عندما يُحكم على العمال بالإقامة الجبرية

لكن الانتخابات والزيارات الملكية تبقى الأكثر إطاحة برؤوس العمال والولاة وكبار مسؤولي الأقاليم.
الورقة التالية ترصد حالات عديدة ممن تمردت عليهم السلطة، وحولتهم من حكام إلى محكومين بالإقامة الجبرية، وأصبحوا يعيشون حياة جديدة بعيدا عن الهواجس ومسؤليات التي سكنتهم.
منذ بداية التاريخ الإسلامي ظل الولاة عيون الخليفة في مناطقهم، وكان انتقاؤهم يتم عبر معايير أبرزها الشدة والحزم في الظروف التي تقتضي ذلك، واللين والتسامح والرحمة في المواقف التي تفرض ذلك، واقتضت إدارة الدولة الإسلامية تدبيرا يراعي معطى الشدة واللين.
وكان عمر بن الخطاب أول من اهتم بالتنظيم الترابي للدولة الإسلامية، بعد أن امتدت الفتوحات الإسلامية في عهده إلى أبعد المناطق، ففصل السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية، وأكد استقلال القضاء، كما اهتم بأمر الأقاليم، ووطد العلاقة بين العاصمة المركزية والولاة والعمال في أجزاء الدولة الإسلامية.
تقول الكتابات التاريخية إن عمر كان صارما مع عمال الدولة الإسلامية، وكان يوصيهم خيرا بأهالي الأقاليم. يقول الطبري إن عمر بن الخطاب خطب الناس يوم الجمعة فقال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، إني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، وأن يقسموا فيهم فيئهم، وأن يعدلوا، فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إلي»، ويضيف أن الفاروق ظل على اتصال مباشر مع ولاته، في زمن كان فيه من الصعب جدا التواصل بين أقرب الناس إليك، فأحرى واليا في إقليم يبعد بآلاف الكيلومترات عن عاصمة الدولة الإسلامية.
حتى في عهد أشهر الولاة، الحجاج بن يوسف الثقفي، ظل هذا الأخير يضع على مقر حكمه كتابا عليه وصية الخليفة عبد الملك بن مروان «أوصي بأهل الأمصار خيرا فإنهم حياة المال، وغيظ العدو، وردء المسلمين، وأن يقسم بينهم فيئهم بالعدل، وألا يحمل من عندهم فضل إلا بطيب أنفسهم». ويعتبر الحجاج بن يوسف أشهر ولاة التاريخ الإسلامي، إذ عين زهاء عامين واليا على الحجاز، ثم عينه الخليفة واليا على العراق، وكانت الأمور في العراق بالغة الفوضى والاضطراب، تحتاج إلى من يعيد الأمن والاستقرار، بعد أن اشتدت معارضتهم للدولة، وازداد خطر الخوارج، وقويت شكوتهم بعد أن عجز الولاة عن كبح جماحهم.
كان الوالي يغني عن الوزراء، فهو لا يحتاج إلى قرار من السلطة المركزية لاتخاذ قرار مهما كانت خطورته، إلا أن الحساب كان بالخواتم، إذ أن حركة الولاة تتم وفق مدى قدرة الوالي على التوسع وكسب المعارك، أما أحوال الناس فهي ليست أولوية في ذلك الزمن، وغالبا ما تكون الهزيمة في معركة ضد المعارضين سببا لإقالة الولاة. في مغرب ما قبل الحماية، كان المخزن يعتمد على عنصرين أساسيين لضمان استمراريته وكينونته، الجيش والقواد كجهاز إداري، وفي قلب هذا النسق، كان السلطان يحتل مكانة محورية لأن الخروج عن طاعة السلطان «يسخط الله ويرضي الشيطان»، وتجسدت سلطات القواد، على حد تعبير عبد الله العروي، في كتابه «البوادي المغربية قبل الاستعمار»، في استمداد السلطة الشريفة، فيتصرف كزعيم زاوية كبرى، فضلا عن مهام دينية حيث يتقدم الفقهاء والعلماء ويوجههم، ناهيك عن المهام العسكرية، إذ يصبح قائدا عسكريا.
ومع مرور السنوات أصبح العمال والولاة مصنفين كخدام للقصر مرتبطين مباشرة بشخص السلطان، الذي كان يجمعهم بين الفينة والأخرى في المشور ليقدم لهم تعليماته باعتبارهم خلفاء السلطان في مناطقهم، على غرار الوزراء الذين يساعدون السلطان عن قرب. وكان سلاطين المغرب يخرجون بين الفينة والأخرى في زيارات إلى الأهالي وهم يذكرون عمالهم بالوصية السلطانية: «إني لم أستعملكم على أشعارهم ولا على أبشارهم، وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بالعدل»، وحسب «الاستقصاء» للناصري فإن السلطان كان يقتص من عماله ويؤنبهم، بل كان أحيانا يفصل بين العامل والمواطن، «فإذا شكا إليه عامل له جمع بينه وبين من شكاه».
ومع مرور الأيام أصبحت الإدارة الترابية الهاجس الأول للسلطة المركزية، لاسيما في ظل التوسع الديمغرافي، وتختلف طريقة تعيين الولاة بين الراحل الحسن الثاني والملك محمد السادس، فبينما راهن الأول على حسن السيرة والسلوك وخدمة المخزن، اختار محمد السادس الرهان على قدرة ممثليه في مختلف المناطق على «ركوب قطار التنمية»، والعمل الميداني بدلا من سياسة التقارير المرفوعة إلى المركز.
وفي عهد المرحوم الحسن الثاني كان أوفقير وراء التعيينات والإقالات، ليس فقط للعمال بل لجميع المسؤولين رفيعي المستوى، قبل أن يمسك أقوى وزير للداخلية في عهده، إدريس البصري، بملف العمال والولاة، فهو من كان يقترح لائحتهم التي يكتفي الملك بتزكيتها أو إبداء ملاحظات حولها، كما أنه أول من يملك صلاحية إعفاء العامل أو الوالي إذا تبين أنه لا يسير على سكة الداخلية، ولا يعطي اهتماما كبيرا للجوانب الاستخباراتية.
جرت العادة أن يقترح وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، أسماء ثلاثة أشخاص على الملك، على أن يقوم هذا الأخير بانتقاء واحد منهم بناء على سيرته الذاتية والتقارير المنجزة حوله من طرف مجموعة من الأجهزة، إذ بمجرد توصل القصر باللائحة الأولية تشرع هذه الأجهزة في تحرياتها حول كل اسم دون أن تبدي أي رأي. وحين ينتقي الملك العمال والولاة ويحدد مراكز عملهم يتم استقبال «المنعم» عليهم بهذه المناصب بشكل رسمي من أجل تسلم ظهير التعيين وفق طقوس مخزنية عريقة، لكن في حالة الإعفاء
أو الإقالة فإن العمال والولاة غالبا ما يتسلمون القرار التأديبي سرا.
لكن في عهد الملك محمد السادس، تغيرت الأمور ولم يعد وزير الداخلية هو الوصي الأول والأخير على شؤون العمال والولاة، بل تحول الملف إلى رئاسة الحكومة، بل إن الدستور المغربي ينص بصريح العبارة على التعيين الملكي لهذه الفئة بعد أن تعد لائحة من طرف رئيس الحكومة، إذ أن أول قرار ترابي اتخذه الملك محمد السادس كان ليلة رأس السنة (31 دجنبر1999)، حين أزاح عدة عمال وعين آخرين، لكن بواسطة برقية وبلاغ عممته وكالة المغرب العربي للأنباء على الرأي العام. وبدون استقبال أو طقوس مخزنية. رغم ذلك ظل الملك يعتمد على مستشاريه في تعيين «عمال صاحب الجلالة»، فيما ركزت الاستقبالات الرسمية على تعيينات استثنائية، كما حصل حين استقبل الولاة السبع الذين عينهم في صيف 2001، ولما استقبل ادريس بنهيمة ومحمد الظريف، إذ أعفى الأول من ولاية الدار البيضاء وعين الثاني خلفا له.
وفي التعيين كما في العزل والإحالة على «مستودع» الداخلية، ظل الملك محمد السادس يعتمد على مجموعة من مستشاريه المقربين، الذين شكلوا قوى اقتراحية في السراء والضراء، على غرار أندري أزولاي، زوليخة نصري، رشدي الشرايبي ومزيان بلفقيه، بينما لم يبق للداخلية إلا دور تقريري، ناهيك عن تدخل «هادئ» لأقرب مستشاري الملك. لكن للأمانة فإن ملف العمال والولاة كان بيد الراحل مزيان بلفقيه الذي لطالما اقترح أسماء على رأس مجموعة من العمالات، بل كان راعيا رسميا لمجموعة من الأسماء التي عاشت تحت مظلته.
ورغم المظلة التي يملكها كل عامل أو وال، فإن الجولات التي يقوم بها الملك محمد السادس عبر التراب الوطني، هي الكفيلة بمنح الرضى والاستحقاق لهذا المسؤول دون سواه، إذ كان يقف ميدانيا على نقط القوة والضعف وينصت إلى شكايات المواطنين، وهو ما جعل كثيرا من زياراته تنتهي بقرارات عزل، لأن عامل الثقة لم يعد ضامنا لاستمرار العامل على كرسي المنطقة الترابية، بل ظهر عنصر آخر وهو المواكبة الميدانية للمشاريع والقرب من انشغالات المواطنين، ومدى القدرة على إطفاء حرائق الاحتجاجات.

حسن البصري نشر في المساء يوم 15 – 04 – 2013

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق