أعقل الناس أعذرهم للناس

الحمداوي

محمد الحمداوي يكتب : أعقل الناس أعذرهم للناس

من نفائس ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: “أعقل الناس أعذرهم للناس”. ولعلنا نتفق جميعا من حيث المبدأ مع مضامين هذه القولة، لكن الغالب أن تفكيرنا يذهب عادة إلى أنها تعني الآخرين عند التنازع وهم الذين يجب أن يكونوا أعذر للناس. ولعل السبب في ذلك هو شيوع ثقافة دفع كل تهمة عن النفس وتحميلها للآخر في كل ما يقع من تفريط أو سوء تفاهم. وهكذا يسود تبادل اللوم بين المختلفين عوض المبادرة الإيجابية التي تدفع في اتجاه المسارعة في البحث عن الحل.

وبالرجوع للهدي النبوي نجده يعلمنا أن نبدأ بأنفسنا قبل الآخر، وأن نتعوذ بالله من أن نظلم أو نزل كما جاء في الحديث الشريف عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ” ولك أن تتأمل أن ذلك كلما خرج من البيت، بمعنى أنه سلوك وثقافة وليس قرار لحظة أو يوم، وأن الذي يفعل ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وميز أحد العلماء بين مجالات الضلال والظلم والجهل الواردة في الحديث فقال كما في  شرح سنن الترمذي: إن الإنسان إذا خرج من منزله لا بد أن يعاشر الناس ويزاول الأمر فيخاف أن يعدل عن الصراط المستقيم، فإما أن يكون في أمر الدين فلا يخلو من أن يَضل أو يُضَل، وإما أن يكون في أمر الدنيا فإما بسبب جريان المعاملة معهم بأن يَظلم أو يُظلَم، وإما بسبب الاختلاط والمصاحبة فإما أن يَجهَل أو يُجهَل. ”

ولذلك فالعدول عن الصراط المستقيم وارد أن يصدر من الإنسان بنفس الاحتمال الذي يجعله يصدر من الآخرين ومثله الظلم والجهل، ومتى حصل الاقتناع بذلك تيسرت سبل محاصرة سوء الفهم والخلاف وربما التنازع والتظالم إذا عمل كل طرف على ألا يكتفي بتوجيه اللوم للآخرين وتبرئة نفسه بالمطلق.

وبالعودة للأثر السابق المروي عن عمر بن الخطاب، فهل، في الحالة التي يعتبر فيها الإنسان أن الإساءة وقعت عليه، بإمكانه أن يجد عذرا واحدا للمسيئ ولا أقول سبعين عذرا، كما في الأثر المروي عن جعفر الصادق رضي الله عنه قال: إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذرا واحدا إلى سبعين عذرا، فإن أصبته، وإلا، قل لعل له عذرا لا أعرفه.”

وعليه فسيكون بالفعل “أعقل الناس أعذرهم للناس” الذي يختار التغاضي والصفح بدل الخيارات الأخرى التي قد تدخله في متاهات البحث عن المساندين، ومتاعب حشد المؤيدين ومساوئ التأليب والتحريض ضد المخالفين.

وفي النهاية فهذه أخلاق راقية ومستويات عالية من التجرد تتطلب قدرا كبيرا من المجاهدة لتمثلها في الحالات التي تعترضنا من سوء التفاهم أو الاختلاف، وحسبنا أن نتواصى باستنباتها في تربة التنظيمات والمجموعات، ونتعاون على رعايتها وتثمينها وحمايتها بكل معاني الأخوة والمحبة حتى تكبر وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وتعم بذلك معاني الآيات الكريمة: ” وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ “.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق