الإحصاء في المدن… أبواب المجهول وسط جزر وهمية 

الإحصاء 2

إحصاء السكان والسكنى في الوسط الحضري، مختلف تماما عن العملية ذاتها بالبوادي، ففي المدينةتقسم الأحياء إلى “جزر” تضم عشرات العمارات التي يتولى الباحث طرق أبواب شققها واحدة بعد أخرى، وهي عملية يشبهها الباحثون بطرق أبواب المجهول وتوقع أشد المساوئ. “الصباح” تأخذكم في جولة تحولت فيها باحثة إلى طبيبة نفسانية تستمع إلى مآسي الزوجات. 

“هل تعرف طرق أبواب المجهول؟ هذا بالضبط ما أقوم به منذ ثلاثة أيام، فعندما أطرق باب شقة أو بيت، أتوقع أسوأ رد فعل من قاطنيها”، الكلام هنا ل”إيمان”، شابة بيضاوية، مشاركة في الإحصاء العام للسكان والسكنى، الذي انطلق في بداية هذا الأسبوع، باحثة ميدانية، أي مكلفة باستجماع المعلومات من الأسر والعائلات والمحلات التجارية.
التجربة التي تمر منها “إيمان” هذه الأيام، خليط من الأحاسيس المختلفة بتنوع ردود أفعال المواطنين وأرباب الأسر، الذين تلتقيهم أمام أبواب بيوتهم تارة، وخلفها في أحايين أخرى، قصد استجوابهم والحصول على معلومات حول أوضاعهم الاجتماعية والمادية والديمغرافية، وبالتحديد، حول الهجرة وصعوبات ممارسة الحياة اليومية، والخصوبة والتعيلم واللغات المتداولة والنشاط المهني ووسائل التنقل إلى العمل، والتجهيزات المتوفرة ببيوتهم.
جزيرة يحدها خط وهمي !
عشية الأربعاء 3 شتنبر 2014، في زاوية وسط شارع الزيراوي بالدار البيضاء، غير بعيد عن ثانوية “ليوطي”، تقف “إيمان”، شابة من البيضاء في ال28 من عمرها، قصيرة القامة، وفوق صدرها، تتدلى شارة بلاستيكية شفافة، وداخلها بطاقة عليها صورتها، في الجانب الأيسر، وتحتها اسمها الشخصي والعائلي، ورقمها، ومعلومات من قبيل “مقاطعة سيدي بليوط”، دلالة على القطاع الترابي الذي انتدبت من أجل إحصاء جزء من سكانه ومساكنه. إنها تقف هنا من أجل أخذ نفس، وجرعة ماء، ومراجعة استمارات من لون أزرق فاتح، مكتوب عليها أسئلة وأمامها أجوبة السكان، وعلامات وملاحظات دونتها الشابة المجازة من شعبة القانون العام، وتقول من وراء نظارة شمسية “آه.. الحمد لله، مر نصف دوام العمل، أو أكثر بقليل، وبيدي 14 استمارة جاهزة حتى أسلمها للمراقب، إنه معدل جيد مقارنة بما هو مطلوب منا، كباحثين، عن كل يوم”.
بالنسبة إلى هذه الشابة، التي تشارك في الإحصاء لأول مرة، باحثة معتمدة بالوسط الحضري، من قبل المندوبية السامية للتخطيط ووزارة الداخلية، فهي ملزمة مساء كل يوم، بإرجاع عدد من الاستمارات إلى مراكز الإحصاء، يتراوح بين 14 و17 استمارة، عن طريق تسليمها إلى المراقب، الذي تشتغل تحت إمرته، هي وإثنان من رفاقها.
بعد أن تقوم إيمان بعد الاستمارات التي انتهت منها، وتدون الحصيلة على دفتر رسمي، برتقالي اللون، ويعرف ب”دفتر الجولة”، تستأنف المشي بين الأزقة، بحماس ظاهر، وهي في كامل أناقتها المعتادة، فتحكي لمرافقها، عن برنامج عملها اليومي، منذ انطلاق العملية.
“نظريا، علي الشروع في طرق الأبواب ابتداء من التاسعة صباحا، غير أنني وجدت في اليوم الأول، صعوبات في ذلك، فالجزيرة، التي كلفت بها، وككل المدن، خلال أيام العطلة السنوية، لا تستفيق فيها ربات البيوت باكرا، ووجدت حرجا في مواصلة إيقاظ الناس، لذلك، ومنذ اليوم الثاني، لا أبدأ إلا كلما اقترب عقرب الساعة من العاشرة صباحا”.
هذا شارع وسط العاصمة الاقتصادية للبلاد، فعن أي جزيرة تتحدث إيمان؟ إنها تقصد أن الحي السكني الواحد، يقسم في الخريطة إلى قطاعات ترابية، تضم عشرات العمارات والمنازل، فيسمى القطاع جزيرة، يكلف كل باحث بإحصاء سكانه وسكناه، أما “جزيرة” إيمان، فهي تقع على تراب مقاطعة سيدي بليوط، “يحدها شمالا الشارع “أ”، وجنوبا الزنقة “ب”، وشرقا المحل الخدماتي، وغربا خط وهمي”.
“أتوقع أشد ردود الفعل سوءا”
تواصل إيمان جولتها، غير أنه بالمرور أمام مرفق يقدم خدمات اجتماعية لمواطنين يستقرون فيه بشكل دائم، تتفادى طرق أبوابه، لأن “هؤلاء في حكم المحصيين كلا على حدة”، تقول الباحثة، أي أنه خارج اختصاصها، تماما كأي متشرد، قد تصادفه الباحثة بأحد أزقة “جزيرتها”، لأن السلطات، حسب إيمان، “ستقوم بجمعهم في أمكنة محددة ليتم إحصاؤهم”.
أثناء طرق إيمان أحد الأبواب، يباغتها مرافقها بسؤال “ماذا يخالج شعورك أثناء طرق البيوت والشقق؟”، يأتي جوابها واضحا “هل تعرف طرق أبواب المجهول؟ هذا بالضبط ما أقوم به منذ ثلاثة أيام، فعندما أطرق باب شقة أو بيت، أتوقع أسوأ رد فعل من قاطنيها”.
هذا الجواب، يقود إلى سؤال آخر، هو أن إيمان باعتبارها أنثى، قد يحدث أن تصادف بيتا يكتريه عزاب، وهو أمر تؤكد، أنه أثناء التكوين الذي خضعت له قبل انطلاق الإحصاء، وكانت مدته 10 أيام، كان من بين المشاركات من طرحت مسألة التعرض للتحرش الجنسي، فكان “هناك توجيه للباحثات، باتخاذ الاحتياطات اللازمة، وعدم الولوج إلى الداخل لحظة تبين أن هناك مخاطر، أو استدعاء المراقب للحضور، أو باحثا من الذكور”.
إيمان، العاطلة عن العمل، ترى أن مشاركتها في الإحصاء، كانت وراءها في الأصل “رغبة ذاتية في خوض تجربة لا تتكرر إلا بعد مضي 10 سنوات”، زيادة على التحفيز المادي، “فعشرة أيام من التكوين تلقيت عنها 170 درهما في اليوم، أما المرحلة الحالية، وتصل مدتها 22 يوما، فأستلقى عنها 200 درهم أجرة يومية”، مما يجعل من مجموع المبالغ التي ستتلقاها هذه الباحثة ستة آلاف درهم.
طرائف ومواقف
الحديث إلى أرباب أسر من فئة الشباب والمتعلمين، يسهل من مأمورية إيمان، ويجعل العملية أكثر سلاسة، و”الاستمارة الواحدة لا تأخذ من وقتي إلا 20 دقيقة”، لكنها في أحايين أخرى، حسب الفتاة التي تقترب من الثلاثين، “تأخذ وقتا أكثر مع كبار السن، ومع النساء”.
فخلال اليومين الماضيين، “تحولت في أكثر من مرة إلى طبيبة نفسانية أو عاملة في مركز استماع إلى النساء، فهذه تحدثني عن مشاكلها مع زوجها، وتلك تحكي عن مآس صحية لأحد أبنائها، أخرى، تصر على أن نجلس إلى مائدة، وتناول الشاي، لتحكي لي كيف التقت بزوجها في أول يوم”.
عمل إيمان، التي سمحت لمرافقها بمعاينة عملية استجوابها لعدد من الأسر، في القطاع الترابي الحضري الذي كلفت بإحصائه، شرط عدم تسجيل أدنى معطى يتعلق بالمعلومات التي تدلي بها الأسر أو نشرها في الجريدة، تكتسيه صعوبات كثيرة، تتطلب استثمار القدرات الشخصية في التعامل، فهناك مثلا حالة ذلك الرجل، الذي كان يجيب على أسئلتها بأخرى، فحينما سألته “فاش خدام؟”، كان جوابه “علاش؟”، كما أن هناك آخربن دخلوا معها في نقاش حول الجدوى من الإحصاء، مادامت أحوالهم هي نفسها منذ آخر إحصاء.
وبحكم أن القطاع الذي تحصيه إيمان، تعيش فيه أسر، بعضها كانت في الأصل تقطن بالمدينة العتيقة، وبدور آيلة للسقوط، فهي تحكي أن أبرز عائق أمامها في اليوم الأول، “أنني صادفت الكثيرين ممن يفتحون لي أبواب بيوتهم، غير أنهم يرفضون إحصاءهم، بمبرر أن سكنهم الأصلي في المدينة القديمة، وخضوعهم للإحصاء يجب أن يتم هناك”، أما السبب وراء هذا التبرير، فتقول إيمان “إنهم يعتقدون أنه في حال إحصائهم هنا لن يستفيدوا من إعادة إسكانهم، ويريدون أن تتم العملية وهم في بيوتهم العشوائية الأصلية داخل المدينة القديمة”.
قبل ترك إيمان، بعد ساعتين من التجوال معها في أزقة جزيرتها، حيث لم تتمكن من إحصاء الكثيرين بحكم وجودهم في أعمالهم، وتكتفي بتمرير “توصيل” تحت أبواب بيوتهم تخبرهم فيه أنها زارتهم، وتعلمهم بعودتها في تاريخ لاحق، قالت إن لديها رسالة، تريدها أن تصل إلى أكبر عدد من الناس، فتقول “بغيت الناس إعرفو، أن عملية الإحصاء التي أقوم بها، والمعلومات التي سيدلون بها، لن تكون وراءها تبعات قانونية ضدهم أكانت ضريبة أو غيرها.. وفي الأيام الأولى نتفادى اللجوء إلى ما يتيحه القانون ضد من يرفض التعاون معنا، لأن أسرنا وأقاربنا أيضا، كانت لديهم الهواجس التي يتعفف بها الناس من المشاركة في الإحصاء”.
 

 نشر في الصباح يوم 07 – 09 – 2014

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق