ماذا أكتب؟ …

ماذا أكتب

كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء، لا تزال رندا مستيقظة، تراقب الأجواء من خلف نافذة صغيرة، وتنظر إلى عيون السماء الملبدة بالغيوم، وقد اكتسحتها أسراب ضبابية كثيفة، الأمطار تهطل بشدة، قامت من مكانها، فأغلقت زجاج النافذة، وهي تراقب ذلك التساقط الرهيب في تلك الليلة المظلمة، دون أن تجد ما تبحث عنه، نظرت إلى خيوط السماء المترقرقة، وكأنها تناجيها في صمت: 
– لطالما بلورت أفكاري، ومنحت خيالي إحساسا جميلا، وشموسا أشرقت، فأيقظت مداد جعبتي، فرسمنا معا أزهارا وطيورا جميلة، طالما أشجتني ألحانك، وعزفت سحرا بين أناملي، بعدما أوقدت بياض صفحتي في الليالي المظلمة، لكن الآن، أحاول أن أكتب،أن أرسم،أن أحلق، فتعصف بي الأوراق، الرموز،الكلمات، التي تتطاير، وتترك أناملي حائرة بين ضفاف الكلمات.
قامت من مكانها، وقفت بجانب النافذة، وهي تحدق في الفراغ، بمآقيها الحزينة، تردد سؤلها حائرة «ماذا أكتب؟»
لطالما منحها الخريف نبراس الكتابة، وناشدتها رياحه في أزير وزمهرير وهي تحمل في جعبتها تلك الحروف، والكلمات، والأرقام، التي تتساقط كقطرات الغيث، الآن تبحث عن فكرة، كلمة، أو مجرد حروف تلملمها، لعلها تورق، فتنبث أفكارا، بدل الحيرة التي تضمها إلى قوانين الجاذبية، وتجعلها غير قادرة على التحليق بتاتا.
انشغلت طويلا بسؤالها «ماذا أكتب؟» أثقلها الأرق، والحيرة، والتفكير. الساعات تمر، لم يعد يفصلها عن منتصف الليل إلا دقائق قليلة، لاتزال تبعثر في أفكارها، تضمها، تفككها، دون أن تجد في شعابها ما يحد أرقها، سؤال واحد فقط، أصبح يلح في سؤاله، كأنه احتار أيضا فيما يكتب.
انفتحت النافذة، تسللت الأمطار إلى أوراقها المرتبة، فتبلل منها ما تبلل في حين تناثر بعضها خارجا، استغرقت في النوم، دون أن تلتفت إلى الأمطار الشديدة، والمتسربلة، تزاحمت الصور، الكلمات، فركت عينيها بتكاسل، تناثرت الأوراق وزحفت الأحلام، اختلطت الأشياء بعضها ببعض،ما عادت رندا تستطيع الفصل فيما بينها، استسلمت إلى ذلك التمازج الجميل، أخذت تتحرك بين تيارات الهواء والأمطار، والعتمة، اقتربت الرياح منها، تشكلت، تحركت، تسابقت الكلمات، اتخذت قمرا، ورودا، وأشجارا، كأنها تتقمص دورًا من أدوارها، أمسكت بقلمها،حكت رأسها قائلة: «ماذا أكتب؟»
بدأت الرياح تتمايل مع الأشجار، اقتربت من رندا، فبدأت تتحول، تارة عاصفة وتارة تتهادى كأطياف النسيم:
– انتظرتك طويلا.
أجابتها الرياح بصفير هامس، يشبه صفير الموج مع زقزقة العصافير:
– لماذا يا ترى؟
– لقد تاهت سطوري، تلاشت كلماتي فحلقت بعيدا،كأنها أسراب من الطيور المهاجرة، ما عدت أستطيع أن أكتب، أن أحس تلك الأناشيد التي تعزفها الأشجار و الأزهار، ما عدت أستطيع أن أصنع أطواق الياسمين، وأمشي بين الحشائش الخضراء، ما عدت أجد جوابًا لأسئلتي، كل ما أتذكر سؤالا فقط: ماذا أكتب؟
– لقد اختلطت الفصول، إنه الربيع، أصير نسيما أتحرك، وأخشى أن أحطم الأزهار الرقيقة، والبراعم الصغيرة التي تفرد وريقاتها للنمو.
– الرياح والأمطار صارت تعصف بنا، الشتاء، الخريف، الربيع، الصيف، اختلط بعضها ببعض، ما عدنا نفرق بين الفصول.
– إنها الطبيعة تتمرد يا رندا، الإنسان قلب كل الموازين، أتعلمين أنا متعبة جدا، مرهقة من هذه الأشياء التي تعصف بنا، ما عدت أقدر على ما كنت أقدر عليه قبل اليوم.
– ماذا تعني؟
– إنني أدخن في اليوم أكثر من مصنع، فتسري السموم في نسائمي الرقيقة، تسري في أعماقي الشفافة، تستنشقها الأزهار، والأشجار،والأطيار، وكل الكائنات الحية، التلوث يا صغيرتي أهدر طاقاتي، أخاف أن يختفي النسيم، وتختفي كل الأشياء الجميلة من الأرض، ربما لن يجد قلمك بعد اليوم ما يكتبه، تلك الأشياء الجميلة التى يحبها ستمسي سرابا، ستصبح الأشجار حلما من أحلام البشر بعدما تنقرض مثلما حصل للديناصورات.
– آه ، أنت محق أيها النسيم.
اقتربت من الأشجار العملاقة، أخذت تكرر سؤلها من جديد، تحركت الأوراق في همس لطيف ورقيق، بدأت تعزف في حفيف شجي امتزج بنواح الأمطار «لقد انتظرنك طويلا يا راندا، تعلمين جيدا ما تكتبين، فأنت مثل الأزهار، والأشجار، والفراشات الرقيقة، مثل الطيور المهاجرة، التى لم تعد تجد أنفاسها في هذه الارض المليئة بالتلوث، الإحساس المرهف الجميل، يتأثر بكل هذه السموم المحيطة بنا ويموت، رويدا، رويدا ، أنت لم تفقدي الكلمات والحروف التى تحركيها بين أناملك الصغيرة، إنما افتقدت الحس الطبيعي الأخضر،والإلهام الذي ترتشفينه من أوراق الشجر، وتغريد الطيور وترانيم الزهر، أنت تفتقدين النفس الأزرق السماوي، الذي يلهمك الصفاء، وروعة التغريد مع العصافير، وخيال التحليق مع الفراشات، تفتقدين أقلام قوس قزح الزهراء التي تكتبين بها بدل الحبر الأسود المشجون،تفتقدين حس الدجي الرنين، تفتقدين الأمان الذي أصبحنا نفتقده جميعا، لا أعتقد أنه سيطول سؤلك أكثر، تحركي بين الحشائش، بين زهور البنفسج الحزينة، انصتي الى ترانيمها عندها فقط،ستدركين الجواب».
التفتت راندا، يمينا وشمالا، تحاول معرفة مصدر الصوت، دون أن تجد له منبعًا، لكنها فهمت الحروف، وأدركت الجواب، بدأت النسمات تتلاشى وهي تحدق في الفراغ تحاول أن تنصت الى السؤال من جديد، وهو يتحول الى أصداء وذبذبات تغوص في أعماق الفراغ، و قد اختلطت بصوت الرياح، و حفيف الأوراق، وعزف الأمطار، فتراكمت الصور من جديد، تبعثر في الأشياء وكأنها تعود إليها ومعها نقطة البداية.
 

قصة فاتحة درابني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق