حسن طارق : باها صداقة في السياسة والمصير

hassan-tarik

يأتي في موعده بالضبط . بلا جلبة ولا ضحيجٍ . يُطل بخجل على قاعة الاجتماعات، ويفهم أن اللجنة لم تنه بعد عملها مع زميله وزير العدل . يعود إلى الخلف بنصف ابتسامة راضية. يلتحق به الرئيس عبد اللطيف وهبي، معتذرا. لكنه يعرف كيف يجعل مُحاوره لا يشعر بأدنى إحساس بالحرج.

يستريح فوق الأرائك الحمراء المُتعبة، موزعا بكل كرم على جلسائه الكثير من الطمأنينة والبشاشة، ثم يلتحق بالقاعة «المغربية»، فيبدو من نظرات عينيه الذكيتين، سعيدا بالعودة إلى اللجنة البرلمانية التي سبق له أن ترأسها، لكنه هذه المرة، يعود بقبعة أخرى، يعود وهو وزير للدولة في حكومة التناوب الثاني، كمُكلف بالدفاع عن مشروع القانون التنظيمي للحكومة.

 لا يعرف كيف يُزخرف كلماته، لذلك تأتي لغته مطبوعة بلكنة الأم الأمازيغية، واضحة ومُباشرة، عميقة ونافذة.

يجيد الإنصات والاستماع. وبذكاء وهدوء لافتين يعبر عن رأيه. يحرص على وضع الأمور في سياقاتها التاريخية، ويدعو مُحاوريه إلى استدعاء الذاكرة وعقد المقارنات. في كل تحاليله يعطي الانطباع بأن يتحدث من مكان عميق في القلب والعقل في الآن ذاته، دون أن يُخطئ في أية لحظة هدفه الأقصى: الإصلاح، الإصلاح الذي ليس ثورة ولا قطيعة، الإصلاح الذي ليس حقيقة حزبية مغلقة على أوهامها، الإصلاح الذي ليس بطولة فردية ممتلئة بالأنانيات؛ بل الإصلاح كجهد جماعي مبني على التّدرج والتوافق والتعاون وذكاء الحلول الوسطى والحكمة.

الحكمة، عنده، هي بالضبط، النقيض الموضوعي للشعبوية، للمزايدات، للاستفزاز. هي المرادف المُطابق للتواضع، التواضع أمام التاريخ الذي لم يبدأ مع 2011، ولن ينتهي بنهاية الولاية الحكومية. الحكمة التي لا تعني بالضرورة الأفكار السّهلة ولا المواقف التلقائية. الحكمة التي تعني التفكير في المستقبل وليس فقط، في أقرب محطة للانتخابات.

داخل اللجنة، سيكون علينا كبعض نواب المعارضة، التكيف مع صوت خافِت ومختلف، صوت يبسط حججه بلا ادعاء ولا استعلاء، صوت لا يختبئ وراء الكلمات المستعملة، صوت ينسج كلماته الخاصة كما لو كان ينحتها لأول مرة، لذلك سنضطر إلى البحث عن نبرة أخرى للتواصل وللحوار. جلسة بعد أخرى، سنكتشف قليلا أو كثيرا حكمة الرّجل، وأمام ذهول بعض الزملاء من فريق العدالة والتنمية (بوانو عبدالله، أمينة ماء العينين، مصطفى الإدريسي..)، ستختفي الكثير من تدخلاتنا الهجومية والشراسة، بل إن بعض زملائنا المذكورين سيعتبرون – في أحاديث جانبية – بشيء من المُزاح أن كاتب هذه السطور، مقرر القانون التظيمي المذكور، ورئيس اللجنة الصديق المشاكس الأستاذ وهبي، قد سقطا-كلاهما- للتّو في «سحر» الرّجل!

سيمر النقاش العام والتفصيلي للقانون سريعا وممتعا، وسيكون خلاله الوزير الراحل متجاوبا أشد ما يكون التجاوب مع الاقتراحات سواء قدمت من الأغلبية أو من المعارضة، رغم اختلافاتنا في أمور أساسية ذات علاقة بين السلطة والمال وبتضارب المصالح، ثم سَيُحال النّص على الجلسة العامة، حيث ستقرر فرق المعارضة التصويت بالموافقة على المشروع، غير أن هذا الموقف سيتغير في الأخير، على ضوء تدخل قويٍ في حق المعارضة للنائب الصديق سليمان العمراني، بمناسبة مناقشته للمشروع باسم فريق العدالة والتنمية.

بعد جلسة التصويت مباشرة، سنلتقي، في بهو المجلس، نحن الثلاثة: الأستاذ وهبي، وكاتب هذا العمود، والوزير الرّاحل عبدالله باها، وسيعبر لنا بالرغم من تدخلاتنا الحادة، خلال الجلسة العامة، وتصويتنا غير الإيجابي عن سعادته البالغة بمستوى النقاش الذي رافق هذا القانون.

 استعدت صوراً من هذا العبور الاستثنائي للرّاحل، في لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، تحت ذهول الفاجعة، في مكان الحادث الأليم، وفي مهابة الجنازة وطقوس العزاء، وفي حضرة كلمات الاعتراف والوفاء، وأنا لا أكاد أصدق الواقع الذي انتصر على أكثر خيالاتنا جموحاً، أن يموت السي عبد الله باها، في نفس مكان موت السّي أحمد الزايدي، في ذات «أحد» الأحزان، دون أن يكمل الشهر أيامه المعدودة !

كأنه اختار أن يلخص كل مساره الحافل في هذه الدنيا الفانية، بين صداقتين: صداقة في السياسة والحركة والحياة، وصداقة في القدر والمصير والأحزان!

لم نكن في السياسة نقف على الضفة نفسها، ولم ننتم إلى الأفق نفسه، لكنني كنت أحفظ للرّجل الكثير من الود والتقدير، ودوما كنت أشعر بأنه صادق في آرائه وأفكاره وقناعاته.

أجل، مات عبدالله باها، مات الأمازيغي البسيط، الذي يمشي في الأسواق. مات وزير الدولة الذي يصلي الفجر في مسجد الحي. وبقي صاحبه في السياسة والحياة، الأستاذ عبدالإله بنكيران يبحث عن سِرّ الحكمة التي  دبّرها له القدر: أن يبقى وحيداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق