي التافراوتي..الفقيه الذي عاش زمانه

أولى المرأة مكانة مرموقة في فاعليته حيث رفعها إلى مكان الصلاح والولاية كما يظهر في منظوماته بالأمازيغية ، قربه السلطان الحسن الأول ، خدم التعليم والتصوف السني الذين لازماه طوال حياته .
)وأذكر أني لما حضرت محاضرة المفكر العراقي والمجدد الأصولي – نسبة لعلم أصول الفقه –  طه جابر العلواني ورئيس المجلس الفقهي بالولايات المتحدة الأمريكية بكلية الشريعة بأيت ملول ، توقف الرجل مليا عند فتوى فقهية تخص المرأة ووصفها بالمتقدمة التي تصلح لهذا الزمن وفعلا تم الأخذ بها في عدد من تشريعات الأحوال الشخصية ، ناسيا اسم الفقيه السوسي صاحبها وذكرنا أنه سيدي عبد الرحمان الجشتيمي ) !
ولد عام 1816م 1231هـ ب ” ئمي أوكشتيم ” بتافروات وتعلم على يد والده العلامة سيدي عبد الرحمان الجشتيمي علما وأدبا وأخلاقا ، وقد انفرد والده بتربيته كما ذكر العلامة المختار السوسي في المعسول ، ثم استكمل دراسته على يد أخيه عبد الله بن عبد الرحمان أحد علماء القرويين . وأجيز سيدي أحمد من علماء التقى بهم في حجه في علوم الحديث والتفسير وغيرها ، أقام بموطن ولادته وبقرية “تيزكي” قرب تافراوت وفي مراكش وفي تارودانت حيث عينه السلطان الحسن الأول مدرسا بالجامع الكبير ، وقد استهل الكتاب بنسخة من ظهير التعيين .
لم يخلف العلامة أحمد بن عبد الرحمان الجشتيمي مؤلفات كثيرة نظرا لاهتماماته الإجتماعية ، وأكثر ما كتب فيه هو الشعر العربي والأمازيغي ، فهو كوالده سيدي عبد الرحمان الجشتيمي يتقن الشعرين وقد قال :
الحمد لله الذي قد ســـخرا     لي النظامين ولا مفتخرا
أنظم حينا باللسان العربي     وتارة بالأعجمي الأعذب
توفي العلامة أحمد بن عبد الرحمان الجشتيمي عام 1909م 1327هــ .
حيثيات ودواعي نظم  النصيحة الجشتيمية :
غطت النصيحة الجشتيمية الجوانب التي همت الناس في عصره في مجال الدين والتصوف والعقيدة وفي الإقتصاد والمعاملات وما يتعلق بالعرف ، بل حتى ما يتعلق بالجهاد فيما تعلق بتحبيذه تعلم الرماية باعتبار اتسام المرحلة التي عاشها بالتدخل الأجنبي ، فقد عاصر معركة إسلي سنة 1844م وحرب تطوان سنة 1860م ، وهي مرحلة عرف فيها المغرب هزات سياسية واجتماعية واقتصادية ، وعرف تقلبات مناخية نجمت عنها مجاعات وأوبئة ما أدى إلى انتشار بعض البيوع الفاسدة مثل بيع الثنيا المنتشر بسوس وقد أفرده الجشتيمي بأبيات في هذه المنظومة ، كما عرفت المرحلة احتدام التنافس بين الطرق الصوفية من درقاوية وناصرية وتيجانية وشاذلية مما قد يرى معه الجشتيمي تهديدا للحمة الدين الواحد ومخافة التشرذم والتفرق والتعصب مؤكدا على أن هذه الطرق هي اجتهادات لا تغني متبعيها شيئا إن هم تركوا كتاب الله وسنة رسوله منكرا البدع المنتشرة . كل ذلك كان أولى بالذكر في نصيحة الجشتيمي حتى يسد ثغر خطير يمكن أن يستغله العدو الأجنبي لإحكام القبضة على المغرب لذلك أكد على الإتحاد والأخوة .
مضمون النصيحة الجشتيمية :
بدأ  أحمد الجشتيمي منظومته الشعرية ب ” تيزويري ن نصاحت” أو مستهل النصيحة ، بالبسملة وحمد الله موجها موعظة لكل من ليس متكبرا ولا مجادلا :
(ريـــغ أد نـــضمـــغ كــــرا ن نــــصاحـــت إيــــان غ ؤرئـــــلي
لــــكــــيبـــر ؤلا لـــجيـــدال عــــاون ئــــي كــــيـــس ألـــــباري)
والحث على اتباع القرآن وهدي النبي الكريم وإن لم يعرف المتبع أحدا من شيوخ التصوف ، في إشارة واضحة إلى أن وساطة الشيوخ والمريدية لا تغنيان شيئا إن لم يستمسك المؤمن ويعتصم بكتاب الله وسنة رسوله :
( مــــقــــار ؤرئـــــسيــــــن أك ئــــس ئـــــخلق لـــــباري
مــــولاي حـــــــمــــاد ؤلا مــــــولاي لــــعــــاربـــــي
ؤلا بـــــنــــاصر ، ؤلا لــــيمــــام شــــاديــــــــــــلـــــي )
وقد ذكر شيوخ التصوف الطرقي المعروفين : أحمد التيجاني مؤسس الطريقة التيجانية، والعربي الدرقاوي ، محمد بناصر مؤسس الزاوية الناصرية وشيخ الطريقة الناصرية بتامكروت بزاكورة ، ومؤسس الطريقة التيجانية أبو الحسن الشاذلي . وكأن بالجشتيمي يحذر من الغلو في هؤلاء الشيوخ مما قد يجلب مصائب الدين والدنيا من مثل ما يحدث اليوم في المغرب وغيره ، إذ نرى أن المريد يتدين على تدين شيخه ويرى الأمور بمنظاره وهو ما تم استغلاله سياسيا للترويج لأدلوجة سياسية والمحافظة على بقاءها !
كما حث العلامة الجشتيمي على محبة الشيوخ وتوقيرهم وتعظيمهم وعلى اجتناب البدع ، منكرا على من يرقصون أثناء الذكر في إشارة إلى “الرقص الصوفي” المعروف بين الناس ب “الرديح” وهو معروف اليوم في المغرب بين الدرقاويين والبودشيشيين خاصة ، معنونا إياه ب : ( لاوليا ن تميزار نغ ؤر أترقاصن غ تيزي ن ديكر ) أي أن ” أولياء بلداننا لا يرقصون أثناء الذكر” ، كما أكد على أن دين الله واحد واختلاف الأوراد والطرق ليس مدعاة لتمزيق دين الله ، وأوصى بالتعاون والإتحاد والمحبة والأخوة ، وحث على تعليم الرماية بنية ردع العدو استرشادا بحديث نبوي “علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل ” ، كما أكد أن أعمال الدنيا هي جزاء في الآخرة وأن الشفاعة إرادة إلاهية  داعيا لمقاومة النفس والشيطان والإجتهاد في الدين والتفريق بين الحلال والحرام معقبا بكبيرة الربا الذي توعد الله من أخذ به بالعذاب الشديد إذ ليس هناك ذنب أوعد الله عليه بحرب من الله ورسوله مثل المرابين .
ثم نبذ التقليد في الدين داعيا إلى الهروب منه ضاربا المثل ببيع الثنيا وإن تعامل به عالم فاهم و
هو من البيوع الفاسدة المنهي عنها شرعا ، داعيا إلى عدم الإغترار بمن يجوزه ، ثم شرح معناه في ست أبيات ، بعدها دعا لإعطاء الأعشار التي يجمعونها في المدارس لمستحقيها من المساكين وإلى عدم تخزينها بعد إخراجها وإلا عوقب من لم يكن نصيبه منها سوى الإفساد ، واعتبر أن المغالاة في جهاز العروس من اتباع الشيطان . واعتبر العلامة الجشتيمي العرف خارجا عن نطاق الدين ، ومن قال : ” لا أحتكم إلى الشرع بل أحتكم إلى العرف ” لم يعد متمسكا بالدين .
وأوصى العلامة من أخذ وردا بالتمسك به أي الورد أو مجموعة أذكار لقنها الشيخ لمريده وأن التلقين المباشر لا يستوي مع التلقين بواسطة وإن كان الورد واحدا ، وأكد أن ذكر الله يجوز بلا شيخ وأن الطاعة لله وحده ، ودعا إلى عدم الإلتفات إلى مقولة رائجة بين الصوفية الطرقيين ” إبليس هو شيخ من لا شيخ له” لأن من يكون إبليس شيخه هو من لم يتبع سنة النبي الهادي ، وحث على ضرورة فهم الذكر الذي يقرأ ، فنظم أبياتا لتحديد معاني بعض الأذكار : أستغفر الله ، الحمد لله ، سبحان الله ثم معنى الشهادتين ، و لا حول ولا قوة إلا بالله ، ومعنى الصلاة على النبي .
ثم ختم الجشتيمي منظومته بالدعاء ( دوعا ن تيكيرا ) ثانيا على الله داعيا إياه بحسن الخاتمة وتقبل الأعمال كيفما كانت راجيا منه المغفرة والرحمة لكي لا نرى الأهوال داعيا لوالديه وأحبابه كلهم وشيوخه والمسلمين أجمعين ، فمصليا على رسول الله وجميع آله ومن اتبعه وأحبه .
مسك الختام :
من خلال نصيحة الجشتيمي يتضح لنا أن النصيحة فن له شروط وضوابط أولاها أن يكون بنت عصرها معبرة عن زمانها وما يختلج فيه من هموم ومشكلات ، وبأسلوب رحيم لين بعيدا عن الفظاظة والتعالي والتعالم والإستبداد الثقافي ، وهو الفن الذي يفتقد اليوم للأسف في مجتمعنا ، مجتمع هرب فيه الجميع من الجميع ، بل هرب الجميع من راهنية زمانهم وما تتطلبه من تقويم وتقييم ونقد بناء على حوار يقف على أرضية المشترك الإنساني والوطني والتكامل بين مختلف المكونات .

بقلم حفيظ المسكاوي

[email protected]
www.facebook.com/hafidelm

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق