إبداع قصصي بتيزنيت بعنوان “رحــيــــل غـُــربــــة كــــاتــــب”

غربة

“رحــيــــل غـُــربــــة كــــاتــــب”

كانت تبدو هزيلة شاحبة الوجه ,تغتصب الابتسامة تأملا في تكسير الجليد الذي يدور بينهما ,خاف أن يكون قد تراجعت ,سألته إن كان يود أن يشرب شيئا ثم بدأت بالحديث,قالت له :أتمنى أن تسمعني لقد تغيرت,لا أخفيك أني لم استطع التوقف عن التفكير فيك طوال الأشهر الماضية وأنا هنا أطلب منك المسامحة, التفكير في إمكانية عودتنا معا كما كنا من قبل.

كان يستمع إليها وكل شيء في داخله يرقد مما سيسفر عنه اللقاء المؤجل,بدأت تستخدم ما تستطيع من الوسائل لاستمالته وتحريك عواطفه وتهييج مشاعره ,اقترحت عليه أن تعود إليه لفترة من الزمن حتى يتأكد مرة ثانية من مشاعرها نحوه ,اقتربت بكرسيها منه,حاولت الالتصاق به, أمسكت بيده, استنفر كل جسمه ومشاعره للدفاع عما تريد, تمالك نفسه وتصنـّع الهدوء وأجابها متحدثا بلطف : كنت أعتقد منذ جلوسك المتصنع بجانبي انك تغيرت شيئا ما,وأننا نلتقي هنا لنبحث عن الحلول أو”كـُل واحـَدْ فـِينا يـْشـَدْ طـْريـقُ” قبل أن يردف, يجب أن تعلمي أنني عندما رحلت بعيدا عنك تركت ذكرياتي ورائي,تركت كل ما أملك ورحلت بلا عودة, دون أن أمعن التفكير في  غربتي المدبرة, حسبت نفسي أنك عليّ محتضنة ووفية,بينما كنتِ طوال النهار ومعظم أوقات الليل بعيدة عني ,أنا لم أجن منك شيئا,فلو كنت أعلم أنني تركت بلدي وأهلي فقط من أجل السفر إليك, لما سفرت, ولكنني عندما أردت أن أقع فيك,كنت أريد كما يريد الجميع مثلي أن تمنحيني الصحبة والدفئة والطمأنينة ,أيامي معك أغفلتني فلم تمنحن سوى الأوهام ,أريد وقبل فوات الأوان أن أخرج من حياتك  المزيـّفة فلا تتأخري في الابتعاد عني ,كأننا لم نلتقي  في ذلك الوقت أو المكان.

ونجح في جعلها متأكدة من أنه مصمم على الفراق.

بدأت لهجتها تأخذ منحى آخر ,وعلامات التشنج والعصبية تزحف إلى وجهها ,وأخيرا تطرقت إلى الموضوع الذي انتظره طويلا ,وابتسم في داخله متمتما,ها قد حان وقت المساومة بيننا.

وجد نفسه بصدد تلك المعادلة الأخلاقية التي أوجبها المجتمع التنازل عن حقوقه مقابل حصوله على العودة لوطنه,أعاده تفكيره الأزلي إلى لحضة الواقع الذي لا مفر منه ,حين قالت بعصبية وهي تنفث سيجارتها : حسنا إذا مازلتَ مُصرا على المغادرة فأنا لدي شروطي  الخاصة:أجابها إجابة على الفور وبدون تفكير، لك ما تريدين .

ألا تسمعها أولا قبل أن تجيب بالإيجاب,أولا, قضية الضرب والإيذاء يجب التخلي عنه فورا وقبل أن تأخذ حكما من المحكمة.ثانيا التنازل عن المنزل وكل ما يستحق لك من حقوق .ثالثا,منحي مبلغا ماليا حتى يتمكن لي التعايش مع رجل آخر أحسن منك. رابعا,شراء منزل لي على نفقتك فوضعي لا يسمح لي أن أتحمل تكاليف العيش في منزلك الأول,لدا سأتركه للطبخ ونشر غسيل الليالي الحمراء مع أصدقائي وصديقاتي  والمنزل الجديد للنوم وصباغة الأظافر وإعداد السهرات.

قبل شروطها العجزية وهـَمّ بالدخول لقاعة المحاكمة

وهو يحمل علبة مجوهراتها الذهبية التي كان قد اشتراها إياها أيام العز في داخل حقيبته لتسليمها لها كما وعدها,شاهد صفا طويلا من  أمثاله يقفون في انتظار دورهم للحصول على العودة لوطنهم الأم.

كان المنظر بالنسبة له مثيرا للعواطف,ليس بسبب خصوصيات الحكايات والمآسي لرجال ساقتهم الأقدار إلى… لكي يقفوا في المحاكم,فقد فقدت هذه الخصوصية قدسيتها في هذه القاعة,وتحولت إلى بضاعة معروضة للبيع أمام أعين الجميع ,ولكن لأنه شعر بأنه أمام حفل تنكري مليئا بالكذب والاصطناع ,فالمنظر بأمته يوحي وكأنه طابور من البشر داخل ملعب لكرة القدم لمتابعة مقابلة ما أو احتجاج في شوارع كبرى.

سلمها العلبة وانضم بعدها إلى الطابور وهو مذهول من المنظر المأساوي الذي يقف في وسطه, استلقت عيناه على رجل التصق بزوجته خائفا من جبروتها كانت تتكلم بعصبية والرداد يتطاير من فمها ليهبط على وجهه الذي صار دموعا فوق خديه ,وبكلمات متسارعة وكأنها في سباق مع الزمن كانت تساومه من أجل التنازل عن حقوقه مقابل إطلاق سراحه وعودته إلى وطنه الحبيب ,كانت تخشى أن تتقدم الطابور ,وتصل إلى القاضي دون أن تتوصل إلى مرادها ,ولما خرجت امرأة أخرى عن الطابور بسرعة مفاجئة يتبعها زوجها محاولا رغبته في إهدائها  وهي تولول وتصرخ في وجهه غاضبة ” زِيد قـُدامي حتى لـْدار عاد غـَنـْتـْفـَهـَم مْعاك بْشي كـَلـْخة دْيال لـَعـْصا”.

أخذ الطابور يتقدم ببطء إلى أن وصل منصة المرافعة,جلس إليها رجلا يرتدي بذلة سوداء وعلى يمين بدلته شارة خضراء وعيناه معلقتان بملفات ضخمة مرتبة أمامه ودون أن ينظر إليهما بادرهما بصوت عال وكأنه أستاذ يخاطب تلاميذه:هل اتفقتما على كل شيء ؟وبصوت خافت ومترددا أجاب الاثنان معا وفي وقت واحد كطفلين مؤدبين,نعم, وعلام اتفقتما ؟ قالها بلهجة توحي بالاستعجال دون الحث على الصلح وإصلاح ذات البين بينهما,وهو ما جعلها تميل إليه وتتمتم في أذنيه ببعض الكلمات دون مراعاة حرمة الذي ما زال يقاسمها,بعدها سمعه يقول لها :آه إذن خلعة ,نظر إليها وقال: مادا يقصد بالخلعة :أجابه القاضي وقد سمع سؤاله ,الإبراء:أي أنك تنازلت عن جميع حقوقك وسلمت لها كل ما تملك مقابل…

وهكذا قضت المحكمة تحت رضاه,حصل على حريته ,عندما افترقا أخذ يترقبها وهي تبتعد عنه شيئا فشيئا حتى تلاشت من أمامه وتلاشت أيضا معها صورتها الباهتة,فاختفت فجأة وأخذ يتنفس بعمق بعدما التقط الهواء وعانق…أرض الوطن مستحضرا ما يتداوله كل متغرب في صمت وحسرة “المتغـِرّب كائن محسود ماديا,مجهول عائليا,مقهور إعلاميا,مرهق جسديا,مدمر نفسيا,يتصل أسبوعيا وأحيانا يوميا,مشتت فكريا,وسيصبح مع مرور الزمن مختل عقليا.

 

عبد المغيث عيوش

كاتب روائي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق