الحروب الهادئة للاعلام …… أسلحة صامتة وألــغــام

الطالبي

الحروب الهادئة للاعلام …… أسلحة صامتة وألــغــام 

الجزء الاول : مقاربة نظرية (الفقرة الاولى )

     كتب عالم الاجتماع والمفكر الفرنسي المرموق “بيير بورديو”  كتابا عمق فيه تصــوره حـــــول الاعـــــلام، ونظرته الفكرية والاعلامية لجهاز التلفاز الذي صار حسب “بورديو” الة هائلة للتـــــلاعب بالعــــقـــــول، وصناعة الافـــــــــــــــــكــــــار،  والتوجهات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، عــــــنــــوان الكتاب “التلفيزيون والية التلاعب بالعقول”.

    اما “جيري ماندر”  فقد كان اكثر تشددا في عنوان كتابه “الراديكالي” حين دعا قطعا وجزما وبلا التواء الى الغاء التلفاز في اطروحته التي اسس لها في كتابه ” أربع مناقشات لالغاء التلفاز”، اذ أن تجربته الطويلة في مجال الاعلان والدعاية جعلته يراكم تجربة غنية في الميدان خلص فيها الى خلاصة واحدة، ان التلفاز الة فتاكة للفكر الابداعي الحر،  والية لصناعة النمط الاحادي القائم على الاستهلاك .

   “هربرت شيللر” بدوره لم يكن بعيدا عن اطروحة “جيري ماندر” و “بيير بورديو” ففي كتابه ” المتلاعبون بالعقول”  وضع خمس أساطير مؤسسة للتحكم، وهندسة العقول، وقولبة المجتمع، وتنميط الفكرة بواسطة الاعلام.

   اما العملاق الامريكي وعالم اللسانيات والمفكر الامريكي الحر “نعوم تشومسكي” فقد حدد بدوره عشر استراتيجيات مركزية يوظفها الاعلام  للتحكم في المجتمعات في مقال قيم  بعنوان “حروب هادئة باسلحة صامتة ….عشر استراتيجيات للتحكم بالعالم”، كما كتب كتابا رائعا  سماه “السيطرة على الاعلام”.

   اما اخر ما كتبه المفكر المغربي ابو زيد المقرئ الادريسي فهو كتاب ” رهانات الخطاب الاعلامي” قارب من خلاله الية التضليل والخداع التي ينهجها الاعلام، وحدد ابعاد هذه الاليات من خلال  ثلاث دوائر مركزية  “رهانات الاعلام المعاصر، تنحصر اليوم في وعينا المحاصر المأزوم، في ثلاث دوائر رئيسية مازال يحكمها المنطق الدفاعي لا التدافعي : الحقيقة اولا، والانتماء ثانيا، والممارسة ثالثا .”(1) وشدد على خطورة انحراف الاعلام عن دوره الرئيسي أي التنوير والتواصل الى التضليل والاختلاق ” من مفارقات الاعلام الذي اصبح اكثر العلامات الحضارية لصوقا بالعصر ومقتضياته، انه لاينحرف فقط – في احيان كثيرة – عن وظيفته الاساسية التي هي الاخبار والتواصل والتنوير، وما يتفرع عنها من مقتضيات الابلاغ والتوعية، وانما يتجه الى تحقيق مقاصد نقيض هذه الوظيفة، بحيث يتحول دوره على يد المتنفذين من أباطرة الاعلام المنفذين لسياسات الكبار المسيطرين على مقدرات هذا العالم، الى وظائف تضليلية تقوم على التغليط والتحريف والتزوير والاختلاق” (2)  معتمدا في ذلك على الية ” الافتراء والاجتزاء والفبركة والايحاء والتغليط والاستدراج، لصناعة «حدث اعلامي » يتراوح بين معلومة او خبر او تصريح، وقد يتركب الى ان يصبح « فلما وثائقيا»، مادته الفبركة والاجتزاء والتوضيب”(3).

 هذه اهم الكتب والموقف والاراء التي اعتكفت عليها مؤخرا لدراسة الخطاب التضليلي للاعلام، جولة “بانورامية” على اعمدة الفكر والاعلام والثقافة تحتاج الى وقفة عميقة متأنية للوقوف امام كل كتاب على حدى دراسة وتحليلا ومناقشة في مقاربة نظرية اولية قبل ارفاق  العمل النظري بنماذج تطبيقية تبين بلغة “جاحظة العينين” جبروت الاعلام كسلاح دمار شامل يعمل بصمت وبلا ضجيج، فيما سماه بيير بورديو ب «الايديولوجا الناعمة» «soft ideologie»، والتي تهدف الى  احداث ثورة ناعمة تؤسس لنمط ثقافي كوني احادي، و تميع القيمة وتعلبها وتصدرها باعتبارها النموذج الاستهلاكي المادي الليبرالي “الاجتثاتي” لهوية الشعوب من خلال اليات التضليل والخداع  الاعلامي.

بيير بورديو : التلفيزيون يتلاعب بالعقول ……اطروحة  اثارت زوبعة من النقاش:

بيير بورديو ” المفكر الفرنسي المناهض للنظام الليبرالي العالمي، والمعروف بكتاب “بؤس العالم”، والذي جلد فيه نظام العولمة، فهو مناضل من عيار ثقيل جمع بين النضال بالفكر، ونضال الاحتجاج وقيادة الجماهير الثورية .  غير بعيد عن هذا التوجه لم يخرج كتاب “التيلفيزيزن والية التلاعب بالعقول” ، اذ وجه مدفعيته لقطاع الاعلام والاعلاميين بطريقة راديكالية ثورية، وبخطاب نقدي صارم، وبفكر تفكيكي تحليلي منهجى دقيق.

   قام “بيير بورديو” بتفكيك وتحليل الخطاب الاعلامي، وفضح الياته التضليلية، وكشف وسائل تحكمه في العقول، ووضح الخلفيات والكواليس التي تحدد توجهاته، كما ركز على خطابه السطحي فيما سماه ب “مقدمي الغذاء الثقافي السريع”، وازال اللثام عن خبايا واسرار التلاعب بالمشاهدين من خلال برامج تلفزية شبيهة ب”مسرحية مصطنعة في الكواليس ”  حسب تعبيره.

    تحدث “بيير بورديو ” عن نقاط اساسية ومركزية ووجه مدفعيته للاعلام؛ وبالضبط قلبه النابض التلفاز فركز في بداية كتابه على ان التلفاز والاعلام بصفة عامة ماهو الا مسرحية لها كواليس خاصة، وذلك راجع حسب “بيير بوردي”  الى الرقابة الخفية التي يتعرض لها الاعلامي ، ثم عملية حجب المعلومات او ما سماه كذلك ب”لعبة المنع بواسطة العرض” والتي تميز الخطاب الاعلامي، ثم عملية الانسياب الدائري للمعلومات، اضف الى ذلك انتاج الفكر السريع .

1 الرقابة الخفية :

   لقد تحدث “بيير بورديو” عن نوعين من الرقابة : الرقابة السياسية والرقابة الاقتصادية، فالضيوف حسب “بيير بورديو ” يتعرضون لمضايقات قبلية ـ اي قبل الظهور في “البلاتو “ـ اذ يتم رسم التوجهات العامة للبرنامج، ويتم تسطير الخطوط الحمراء من طرف معد البرنامج.

     اما الرقابة الاقتصادية فتتمثل في تدخل المعلنين الذين يدفعون الاموال الباهضة ثمن اعلاناتهم ” اذا لم نعرف اسم المالك، ونصيب كل المعلنيين في الميزانية، وقيمة الدعم الذي تقدمه الدولة، لا يمكن فهم شيئا كثيرا ” (4).

     وقدم مثالا عن قناة NBC  التي تملكها شركة “جنرال اليكتريك” مثلا، وتساءل كيف يمكن لهذه الشركة ان تسمح  بالحديث عن اهمية محطة توليد الكهرباء بالطاقة النووية ؟؟

2 فن حجب المعلومات او لعبة المنع بواسطة العرض:

    الاعلام يقوم بعملية الحجب والتحكم في المعلومات فحتى المعلومات التي نعتقد انها معروضة بكل يقينية يرى “بيير بورديو” ان عرضها ماهي الا  الية ناجعة  لاخفائها ” ان الصحفييين يشبهون «نظارات» خاصة بواسطتها يرون اشياء معينة ولايرون اشياء اخرى؛ كما انهم يرون هذه الاشياء بطريقة معينة. انهم يمارسون عملية الاختيار ثم عملية اعادة تركيب لذلك الذي تم اختياره ”  (5).

   فبعض المواضييع التي يتناولها الاعلامي يتعمد ان يضفي عليها  الطابع الدرامي، ويبالغ في الحديث عنها مثل الانتفاضات والعنف وما يدور في فلكها ….. فحتى اللغة التي يستعملها الاعلامي تعتبر خطيرة، وتحتاج الى التريث حين تحليلها ومقاربتها.

    ان استعمال الكلمات المفتاح حسب “بيير بورديو” يحتاج التدقيق وعدم المبالغة لما يمكن ان يؤدي به ذلك من انعكاسات سلبية ” يمكن للكلمات ان تسبب الدمار والخراب : اسلام، اسلامي، اسلاموي، مسلم هل الحجاب حجاب اسلامي ام حجاب مسلم ؟ هل تاثيره يكمن ببساطة في مجرد شكله ام انه اكثر من ذلك ؟ تحضرني احيانا رغبة في اعادة اخذ « كل كلمة »  من كلمات مقدمي البرامج التلفزيونية الذين يتحدثون غالبا بخفة ودون ان يكون لديهم اية فكرة عن صعوبة وخطورة ذلك الذي يقدمونه، ولا عن المسؤوليات التي يتحملونها نتيجة لما يقدمونه للالاف من مشاهدي التلفزيون بدون فهم لما يقدمونه . ذلك ان مثل هذه الكلمات تخلق اشياء ، تخلق التصورات والتخيلات الخادعة، تحدث الخوف، تؤدي الى الهلع والهبة او ببساطة الى تقديم عروض زائفة ” (6).

   ان الصحفي يحول العادي الى خارق للعادة، وهذا يتضمن الكثير من من التأثيرات السياسية ، فالصحافيين يبحثون عن جعل واقع رتيب هادئ، واقعا متحولا ومتغيرا، مما له انعكاسات خطيرة من خلال التاثير على المتلقي، وهي خاصية يسميها نقاد الاداب ب “تأثير الواقع”، فالصورة تؤدي الى رؤية اشياء، والى الاعتقاد فيما تراه، بل الاسوء انها يمكن ان تحدث مجموعات وانقسامات، وتسقط في مستنقع العنصرية والزيتوفوبيا (كراهية الاجنبي ).

 هذ هي الخلاصة الصادمة التي خرج بها “بيير بورديو” من خلال تشريحه الدقيق للخطاب الاعلامي، واليات تقديمه للمعلومات.

3 الانسياب الدائري للمعلومات :

انتقد “بير بورديو” بشكل كبير  الذين يدافعون عن فكرة  ان الاحتكار يقولب، وان المنافسة تؤدي الى التنوع،  وكل هذا باسم مبدا الليبرالية  اذ اكد عكس واعتبر ان المنافسة والاحتكار والليبرالية تؤدي الى انتاج التشابه واعطى مثالا عن انتقال الصحافي من جريدة الى جريد دون ان يكون لذلك اي اثر سلبي فاعتبر ذلك من بين اهم مظاهر ان الانتاج وفق المنطق الليبرالي الاحتكاري التنافسي ما هو الا انتاج جماعي دائري لاغير.

  قدم بيير بورديو نماذج اخرى خاصة حين ينتظر الصحفي ماكتبه الاخرون لكي يكتب، او رؤية ما نشرته قناة للرد او الاختلاف في نطاق التشابه انها عملية  المراة العاكسة ” لكي يتم اعداد نشرة اخبار منتصف النهار يجب على الصحفي ان يكون قد شاهد عناوين نشرة المساء “(7) .

حتى المعلومات التي من المفروض ان يزود بها الصحفي المتلقي(القارئ/ المشاهد) فانه يحصل عليها من مكان اخر ” اذا ما تساءلنا، وهذا سؤال يبدو ساذجا بعض الشئ كيف يتم امداد بالمعلومات وهم الذين يوكل اليهم ان يمدونا نحن بالمعلومات فانه يمكن القول بشكل عام ان امدادهم بالمعلومات يتم بواسطة موردين اخرين للمعلومات ( مصادر المعلومات ) ” (8).

4 النقود والتفكير السريع : 

الاوديمات L audimat هو مقياس نسبة الاقبال التي تتمتع بها القنوات التلفزيونية المختلفة، “بيير بورديو” اعتبر الاوديما هو المقياس  الوحيد الذي يحرك التنافس من اجل السبق والاثارة، وبالتالي تحقيق اعلى نسبة مشاهدة ومنه تحقيق الارباح الاقتصادية انه الهاجس المادي الربحي.

ان السرعة في الوصول الى معلوات الاثارة والسبق تجعل الاعلامي يدور في دوامة ” الافكار الشائعة السطحية” والتي تحدث عنها “فلوبير”  تلك التي يتقبلها الجميع، تافهة ، مبتذلة، تقليدية، شائعة. وبالتالي قتل الفكر الرزين. فالسرعة ضد نضج الفكرة.

ان عملية السرعة التي تحكم عمل الاعلامي والتلفيزيون حسب “بيير بورديو ” تجعله ينتج بكل بساطة غذاء ثقافيا على السريع.

هذه الركائز الاساسية التي تحدث عنها “بيير بورديو ” في النصف الاول من كتابه وهي في الحقيقة خلاصة دقيقة وعصارة فكرية لكواليس التلفزيون و الاعلام، ومجمل مايقال ان هذه العصارة هي تحليل دقيق لمسرحية تدجين العقول وقولبة المجتماع على المقاس الليبرالي، ومحاولات لانتاج التنميط الثقافي، والتاثير السياسي. والاسوء من ذلك كله صناعة خبيثة للعنف الرمزي الذي يتحول الى عنف مادي.

في الفقرة الثانية سنتحدث عن نظرية “نعوم تشومسكي” و “جيري ماندر ”  في محاولة لفهم الحروب الصامتة للاعلام، واكتشاف مزيد من الالغام .  (يتبع ….)

هوامش :

(*)العنوان استمد فكرة الحروب الهادئة باسلحة صامتة من مقال نشره المفكر الامريكي نعوم تشومسكي تحت عنوان “أسلحة صامتة لخوض حروب هادئة.. عشر إستراتيجيات للتحكم بالشعوب” بتصرف .

(1) ابو زيد المقرئ الادريسي، رهانات الخطاب الاعلامي، الطبعة الاولى فبراير 2015 ، ص 10

(2)  نفس المرجع، ص 23.

(3)  نفس المرجع، ص 30.

(4) بير بورديو، التليفزيون و اليات التلاعب بالعقول، ترجمة وتقديم درويش الحلوجي، الطبعة الاولى 2004م، ص 44.

(5) نفس المرجع، ص 49.

(6) نفس المرجع، ص 51.

(7) نفس المرجع، ص 58.

(8) نفس المرجع، ص 60

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق