هكذا تستقبل أحياء «المهمشين» باحثي الإحصاء بمطالب السكن والدعم المالي

الإحصاء ...

«قيمة بلادنا سكانها»، هو الشعار الذي اختارته المندوبية السامية للتخطيط لعملية الإحصاء العام للسكان والسكنى، فوضعت أسئلة تروم اختراق تفاصيل عيش المواطن المغربي. «المساء» رافقت مجموعة من الباحثين بمدينة سيدي سليمان، ورصدت سير عملية الإحصاء في مناطق قروية وأحياء صفيحية، لتنقل لكم آمال «المهمشين» من عملية يقول المندوب السامي للتخطيط إنها تروم معرفة حقيقة المغرب.
«واش غادي تعطيونا شي مانضة؟»، يسأل محمد، شيخ في حوالي السبعين من عمره، باحث الإحصاء (ادريس)، الذي طرق باب الأسرة القاطنة بدوار «ولاد بنداود» بإقليم سيدي سليمان، لملء استمارة أسئلة الإحصاء العام للسكان والسكنى. مطالب السكان متعددة، وعلى رأسها سؤالهم عن الدعم المالي، الذي لا يجد له الباحثون من جواب إلا عبارات من قبيل: «الإحصاء لا علاقة له بأي دعم».
كانت درجة الحرارة تقارب الـ40، لكن الباحث واصل عمله لتسريع إحصاء أسر الجُزَيرات (المساكن) التي كلف بها. أخذ ادريس مكانه أمام بوابة المنزل، ووقف الرجل السبعيني ذو القامة الطويلة، وهو يمعن النظر في استمارة الأسئلة. طلب الباحث الاستعانة بحفيدة الشيخ، التي هرولت نحو بوابة المنزل، لتبدأ في سرد المعطيات المتعلقة بأسرتها ونمط العيش في هذه المنطقة التي لا تبعد عن العاصمة الرباط إلا بحوالي 90 كيلومترا.
داخل المناطق القروية، تأخذ عملية الإحصاء طابعا خاصا، فعلاوة على حفاوة الاستقبال التي يحظى بها المراقبون والباحثون، حيث توفر عدد من الأسر وجبات لفائدتهم، فإن العملية تتسم بشيء من التعقد داخل الجزيرات، لارتفاع عدد أفراد الأسر، وتداخل المساكن التي يتم بناؤها بشكل عشوائي، شأنها في ذلك شأن بعض الأحياء الصفيحية التي زارتها «المساء».
حقيقة المغرب
مع انطلاق عملية الإحصاء، انتشرت بعض الإشاعات كالنار في الهشيم، بين من يدعي أن الحكومة ستحصي المواطنين للاستفادة من السكن، وبين من يزعم بأنها ستمنح دعما مباشرا للأسر الفقيرة. لكن شيئا من ذلك لن يحصل في علاقة مباشرة بالإحصاء، فأحمد لحليمي، أكد، أن الهدف الأساسي من هذه العملية هو «معرفة حقيقة المغرب».
جواب تؤكده نوعية الأسئلة التي تتضمنها استمارات الإحصاء، بدءا من تحديد أعداد الأسر وأفرادها، ووصولا إلى نسب الخصوبة في صفوف النساء غير المتزوجات والعازبات أيضا، ونوعية السكن ومدى توفر السكان على قنوات الصرف الصحي والماء الصالح للشرب والتيار الكهربائي، ووسائل التنقل، ومدى التوفر على وسائل الاتصال.
«إيلا بغيتو المعقول، راه ماعندناش الضوء»، قالها محمد مخاطبا الباحث بنبرة جادة، تختزل إلحاحه على إيصال صوته وواقعه لمن يهندسون لتنمية مناطق المملكة. لكن حفيدة الرجل سرعان ما تدخلت، مخاطبة الباحث الذي انتبه إلى الصوت الصادر من جهاز التلفزيون: «أحد الجيران قام بتزويد منزلنا بالتيار الكهربائي، لكننا لا نتوفر على عداد».
هنا طمأن الباحث حفيدة الرجل بأن التوفر على خيط كهربائي أو حتى «سرقته» أو غير ذلك من الأمور لا يهمه كباحث، بل الأهم هو توفر الأسرة على عداد للكهرباء والماء أو عدم وجودهما، وهو المعطى الذي يعتمد عليه في تحديد الإجابة على سؤال وجود الماء والكهرباء من عدمه.
«إذا دخلنا في بعض التفاصيل حول ما إذا كان الكهرباء الموجود بالمنزل تتم الاستفادة منه بطريقة قانونية أم لا، فإننا سنتسبب في مشاداة مع الساكنة، وبالتالي نخلق مشاكل نحن في غنى عنها، فالجواب على سؤال الكهرباء يكمن في توفر الأسرة على عداد التيار الكهربائي أو غيابه»، يوضح الباحث ادريس لـ «المساء».
الحياة في هذا الدوار، الذي لا يبعد عن المنطقة الحضرية إلا ببضعة كيلومترات، لا تبدو يسيرة وإن كانت أفضل بكثير من المناطق النائية في جبال الأطلس المتوسط والكبير، وغيرها من النقط الجغرافية التي تتسم بقساوة العيش. بيد أن الباحث في هذه المنطقة، والعارف بخباياها، قد لا يضطر لطرح بعض الأسئلة التي سيجد لها جوابا مشتركا على لسان جميع السكان، من قبيل الربط بقنوات الصرف الصحي. «راه كولشي ماعندوش الواد الحار»، يضيف محمد معلقا على سؤال الباحث.
معاناة مشتركة
تركنا إدريس منهمكا في إحصاء سكان الدوار، وانتقلنا صوب المجال الحضري، وبالضبط إلى حي السوق القديم، أحد أقدم الأحياء الصفيحية بالمغرب، حيث يقدر السكان عمر الحي بحوالي 50 سنة. هنا تأخذ عملية الإحصاء شكلا آخر من المعاناة، قد يحتاج معها الباحثون إلى أطباء نفسيين، لتجاوز الإحساس بالبؤس وما يقفون عليه من مآسي اجتماعية، كلما طرقوا باب إحدى الأسر.
دخلنا الحي عبر قنطرة توشك على الانهيار، ولا أحد من المسؤولين كلف نفسه عناء التحرك لتفادي الكارثة. أطفال الحي اتخذوا من مزبلة مجاورة لأكواخهم مكانا للهو، غير آبهين لأقدامهم الحافية، ولا لأجسام بعضهم شبه العارية. رحل «أغنياء» الحي، بعدما تمكنوا من تسديد نفقات الحصول على بقعة منحتها الدولة للمستفيدين من عملية إعادة الإيواء، وبقي آخرون ينتظرون الفرج.
الإحصاء في هذا الحي أصبح أمرا روتينيا، حيث توالت عشرات اللجان لاحتساب «السكان الأصليين»، الذين سيستفيدون من عملية إعادة الإيواء، دون أن يتمكن عدد كبير منهم من تحقيق حلمهم في الحصول على سكن لائق، بعيدا عن حر فصل الصيف، وموجات البرد التي تقض مضجع أهالي السوق القديم، حيث يجاور السكان وادي «بهت».
ولعل أبرز الملاحظات التي لامسناها في جولتنا مع باحث الإحصاء، هي معدلات الخصوبة المرتفعة بين نساء الحي، فهناك أسر لها 10 أطفال يقتسمون فضاء العيش الذين لا يتجاوز في أغلب الحالات غرفة واحدة وبهوا صغيرا. وفي المقابل تصل نسبة الهدر المدرسي مستويات قياسية، فباستثناء بعض أبناء الحي الذين استطاعوا أن يواصلوا دراستهم، فإن كثيرا من الحالات التي وقفنا عليها لم تتجاوز مستوى السادس ابتدائي.
مرحاض في الطبيعة
تحدد استمارة الإحصاء العام للسكان والسكنى عددا من الأسئلة التي تروم معرفة التجهيزات المتوفرة داخل بيوت المغاربة. وإذا كان الكثيرون استغربوا لطرح باحثي الإحصاء سؤال التوفر على مرحاض وحمام في المنزل، فإن الأمر يصبح ذا معنى في عدد من الأحياء التي لا يتوفر المقيمون بداخلها حتى على حيز يتسع لعشرات الأفراد الذين يتكدسون داخل غرفة نوم واحدة.
«ليس لنا مرحاض، بل نقضي حاجتنا في الطبيعة، وإذا أردنا الاستحمام فإننا نتوجه للحمام التقليدي»، توضح خديجة، إحدى نساء الحي، في ردها على سؤال الباحث، قبل أن تتدخل سيدة في حوالي الأربعين من عمرها، هامسة في أذنها تنبيها إلى ضرورة الكشف عن تفاصيل معاناتها، فهناك اعتقاد بين سكان الحي أن شيئا سارا يلوح في الأفق، بعد تحرك الدولة لإحصائهم.
«واش كاين شي مغربي كايعيش فبيت واحد مع 12 ديال النفوس»، تصرخ خديجة، التي تقيم في حي السوق القديم منذ حوالي 35 سنة. تلح هذه السيدة على ولوجنا للمنزل، لنشهد على حقيقة عيشها رفقة أبنائها، وهي تردد بحرقة عميقة: «اللهم إن هذا منكر».
تابعت خديجة حديثها عن الوضعية الاجتماعية التي تعيشها ساكنة الحي، وتشبثت بتدوين بعض التفاصيل في استمارة الإحصاء، أملا في فضح معاناة السكان. «هذا المسكن سينهار في أي وقت، وأغلب أطفالي لا يدرسون، ونعيش في حيز جد ضيق، إضافة إلى أن الساكنة تجاور مزبلة ولا تتوفر على قنوات الصرف الصحي»، قبل أن تضيف بغضب كبير: «أكتب أولدي راحنا ماعايشينش».
خصوبة العازبات !
أسئلة الخصوبة والزواج لها مكانها في استمارة الإحصاء. ويعرف المتزوج، حسب المفهوم المعتمد، بكل شخص عقد قرانه ولم يتم زفافه. وهذا هو الحال بالنسبة للأشخاص الذين يصرحون بأنهم مخطوبون، حيث يجب اعتبارهم متزوجين إذا أبرموا عقد الزواج، وإلا يجب توضيح وضعهم الحقيقي، كعزاب إذا لم يسبق لهم الزواج قط، أو مطلقين إذا سبق لهم الزواج وتطلقوا بعد ذلك، أو أرامل في حالة وفاة الزوج أو الزوجة. ولا يعتبر مطلقا إلا الشخص الذي يتوفر على حكم عن طريق المحكمة أو وثيقة طلاق، وإلا فسيعتبر متزوجا.
أما سؤال الخصوبة فيهتم بمجموع الذين ازدادوا أحياء خلال 12 شهرا الأخيرة، أي ما بين شتنبر 2013 و31 غشت 2014، مصنفين حسب الجنس، بالنسبة للنساء غير العازبات اللواتي يقل سنهن عن 55 سنة. وتوضح المندوبية أن كل الأسئلة حول الخصوبة هي غير ذات موضوع للعازبين من الذكور والعازبات من الإناث. فكيف سيتعامل باحثو الإحصاء مع حالات الأمهات العازبات؟
جواب المندوبية يقول إنه بالنسبة للأمهات العازبات، إذا صرحن تلقائيا بالمعلومات الخاصة بجزء الخصوبة، فعلى الباحث تسجيل هذه المعلومات، إذ من شأن هذه المعطيات الإحصائية أن تمنح صورة عن واقع عيش هذه الفئة من النساء.
لكن مصادر داخل «حي السوق القديم» بسيدي سليمان، قالت إن بعض الأمهات العازبات، القاطنات في هذا الحي، وأيضا في أحد الأحياء المجاورة المسمى «أولاد مالك»، يفضلن اللجوء لأجوبة تحايلية حتى لا يتم تدوينهن كأمهات عازبات. «قهرتونا بالإحصاء»، قالتها إحداهن بعدما انتبهت إلى أحد الباحثين وهو يطرق باب إحدى الأسر.
خبايا عيش المغاربة
عدد من الأسئلة المطروحة في عملية الإحصاء لن تجد خلفياتها إلا في الدليل المقدم للمشاركين في العملية. هذا الدليل، الذي حصلت «المساء» على نسخة منه، يضع أولا جملة من الشروط التي يجب على الباحث التقيد بها، ومنها التقدم للأسر بمظهر لائق، حاملا بطاقة الباحث حتى يكسب ثقتهم.
وعلى الباحث أن يتقدم إلى رب الأسرة أو من ينوب عنه ويشرح له بإيجاز الهدف من زيارته وذلك بتقديم نبذة مختصرة عن أهداف الإحصاء وأهمية المعطيات المستقاة في تدبير الشأن العام انطلاقا من معرفة واقعية لظروف معيشة وسكن أسر المملكة.
ومن الأسئلة المهمة المطروحة في الاستمارات هي تلك المرتبطة بالنشاط الاقتصادي. وهكذا فيعتبر نشيطا مشتغلا كل شخص، سنه يعادل أو يفوق 7 سنوات مارس خلال 7 أيام التي سبقت تاريخ استجواب الأسر نشاطا، لمدة ساعة على الأقل، لحسابه الخاص أو لحساب شخص آخر، أو زاول عملا ذا صبغة اقتصادية يسعى من ورائه إلى المساهمة في توفير ما تستهلكه أسرته.
ويدخل ضمن السكان النشيطين، الأشخاص الذين يتوفرون على شغل ولم يزاولوه، لأسباب ظرفية غالبا ما تكون إرادية ويعتزمون مواصلته، والأشخاص الغائبون عن عملهم لأسباب خارجة عن إرادتهم لمدة تقل عن شهرين، والذين لهم ارتباط قطعي بعملهم وينوون استئنافه، والأشخاص الذين هم في طور تعلم مهنة ما عند «معلم» منتج السلع والخدمات، إذا كانوا يساهمون في الإنتاج.
وهكذا، فإن كل الأشخاص الذين صرحوا تلقائيا أنهم لا يتوفرون على شغل، ولا يبحثون عن عمل لكنهم مارسوا أشغالا ذات صبغة اقتصادية غير الأشغال المنزلية وصيانة المسكن لمدة لا تقل عن الساعة خلال 7 أيام السابقة لتاريخ إجراء الاستجواب مع الأسرة يعتبرون كذلك نشيطين مشتغلين.
وبخصوص السكن، فإن المندوبية وضعت أسئلة بشأن نوعية المواد الأساسية المستعملة في بناء الجدران والسقف وتغطية أرضية المسكن. وهكذا فبالنسبة للجدران تم وضع اختيارات منها الإسمنت المسلح، والحجر المكتل بالطين، والتابية أو الطوب المصنوع من الطين، والخشب أو القصدير أو الأعشاب وغير ذلك.
كما يتم طرح أسئلة بشأن المواد المستعملة في سقف المنزل، وتغطية أرضية المسكن، باستعمال مواد كالزليج أو الموزاييك والرخام، أو تحديد ما إذا كانت أرضية المنزل عارية أو مصنوعة من الطين وما شابهه.
وفي السياق ذاته، وجب تحديد صفات الحيازة للمسكن، المتمثلة في: ملاك أو ملاك مشترك، في طريق التملك، مكتري برهن، مكتري بدون رهن، مسكن وظفي، ساكن مجانا وحالات أخرى. وعلاوة على الأسئلة المتعلقة بالمسكن، فهناك أسئلة تتعلق بمصدر الإنارة والماء، والمسافة الفاصلة بين المسكن ونقطة التزود بالماء.
ووضعت مندوبية لحليمي أسئلة تتعلق بطريقة تصريف المياه المستعملة، إما عن طريق شبكة عمومية للصرف الصحي، أو ما أسمته بـ»حفرة صحية»، أو في الطبيعة وغير ذلك من الأسئلة التي تضعها أيضا عدد من المنظمات الدولية كمعايير محددة لتقارير التنمية البشرية.

المهدي السجاري عن المساء
العدد :2473 – 09/09/2014

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق