«شوّر».. أنت في المدينة القديمة! 

أمل تيزنيت

مثلما يحدث تماما، في أفلام الليل في الأحياء الخلفية لنيويورك، يتحول ليل المدينة القديمة إلى مغامرة حقيقية. هل تريد أن تكتشف نفسك، أن تلتقي بشباب آخر، أن تسمع لغة جديدة غير مألوفة لسمعك «الطيب المرهف»، تعال سيادتك المنمق، وانزل عشرات الأمتار إلى أمعاء هذه المدينة، كي تجرب نفسك، وتختبر «رجولتك»، وتعرف جيدا في أي مكان تعيش وفي أي مغرب. 
إنه ليس «مغربا آخر»، مغرب مثقفين وكلام سياسيين، ونقاط نظام، وحتى ترهات برلمانيين، وبعض من سلاطة وزراء أو من «قاعيتهم». هنا القاع عميق، والإبحار متاح، ولا حاجة إلى جواز سفر.
هنا تتعلم في الجغرافيا المكتظة، التي تفيض بزحامها وروائحها وبشرها وكرمهم وحبهم، وبغضهم، وما يملكونه وما لا يملكونه؛ هنا قوة الشباب وسواعده، فائضة عن الحاجة، تزجي نفسها في الليل بالألعاب الخطرة وتجريب الفزع، حتى لم تبق للفزع حدود ولا ضوابط، ولم يعد من الممكن في مغرب آخر إلا انتظار الفرصة السانحة للهروب في جوف محرك باخرة راسية في الميناء أو الانتقال إلى عالم الميتافيزيقا بكمشة حبوب إكستازي، أو التدروش قليلا في اللحية الفارقة واللباس المتطرف ومنح النصح عنوة، فماضي الفتوة يعود مثل لمح البصر، والكل يعرف من يكون الفتى ومن يكون أبوه.
لا ضير في ممارسة الرياضة الذهنية، وبيع أعشاب الفحولة أو عود الأراك أو الأشرطة التي تدعو إلى الطريق القويم أو تلك التي تستنهض الهمم، أو «التجارة».. هنا كلمة السر هي «التجارة»، وعليك أن تفسرها، اِبحث عنها في المعاجم أو في ما شئت، إنها التجارة الخفيفة بلا «باتونت»، التجارة في أقل من موقع القدمين، وهل سهل عليك أن تجد موقعا لقدميك في المدينة القديمة؟!
هنا، وفي هذا المكان بالذات، لا يمكن أن تفر بجلدك، أنت رهينة المكان وجزء منه، وخرائطه وشم على الأكتاف وفي الأذرع.. لست هنا، في النهاية، إلا واحدا وجمعا في الآن نفسه.
لا سر في المدينة القديمة، الحمد لله، كل شيء مفشى؛ وما تفعله بالأسرار هنا؟ وكيف يمكنك أن تحملها بين جنبيك، في ضيق الزقاق؟ لذلك، لا مجال أمامك إلا أن تتعرى، أن تخرج ليلا ونهارا كما ولدتك أمك، لتحاور أبناء الدرب، لتبني عشيرتك التي ترتبط بميثاق سري كبير، لا يفهمه من خارج السور.
الذي يعيش خارج السور، شخص مرتبك، مشكاك، مشيته مختلة في الزقاق، متوجس من مدية أو ضربة مفاجئة، لكن الأمان عليك «لا تفعل ما يضير، ولا تخف»، حتى في الزحمة الشديدة، وفي اللغة المتقعرة، وبين قذائف المعاني مترامية الأطراف، والتي تمر فوق الرؤوس، وتسقط على الغافلين، لا أحد يقتحكم حميميتك في الضيق الكبير، في «حشر المدينة القديمة».
هل أخذت دشا. بالصحة! الكل يعرف أنك جامعت زوجتك قبل أن تخرج إلى رأس الدرب. اللفافة التي تناولت «حرتوكة»، الكل يعرف ذلك من خطواتك المقلوبة. إيه، إيه، ما هذا العطر الفواح؟ الكل يعلم أنك انتشيت قليلا، لكن يا ليتك تستبدل المشروب بالذي هو أحسن!!
لا تفتعل يا رجل، وحتى لو ذهبت إلى الطاليان أو المريكان، فأنت هو هو، ولد أمي موينة، الله يرحمها، كبرنا في حجرها.
وتا مالك آعشيري، را واخا الكات كات، راك تا عارف وأنا عارف.. لا مجال، لا مجال، للسير مثل بِطْريق في دروب المدينة القديمة، قد تتزحلق ب»جلفة ديال البنان» وتمشي فيها. شوّر، وكن من عباد الرحمان الذين يسيرون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.
هنا تلتقط أذنيك من مكبر صوت بائع الأشرطة: هؤلاء الكفرة المجرمون…
لا عليك، يمكن أن تذهب في طريقك، لن يعترضك أحد، لا تخف يا رجل، هنا لا تحتاج إلى الديمقراطية ولا إلى تسالي البرلمان.. ما تحتاجه هنا هو الأخوة… أنت أخونا، ونحن أبناء الليل، مُرّ، مُرّ، ولا ترتعد من الوشوم، إنها وسم ليس إلا!!!
 

نشر في المساء يوم 04 – 06 – 2014

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق